Shaytan Bantaur
شيطان بنتاءور: أو لبد لقمان وهدهد سليمان
Géneros
قال الهدهد: كان الغد، وجاء الأصيل، وآن الموعد، فأعملت جناحي أستقبل منفيس، فلما وصلتها قصدت دار العلم والفلسفة فيها فدخلتها، فرأيت الطلبة يخرجون من الدرس، وكانوا يستعدون له بالأمس، وقد أحاطت عصبة منهم بالنسر يماشونه ويلقون عليه الأسئلة شتى، ويأخذون من بحر علمه وروضة بيانه، فأشرفت على حلقتهم أخطف السمع، فسمعت أحدهم يقول للأستاذ: ما هي الفضيلة يا مولاي؟ قال: ترك الرذيلة. قال: وما الرذيلة؟ قال: هي جاران في دار: الجهل، والبطالة في الشباب.
وسأله آخر: علمتنا يا مولاي أن الراحة والسعادة كلتيهما في العمل، فدلني على عمل ألتمسهما فيه. قال: ابن من أنت؟ قال: ابن نجار في المدينة. قال: عليك بمنشار أبيك، فإن فيه الراحة والسعادة.
وسأله ثالث: بماذا تشقى هذه البلاد وبماذا تسعد يا مولاي؟ قال: بالنيل والثور وبالمحراث.
وألقى عليه رابع هذا السؤال: من العالم يا مولاي ومن الحكيم ومن الطبيب؟ قال: العالم من لا ينام، والحكيم من لا يطعم، والطبيب من لا يموت! قال: هذا هو المستحيل يا مولاي؛ فما تريد بهذه المبالغة؟ قال: أردت أن العالم من علم بالنهار وتعلم بالليل، والحكيم من زهد في هذه الدنيا وقنع منها بكسرة، والطبيب من ترك طبا يعيش به الناس بعد موته.
وسأله تلميذ آخر: ما هي الفلسفة يا مولاي؟ قال: هي احتقار الدنيا، ورحمة الناس. قال: وما فضلها؟ قال: تحول دون الهوى والغضب، وكلا هذين مذلة. قال: وكيف تؤخذ يا مولاي؟ قال: توجد في الطباع، ولا تؤخذ من الرقاع.
قال الهدهد: ثم أشار النسر إلى الطلبة أن ينفضوا من حوله، ففعلوا إلا اثنين من خاصة تلاميذه، ظلا يماشيانه وأنا أطير حيث يسيرون، حتى أخذوا إلى المدينة، وعندئذ وقعت فصرت فوق كتف الأستاذ، فلم يقف ولم يلتفت، لكن سمعته يقول لصاحبه: ما فاته درسي لا تفوته صحبتي، ومن صحبني فليصبر معي، ليس للعلم وطن، ولا للحكمة دار، بل العاقل من له على كل أرض مدرسة، وعلى كل طريق أستاذ، المدرسة تقيم العقل في طريق العلم ولا تتكفل بوصوله، كالمعبد يمد السريرة في الاعتقاد ولا يتكفل لها بكشف الغطاء، فرب عابد من نفسه وصل، ومتعلم من نفسه حصل، عرفت صنوف العلم فلم أر كالفلسفة يأخذها المرء من نفسه، ثم من حيث التفت فرأى، وكلما قيل له فسمع من حديث المتكلم إن صدقا وإن كذبا، وصموت الصامت إن بكامة وإن بكما، ونعيم المنعم وبؤس البئيس ، ومشية المستكبر، وهذيان المهوس، وعربدة السكران، ومن النمل في مشاغلها، والنحل في معاملها، والذر في مستثاره، والبرق في مستطاره، والزهر إقباله وإدباره، والفلك ليله ونهاره، والبحر مضطربه وقراره، ومن النفس إذا اعتلت وإذا صحت، وإذا طمعت وإذا قنعت، وإذا رغبت وإذا تسلت، وإذا جشأت وإذا اطمأنت، وإذا شكرت وإذا جحدت، ومن الطباع إذا امتحنت، والسرائر إذا بليت، والأهواء إذا اختبرت. مدارس لا يفرغ اللبيب منها، ودروس لا يصبر الحكيم عنها.
قال الهدهد: ففهمت أن النسر يعتذر، وأنه ينهى عن الكلام ويأمر بالسكوت، فامتثلت ولم أنبس.
ثم سرنا فمررنا في طريقنا على دار تشيد ويبالغ فيها ويوشك بنيانها أن يتم من زحمة الأيدي عليه؛ وكان ربها عندها بين غلمانه وأعوانه، وكان الأستاذ يعرفه، فاقترب منه وحياه، فرد التحية، فخاطبه النسر قائلا: لمن هذا القبر أيها السيد؟
قال: هذا قصر يا مولاي لا قبر!
قال: وجدنا آباءنا يؤبدون القبور لا الدور؛ لأنها مواطن القرار، ومنازلنا جميعا معاشر السفار، فعلام تظلم سنتهم، ولا تسير في الحكمة سيرتهم؟
Página desconocida