وكان بطنه ربما قرقر، فكان يضرب على بطنه بإصبعه، ويقول: قرقر ما تقرقر؛ فليس لك إلا الزيت حتى يحيا الناس.
ثم لم يكن يؤثر نفسه بهذه الشدة في تلك الأشهر، وإنما يراقب أهله وبنيه أشد المراقبة، ويحرج عليهم جهده في أن يؤثروا أنفسهم بشيء من اللين والناس من حولهم لا يجدون ما يطعمون، وكان يقول: نطعم ما أطاق بيت المال إطعام الناس، فإذا ضاق بذلك بيت المال أدخلنا على كل أهل بيت مثلهم فقاسموهم ما يأكلون؛ فإنهم لن يجوعوا على أنصاف بطونهم. ومعنى ذلك: أنه كان يريد أن يطعم الناس على حساب الدولة، فإذا لم يجد ما يقوتهم به في بيت المال وزعهم على بيوت الذين يجدون ما ينفقون، فعاشوا معهم وشاركوهم في طعامهم، فقليل الطعام يقيم الأود، وذلك خير من الجوع الذي يعرض الناس للهلكة.
ولم يكن عمر يقبل أن يشبع فريق من الناس ويجوع سائرهم، ومع ذلك فقد استطاع أن يخفف هذا الجهد على الناس بما كان يرسل إليه من الأقاليم، وإن لم يستطع أن يصد الموت عن كثير منهم، فقد وقع الموت في الأعراب الذين أحاطوا بالمدينة؛ فكان عمر يصلي على الموتى أفرادا وجماعات، وكان يشهد جنائزهم ويقوم على قبورهم.
وتستطيع أنت أن تقدر حياة عمر في تلك الأشهر بعد أن رأيت ما وصفت لك من يقظة ضميره، ومن إشفاقه على الناس، وعنايته بأمرهم، وتكلفه ما تكلف من الجهد في إطعامهم؛ فلا غرابة في أن يصبح كئيبا ويمسي كئيبا، ويبكي في غير موطن، ويدعو الله أن يرفع المحل عن الناس، ويقول الرواة: إن استسقى حين بلغ الجهد غايته، فلم يزد على أن دعا الله ودعا الناس معه، وصلى صلاة الاستسقاء. ويزعم الرواة أنه حين استسقى أخذ بيد العباس عم النبي وتوسل به إلى الله، وأنه لم يتم استسقاءه حتى أرسل الله الغيث.
وواضح أن هذا تكلف مصدره التملق لبني العباس أثناء حكمهم، والشيء الذي ليس فيه شك هو أن عمر استسقى كما استسقى النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأن الله أرسل الغيث بعد استسقاء عمر بوقت قصير أو طويل، ولما أنزل الله الغيث سري عن عمر، وجد في إخراج الأعراب من المدينة وردهم إلى بلادهم؛ ليستأنفوا حياتهم التي كانوا يحيونها قبل أن يمتحنهم الله بهذا البلاء.
4
وكان عمر شديدا على نفسه كل الشدة، وشديدا على غيره كل الشدة أيضا في مال المسلمين؛ فكان يحاسب نفسه أشد الحساب على ما يأخذ من مال المسلمين لنفقته ونفقة أهله، وكان يقول: إني أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة مال اليتيم، ثم يقرأ قول الله - عز وجل - من سورة النساء:
ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف .
وربما قال في موطن آخر: أنزلت هذا المال من نفسي منزلة مال اليتيم؛ إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف. وكان يشبه نفسه أحيانا برجل سافر مع جماعة من أصحابه، فدفعوا إليه أموالهم وكلفوه أن ينفق عليهم منها، فما ينبغي له أن يؤثر نفسه من دونهم بقليل أو كثير من هذا المال.
Página desconocida