ولهم في الطب أمثال أيضا منها قولهم: «البذرة التي لا تعرف فيها، بالنار داويها.»
وكذلك يقولون في الاقتصاد: «على قدر بساطك مد رجليك.» ولهم في السياسة مثل يوهمك أنهم يكرهون السياسة مع أنهم غارقون فيها إلى آذانهم، قالوا: «الداخل بالسياسة مثل الداخل بتنكة الكناسة.»
والأمثال منها ما هو وليد الاختبار، ومنها ما هو وليد الوجدان والعواطف، ومنها ما هو وليد التمرد والحرمان. فهذا القروي الذي وصفته لك كادا جاهدا نفسه، لا تنس أن فيه روحا عاتية، يفكر كما يفكر حكامه، وإذا أكره وأثير، استحالت فأسه ومنجله ومسحاته ورفشه ومنخس ثيرانه عتادا حربية، يضحي ببنيه وثيرانه وكل ما يملك إذا ما استفزه البغي والظلم.
والفلاح - على بساطته - هو الذي يسقط الحكام، ويقوض العروش حين تستحيل منجل حصاده سيفا، وعباءته درعا وترسا، يهاجم الموت وهو يردد المثل القائل له: «مت ابن ... ولا تعش حزينا.»
فهو يقول لك حين يكون راضيا عن حكامه، أو ساخطا ولا تواتيه فرصة الفتك: «لا سلطة إلا من الله، وحاكمك وربك.» كما يستعين بالدهاء فيقول: «اليد التي لا تقدر أن تعضها بوسها وادع عليها بالكسر.» وعندما تأتي الساعة الملائمة يندفع كالنهر الجارف وعلى لسانه: «عيشة بالذل أنا ما أريدها.» حتى إذا ما ظفر بذاك الطاغية الذي كان يقول فيه: «لا سلطة إلا من الله»، يقول له بعد أن يسقط عن كرسيه أو يقتله: «على الباغي تدور الدوائر، ولا يحصد الإنسان إلا ما زرع.»
ثم يتنفش بعد هذا الفوز على ظالمه ويقول: «قالوا لعنتر: من عنترك؟ قال: ما لقيت حدا ردني.» نحن رددناه؛ لأن «الوعاء الذي لا يمتلي يكون معيوبا.»
أعتقد أن لبنان أغنى من غيره بالأمثال؛ وذاك لتشابك المدنيات فيه، بتواليها عليه، وبقدر ما تتشابك الحياة وتتعقد شئونها، يهب المثل من مكمنه ليعبر عنها، ويبقى رمزا إليها. إن القروي سياسي مطبوع، ولذلك قلما ترى قرية ليست منقسمة حزبين أو أحزابا. ولعل القروي، إذا ترك المحراث وقعد يستريح، يتحدث مع رفيقه عن السياسة العالمية على قدر ما يدرك منها، ثم يتطرق إلى المحلية منها. وهناك يجلي في ذلك المضمار، فهو ينتصر لرجل، وربما كان لا يعرفه، ولعل تحزبه له يكون نكاية بجاره أو بابن عمه أو أخيه، وكما يقول مثله: «من أخذ أمي صار عمي»، يقول أيضا: «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.» ولكن لا، فكثيرا ما نرى القروي ينتصر للغريب ويعادي حتى أخاه ليحقق القول: «البغض بين القرايب، والحسد بين الجيران.»
وهذه الحزبية القروية كثيرا ما سفكت دماء وزهقت أرواح بسببها؛ فالقروي عات جبار، إذا استفز صغر الموت في عينيه وقتل خصمه كما يقتل الحية. وللثأر عندهم مكانة عليا؛ ولهذا تزول الأحقاد بينهم في تلك الساعة وينتصرون لبعضهم ويقولون: «ابن عمك حمال دمك .» حتى إذا ما مرت تلك الفترة عادوا إلى عنعناتهم وتنافرهم وتباغضهم.
وحب الزعامة والرئاسة متأصل في القرية؛ ولذلك قسم أبناؤها الجماعة درجات: فلان يأخذ القهوة قبل فلان، وزيد يجلس فوق يد خالد، وإذا أخل أحد بهذا الترتيب، كانت العاقبة غير محمودة، وقد تؤدي إلى قتل من تجاوز حده ولم يقف عنده.
أما العيشة في القرية فمشتركة، فمن عنده يهدي إلى الذي ليس عنده، وقد تكون عند فقير فاكهة ليست عند أبناء قريته، فهو لا يحجم عن أن يهديهم شيئا من ثمارها فيأكلون متمثلين: «سنة مباركة ورزق جديد.»
Página desconocida