Poesía y Pensamiento: Estudios en Literatura y Filosofía
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Géneros
إن الشعر الحديث يعبر عن عذاب الإنسان وضياع حريته في عالم تتحكم فيه الآلات والساعات والمشروعات الكبرى، وتفجعه الحروب والكوارث التي لا تنقطع، وتحيله في ظل الثورة الصناعية المتجددة إلى كائن صغير ضئيل. إن أجهزته وآلاته تشهد على قوته وضعفه، وتتوجه وتخلعه عن العرش. ولا شك أن هناك صلة قوية بين هذه التجارب التي يعانيها الإنسان وبين بعض خصائص الشعر الحديث. فالانطلاق إلى عالم اللاواقع، والبعد بالخيال الجامح عن كل ما هو مألوف، والشغف بالرموز والأسرار الخفية، و«تعقيل» اللغة إلى أقصى حد يمكن أن تكون كلها محاولات من جانب النفس الحديثة للمحافظة على حريتها في مواجهة عالم يتحكم فيه المال والآلة، وإنقاذ سر العالم ومعجزة الخلق في زمن يلهث وراء السرعة والمنفعة.
ولكن إذا كان الشعر يعلن احتجاجه على هذا العصر، فهو من ناحية أخرى يتأثر به وينطبع بطابعه. فالشاعر الحديث ميال إلى التجريب والمحاولة، دقيق في صنعته دقة العالم في معمله، والرياضي مع رموزه وأرقامه، متأثر بروح العصر في صلابته وبروده وقسوته. إنه يشكل تلك القصيدة المركبة التي تمتزج فيها الصور الشعرية القديمة - كالنجوم والبحار والرياح - بصور الحضارة الآلية واصطلاحات العلماء المتخصصين. فشاعر مثل «جوفيه» يقول في إحدى قصائده: «أرى بقعة غليظة من زيت الآلة، وأتفكر طويلا في دم أمي». وشاعر آخر مثل «كاردريللي» يشبه ساعة الموت بلحظات الانتظار تحت ساعة المحطة، حيث يحصي الإنسان الدقائق والثواني. وأشعار إليوت وبن وسان - جون - بيرس تزدحم بالتفاصيل العملية والفنية، ومع ذلك تظل محتفظة بصدقها وشاعريتها. على أننا إذا كنا نلاحظ هذا كله، ونقرر وجوده، فلا ينبغي أن نتجاهل خطره. فقد تؤدي المبالغة في هذا الاتجاه - وبخاصة لدى شعراء لا يملكون الموهبة الكافية والثقافة الحقة، والقدرة على الرؤية الشاملة - إلى أن يقضي الشعر على نفسه بنفسه، ويستسلم لهذه النزعة العامة المدمرة التي تزداد ضراوة كل يوم، وكأن الإنسان لا يسعى إلى شيء كما يسعى إلى تفجير الكرة الأرضية في الهواء.
مهما يكن الأمر، فإنه إذا كان الشاعر الحديث قد قطع صلته بالتراث، فقد فتح قلبه وعقله على جميع الآداب والديانات، وراح يغوص في أعماق النفس البشرية، ويلتقط الصور والرموز السحرية والأسطورية التي عرفتها مختلف الشعوب في آسيا وأفريقيا وأوروبا. ونحن نلاحظ هذا بالفعل في أشعار «رامبو» قبل أن يكتشف «فرويد» اللاشعور أو يكتب «يونج» نظرياته عن اللاشعور الجمعي أو النماذج الرئيسية.
وهناك عديد من النصوص في الشعر الحديث تتردد فيها أصداء أسطورية وشعبية من كافة الأمم والعصور. فشعر سان - جون - بيرس مثلا يزدحم بإشارات عديدة إلى الرسم القديم، والأساطير الغابرة، وأماكن العبادة عند مختلف الشعوب، و«وازارا باوند» يورد في قصائده نصوصا من الشعر البروفنسالي والإيطالي والإغريقي والصيني والمصري القديم (برسومها الأصلية في بعض الأحيان). وقصيدة إليوت المشهورة «الأرض الخراب» تقتبس من مرجع كبير عن الشعوب البدائية كالغصن الذهبي لفريزر، كما تستفيد من الكتاب المقدس والأوبا نيشاد، وتورد نصوصا عديدة من أشعار بودلير ومالارميه وشيكسبير وأوفيد ودانتي وكتابات القديس أوغسطين. ويحس الشاعر فيما يبدو كأن قصيدته قد أصبحت كالدغل الكثيف، فيتولى التعليق عليها بنفسه. ويصبح هذا تقليدا يحتذيه شاعر إيطالي مثل «مونتاله» أو إسباني مثل «دييجو».
ولكن لا يصح أن تخدعنا هذه الاقتباسات العديدة من النصوص القديمة. فهي لا تدل على ارتباط حقيقي بالتراث، ولا بعصر من العصور الماضية. إن الشاعر يمد يده إلى هذه النصوص والإشارات ويأخذها حيثما اتفق الأمر؛ لأنها أصبحت بالنسبة إليه بقايا ماض تمزق وفقد وحدته. إنه لا يعود إلى الرموز والأساطير ليمجد عصرا، أو يبعث زمنا مضى، وإنما يسوي بينها كما يسوي بين الأشياء التي يستمدها من عالم الواقع، ويضعها إلى جوار بعضها، أو يمزج بينها كيفما شاء هواه. ربما يكون هدفه من ذلك أن يزيدنا إحساسا بتمزق قصيدته أو عدم تماسكها، كتمزق الواقع نفسه، أو ربما يريد أن يلبس أقنعة مختلفة للتعبير عن حالة ضياع واحدة، أو يخلق بهذه الكلمات والرموز القديمة نوعا من سحر الأنغام والصور يضفي على شعره روعة وبهاء، والدليل على ذلك أنه لا يضع هذه الرموز والصور والنصوص المقتبسة في عصرها، ولا يوردها بحسب ترتيبها التاريخي، بل يخلطها بكلمات وشعارات وصور أخرى من العالم الحديث.
والواقع أن من حق الشعر أن يطوف في مختلف البلاد والعصور كما يشاء، ما دام يفعل ذلك للشدو والغناء لا لتقرير حقيقة أو إثبات دليل. وإذا سمعنا شاعرا مثل «جوتفريد بن» (1886-1956م) يقول في قصيدته «أنا ضائعة»:
أنا ضائعة، تفجرت من الغلاف الهوائي،
ضجة الأيون: أشعة جاما - لام -
جزئي ومجال أوهام لا نهاية،
على حجرك المعتم من نوتردام.
Página desconocida