وأكرهت نفسي أن تعدل عن حديث التاريخ والذكر والعيش والموت والفناء والبقاء إلى هذا المرأى الحي النضير؛ في هذه الصحراء ماء جار بجانب حرة يتوغل في أصول الشجر حتى يكل عنه البصر. شغلني هذا الجمال حينا ثم عدت أفكر، قلت: إن هذا الماء الذاهب سدى في هذه الأرض، لا يجد من يعنى به وينظر كيف ينتفع به، ولو وجد من يفكر ويعمل لكان له منافع، أيسرها أن يبنى له حوض كبير غير هذه البركة العتيقة ليسقى به زرع وشجر، ثم يروق بعضه ليستقي منه من يمر من الحجاج في الموسم، وكل من يمر به طول السنة. وليس محالا أن يبنى هناك فندق أو منزل يأوي إليه المسافر لينعم بالماء والظل والراحة والسكون، بعد العطش والضحا والتعب والجهد.
إنه أمر يسير ولكنا لا نفعل كل يسير. إن الأمريكان مهدوا الطريق الذي أدى بنا من جدة إلى هذه البركة؛ لأن لهم شركة تستخرج الذهب من مهد الذهب، وهذه البركة في طريقنا إلى المهد. ولكنا لم نمهد الطريق إلى المدينة وهو طريق الحاج من أقطار شتى، والمدينة أعز عندنا من ألف شركة. فليت شعري متى ندرك فنعزم فنعمل فنبلغ ما نريد! (انظر وصف البركة في الرحلات الثانية في الفصل من جدة إلى المدينة.)
الخميس 3 رجب/20 أبريل
مهد الذهب
قدمنا المهد؛ مهد الذهب البارحة فرأينا دورا مهندسة وطرقا معبدة قليلة بأعدادها كثيرة بحقائقها، صغيرة بأشكالها كبيرة بمعانيها. قرية صغيرة نشأت على سفح جبل من جبال الحجاز القاحلة، وأمدها العلم والعمل من النور والماء ووسائل الترويح والتدفئة والتبريد بما يكفل النعيم لسكانها.
ثم رأينا معدن الذهب وشاهدنا كيف تخرج الحجارة فتكسر فتسحق فتخلط بمواد تخلص الذهب من غيره. وأبصرنا كيف تتقلب المادة بين السيلان والجمود حتى تنتهي إلى طينة مسودة ربعها من الذهب وفيها من الفضة والنحاس والزنك. وعرفنا كيف تعمل الآلات في هذا عمل الفكر واليد.
ورأينا الآلات المكهربة الضخمة وآلات الترويح التي ترسل الهواء إلى طبقات المعدن. وهبطنا أربعمائة وخمسين قدما إلى طبقة من المعدن سرنا في سراديبها نرى عروق الذهب يتتبعها العمال فينحتونها ... وهلم جرا.
رأيت هذه الدور وهذه الآلات والعدد، فقلت: إنه العلم والخلق؛ العلم يكشف للإنسان المقصد والسبيل، والنظام يجمع العقول والأيدي على العمل، والعمل يمضي بالإنسان في سبيله، والعزم يثبته عليها . فإن جهل الإنسان فلم يعلم، أو علم ولم يعمل، أو عمل ولم يدأب، أو ثابر فلم يتعاون هو وغيره؛ انقطعت به السبل ولم يبلغ من العيش ما يشتهي.
الجمعة 4 رجب/21 أبريل
الشيوعية
Página desconocida