Shatharat Al-Dhahab: A Study in Quranic Rhetoric
شذرات الذهب دراسة في البلاغة القرآنية
Géneros
شذرات الذهب
دراسة في البلاغة القرآنية
إعداد
محمود توفيق محمد سعد
أستاذ البلاغة والنقد ورئيس القسم
في كلية اللغة العربية جامعة الأزهر الشريف
شبين الكوم
الطبعة الأولي١٤٢٢
الحقوق محفوظة للمؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله كما صليت على إبراهيم وعلىآل إبراهيم إنّك حميد مجيدٌ، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد
أمَّا بعد فهذه شذرات الذهب من معدن بيان لسان العربية عن معانى الهدى في بيان الوحي العَلِيِّ: القرآن الكريم، ومن البيِّن أنَّ بيان كل مُبِينٍ على مقدار علمه بما يُبِينُ عنه، وبمقدار اقتداره على الإبانة عنه، فانظر كم يكون كمال وجمال وجلال وإعجاز بيان الله ﷿ الذي وسع كلَّ شيءٍ علما، والذي هو على كلِّ شيء قدير
1 / 1
وهذه الدراسة إنما تعنى بفقه العربية في هذا الميدان العَلِىِّ من البيان: بيان الوحي القرآن الكريم، والدراسة العربية لأيِّ بيانٍ إنما هى التى لاتتخذ منهاجها إلا من واقع الأمة العربية حين كان ذلك البيان فيها؛ لأنَّ الله عز وعلا إنما خاطب العرب بالقرآن الكريم على ما تعرف العربُ من بيانها: مفردات ومنهج تراكيب وتصوير وتحبيروتغنٍّ، ودلالة ومدلولا، ولم يخاطبها بما تجهل البتة، أو بما يكون في بيان أمة أخرى غيرها، ولذلك قال الله تعالى:" وَلوْ جَعلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْحَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ " (فصلت: ٤٤)
فالدراسة التى تؤتى أكلها إنما هي الدراسة العربية المنسول منهاجها من واقع بيان العرب في عصر التنزيل الكريم، وليست التى تُفْتَنُ بمقولات أعجمية نبتت في غير ديارنا العربية المسلمة، فإن تلك المقولات، وإن كانت صالحة مصلحة ما في بيان قومها من الأعاجم فإنها ليست إلا عقيما في ديارنا لاتنتج إلا شؤمًا وإلباسًا وتعمية، ولساننا والحمد لله رب العالمين لسان عربي مبين، فكيف بعاقل يرغب عنه إلى لسان أعجمى بهيم.
ولست بزاعم أن طالب العلم ببيان الكتاب والسنة مصروف عن قراءة ما يتخذ من مناهج درس علوم اللسان الأعجمى، وماتنتجه عبقرياتهم في شتى العلوم، شريطة أن يقرأ ذلك كله بقلب عربي مسلم معتصم بعقيدة الإسلام وأخلاق الكتاب والسنة، فإن وجد ما لايتعاند مع عقيدتنا وآخلاق شريعتنا ومنهاج لساننا، وكان نافعا في فقه لساننا فله أن يسترشد ويستهدي، فإن الحكمة ضالة المسلم يبحث عنها ويقتنيها وبستثمرها فيما يزيده قربًا إلى ربه ﷻ.
1 / 2
وإن من النصيحة لكتاب الله تعالى أن تصرف العناية التامة والاجتهاد البليغ إلى إتقان فقه هذا البيان العَلىِّ، والمصابرة على الغوص في أعماق قاموسه المحيط، فإنك لن تجد فقيها بالكتاب والسنة إلا من فقهه عربية هذا البيان المعجز
وإذاما كان فقه الكتاب والسنة فريضة لازبة، فكذلك ما يكون الطريق إلي ذلك الفقه: العلم بلسان العربية وخصائص الإبانة فيه عن حقائق المعانى ودقائقها ولطائفها هوأيضًا فريضة لازمة لازبة على كل طالب علم بالكتاب والسنة.
ولهذا حرَصت هذه الدراسة العربية على أن تتخذ منهجا يتلبث قليلا عند الكلمات التى بُنِيَ منها هذا البيان العَلِىُّ المعجز وهي كلمات عربية، ليست من العجمة في شيء، فليس في القرآن الكريم كله كلمة أعجمية واحدة هي فيه على ما في أي لسان أعجمى
ما ظُنَّ أنه أعجمي في أصله كما جاء عن بعض أهل العلم، فإن بيان الوحي قد أعاد صياغته بما يوائم عربية البيان، وكأنَّ في هذا إشارةً إلى أن من كان أعجميًا واتخذ الإسلام دينًا فإنه يستحيل بهذا من أعجميته الفكرية والعقدية والبيانية إلى أن يكون عربيا مسلم الفكر والعقيدة والبيان.
تلبثت الدراسة عند بعض المفردات تنظر في صورها وصيغها ودلالاتها لعل في ذلك عونًاعلى حسن فقه معانىالتراكيب والصور.
وحرَصت على أن تتلبث قليلا عند بيان بعض الوجوه الإعرابية لتراكيب هذا البيان تنظر في العلاقات الإعرابية بين الكلمات في بناء الجمل، وفي العلاقات الإعرابية بين بعض الجمل، فإنَّ حسن فقه مواقع الكلمات والجمل وعلاقتها الإعرابية مفتاح عظيم من مفاتح فقه بيان الوحي: كتابا وسنة.
ثم كان لهذه الدراسة تلبثٌ مديدٌ في النظر في السَّمَاتِ البلاغية لهذا البيان، وحرصت على أن تمزج النظر في السمات البلاغية بالنظر في لطائف معانى الوحي، وما تفيض به تراكيب بيان الوحي من دقائق ولطائف معانى الهدى إلى الصراط المستقيم.
1 / 3
وقد رغبت في أن أجعل بين يدي هذه الدراسة العربية تمهيدًا رأيت أن في وقوف طالب العلم عليه عونًا له على حسن الوفاء ببعض حق العلم ببيان الوحي الكريم.
وجعلت مجال هذه الدراسة آيات من " التوبة" قائمة بمعانى التحريض على الجهاد في سبيل الله تعالى والنِّفار إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ذلك أن تثقيف طلاب العلم بثقافة الجهاد في سبيل الله تعالى أمرٌ لابدَّ من القيام به والإلحاح عليه كمثل إلحاح أخدان أبناء صهيون وعبدة الصليب على أن نبالغ في تلقين أبناء الأُمة ثقافة السلام: الاستسلام لإرادة " أبناءالعم سام"، فالسلام في معجم مفرداتهم إنما يعنى استسلام المسلمين لإرادتهم، وهو يعنى عندنا الاستسلام للحق الذي جاءت به شريعة الإسلام ليس إلا.
وإذا ماكان الله ﷿ يأمر رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بأن يحرض المؤمنين على القتال، فإن كثيرًا من أخدان الأعجمين يجعلون من" الجهاد " جريمة الجرائم التى لاتغتفر، هو عندهم الفريضة المحرمة،، ولكن ستبقى كلمة" الجهاد" قائمة في مصاحفنا وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وفي قلوبنا ما بقيت الحياة على الأرض.
هذه الأوراق القائمة بين يديك تسعى إلى أن تقيم في قلبك ولسانك عرفانًا بلسان العربية قائما في بيان الوحي الكريم، ولن تجد بيانًا يقيم درسه وتفقهه عرفانًا بلسان العربية مثلما أنت واجده في بيان الوحي الكريم.
وتسعى أيضًا إلى أن تقيم في قلبك وسلوكك استمساكًا وتخلقًا بتأديب الله ﷿ لنا وتثقيف قلوبنا بما يراه هو ﷻ خيرًا لنا في دنيانا وفي آخرتنا: في مسيرنا ومصيرنا.
ذلك أنى مؤمن إيمانًا راسخًا أن كل دراسة في القرآن الكريم والسنة لايكون منها ما يغير حركة سلوكنا إلى ما هو الأعلى والأقرب إلى رضوان ربنا هي دراسة عقيمة وإن تظاهر على إتقانها أحبار علوم اللسان العربي في مشارق الوطن العربي ومغاربه.
1 / 4
لايعدو درس علوم لساننا العربي عندي أن يكون وسيلة إلى غاية ماجدة هي حسن فقه بيان الوحي قرآنا وسنة فقهًا يحفزنا على العزم على أن نغير ما بأنفسنا وأمتنا وما حولنا إلى ما فيه رضوان خالقنا ﷻ
وإذا ما غفلت أي دراسة عن هذه الغاية فهي من العلم الذي استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
ونحن اقتداء به نستعيذ بالله من علم لاينفع في الدنيا والآخرة ونبتهل إلى الله تعالى: " اللهم يامعلم إبراهيم علمنا كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم علما يزيدنا قربا إليك
اللهم يامُفَهِّم سليمان فهمنا كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فَهِّمْنا ما يُسلكنا في عبادك الصديقين.
(اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنى لما اختلف فيه من الحق بإذنك إتك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه ورسوله سيدنا محمد بن عبد الله نبيّ الرحمة والملحمة وعلى آله وصحبه وأمته عدد خلقه ورضاء نفسه ومداد كلماته والحمد لله رب العالمين.
وكتبه
محمود توفيق محمد سعد
الأستاذ في جامعة الأزهر الشريف
التمهيد
منزلةالعلم بخصائص لسان العربية ومنهج الإبانة فيه
يقررالقرآن الكريم في آيات عديدة أنَّه عربي وبلسان عربي مبين: " إنَّا أنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ" ﴿يوسف:٢﴾
" وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ " ﴿النحل: ١.٢﴾
1 / 5
"وَكَذَلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْمًا عَربِيًّا" ﴿الرعد:٣٧﴾
" وَكَذَلِكَ أنْزلْناهُ قُرآنًا عَربِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونُ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا" ﴿طه: ١١٣﴾
" وَإنَّهُ لَتَنْزيلُ رَبِّ العَالَمِينَ ﴿﴾ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ﴿﴾ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرينَ ﴿﴾ بِلِسَاٍن عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" ﴿الشعراء: ١٩٢-١٩٥﴾
" وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هَذا القُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿﴾ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ " ﴿الزمر:٢٧- ٢٨﴾
" حَم ﴿﴾ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿﴾ كِتابٌ فُصِّلتْ آيَاتُهُ قُرْآنًاعَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " ﴿فصلت: ١-٣﴾
" وَكَذلِك أوْحيْنا إلَيْكَ قُرْآنا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لارَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ " ﴿الشورى: ٧﴾
" حَم ﴿﴾ والْكِتابِ المُبينِ ﴿﴾ إنَّا جعلْناهُ قُرْآنًا عَربِيًّا لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ ﴿﴾ ﴿الزخرف: ١-٣﴾
" وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِسانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ " ﴿الأحقاف:١٢﴾
في كل هذه الآيات دلالة بينة على أن عربية القرآن الكريم إنما هي عربيةمنهج إبانة وليس عربية مصدر تنزُّل،ولذا كثر في هذه الآيات قوله: لعلكم تعقلون، لعلهم يتقون، لعلهم يتذكرون" وهذا كله إنما يكون من منهاج الإبانة على معانيه ومقاصده ومغازيه،ولذا قال الحق عز وعلا:
" وَلَوْ جَعَلْناهُ قرآنًا أعْجميًّا لقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُه أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ... " ﴿فصلت: ٤٤﴾
1 / 6
وفي ذلك دلالة بينة على أنه لايسطيع ناظر في القرآن الكريم أيا كان قدره أن يفقه شيئا منه إلا من سبيل فقهه لسان العربية الذي كان في أمة العرب عند نزوله، فذلك هو السبيل الأول إلى الاقتراب من حمى المعنى القرآني الكريم.
وقد حرص الإمام الشافعي في سفره الجليل " الرسالة" أمِّ أسفار علم أصول فقه الكتاب والسنة على أن يبين في جلاء هذه الحقيقة؛لأنها أم الحقائق التى تبنى عليها كافة الحقائق العلمية في هذا الباب:
يقول ﵁ وارضاه:
" ومن جماع علم كتاب الله العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب".
فانظر قوله: " جماع علم كتاب الله" فهذا دال على أن علم ما في كتاب الله عز وعلا من معانى الهدى إنما هو من علم لسان العرب فمن علمه وأتقنه كان أهلا لأن يسلك السبيل، ومن جهله فلن يخطو خطوة واحدة على الطريق، وإن جمع علوم أهل الأرض أجمعين،
فكان لزاما على كل متكلم في معانى القرآن الكريم على تعدد أنواعها وضروبها ومجالاتها الجامعة كافة شئون الحياة أن يكون أول أمره قائما على كمال تحقيق العلم بلسان العربية.
وهذا يدل على عظيم ما يتردى فيه كثير من المستجرئيين على القول في معانى القرآن الكريم، والواحد منهم لايكاد يقيم لسانه النطق بجملة عربية واحدة على النحو والنهج العربي القويم.
وقد أنكر " الإمام الشافعي " على من زعم أنَّ في القرآن الكريم حرفا واحدا من غير العربية:
" الواجب على العالمين انَّ لايقولوا إلا من حيث علموا.وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة له - إن شاء الله.
فقال منهم قائل: إنَّ في القرآن عربيا وأعجميا.
والقرآن يدل على أنْ ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب.
ووجد قائل هذا القول من قَبِلَ ذلك منه تقليدًا وتركًا لِلْمسئَلة له عن حُجَّتِه، ومسئلةِ غيره ممَّنْ خالفه.
1 / 7
وبالتقليد أغفل من أغفل منهم والله يغفر لنا ولهم.
ثمَّ يقول ﵁ وأرضاه:
" فعلى كلِّ مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جَهدُه....
وما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته وأنزل به آخر كتبه كان خيرًا له....
ثُمَّ بين وجه إعلانه هذه الحقيقة العلمية الراسخة في صدر كتابه قائلا:
" وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره لأنَّه لايَعلمُ من إيضاح جُملِ عِلمِ الكتابِ أحدٌ جهلَ سَعةَ لسانِ العربِ،وكثرةَ وجوهِهِ وجِماعَ معانيهِ وتَفرُّقَها.
ومن علِمه انتفت عنه الشُّبَهُ التى دَخلت على من جهلَ لسانها.
فكان تنبيهُ العامَّةِ على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة نصيحةً للمسلمين، والنصيحة لهم فرضٌ لاينبغى تركُه، وإدراكُ نافلةِ خيرٍ لايَدعُها إلا من سفه نفسه وترك موضعَ حَظِّهِ.
وكان يجمع مع النصيحة لهم قياما بإيضاح حقٍ وكان القيامُ بالحقِّ ونصيحةُ المسلمين من طاعةِ اللهِ، وطاعة اللهِ جامعةٌ للخيرِ " (١)
بسطت لك النقل عن بيان الشافعي ﵁ وأرضاه، لتقف - أولا - بنفسك على بيانه البليغ،فقد كان الشافعي ممن تؤخذ منه اللغة
فهو قرشي قُحٌّ لم يَشُبْ لسانَه هجنة أعجمية أو عامية،وكان عالم لغة وراوية شعر من قبل أن يكون فقيها، فهو الذي أخذ عنه " الأصمعى" شعر الهذليين، فيقوم في صدرك فرق ما بين هذا الإمام الجليل وبين ما يسكب في أذنك صباح مساء من همهمات أعجمية ممن قيل عنهم المفكرون الإسلاميون.
ولتقف - ثانيا - بنفسك على تقريره الحقيقة العلمية التى لاينبغى أن يُوقَفَ طالبُ علمٍ بمعانى كتاب الله عز وعلا على شيء من قبل أن يوقف عليها وقوفَ تبصرٍ وتدبرٍ وتمثلٍ وتمكنٍ.
_________
(١) - الرسالة: ص٤.، ٤١، ٤٢، ٤٨،٤٩، ٥.
1 / 8
ولو أحسن القائمون على تعليم طلبة العلم في الجامعات الإسلامية النصح إلى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والنصح إلى من كلفوا بالولاية عليهم ورعاية مسيرهم في طلب العلم بالكتاب والسنة لكان واجبا أن يجعلوا العلم بلسان علوم العربية مدارسة وممارسة أداء وتذوق وتدبر عديلَ العلم بكافة علوم الكتاب والسنة بل والمقدمَ عليها.
إذا ماكان هذا الذي سمعت من الإمام الشافعي ﵁ وأرضاه المهدي إلينا أول وأجلَّ كتاب في علم أصول فقه معاني الهدى إلى الصراط المستقيم في الكتاب والسنة، فإن "الإمام: أبا إسحاق الشاطبى (ت: ٧٩.) يقتدي به قائلا:
" إن هذه الشريعة المباركة عربية، لامدخل فيها للألسن الأعجمية ...
القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة....
فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهم ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة "
" انه لابد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين - وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم - فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة،وإن لم يكن ثَمَّ عُرفٌ فلا يصحُّ أن يجري في فهمها على ما تعرفه.
وهذا جار في المعانى والألفاظ والأساليب "
" لايستقيم للمتكلم في كتاب لله أو سنة رسول الله ﷺ أن يتكلف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب،وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن يعتنِي العربُ به والوقوفَ عند ما حَدَّتْهُ "
1 / 9
" الاعتناء بالمعانى المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم بناء على أنَّ العرب إنما كانت عنايتها بالمعانى،وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها،وهذا الأصل معلومٌ عند أهلِ العربيةِ، فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود،ولا أيضا كل المعانى، فإن المعنى الإفرادي قد لايعبأُ به إذا كان المعنى التركيبي مفهومًا دونه " (١)
ويقرر في باب " الاجتهاد " أنه إذا ماكان هنالك علم تتوقف صحة الاجتهاد عليه " فالأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا علمُ اللغة العربية،ولا أعنى بذلك " النحو" وحده،ولا" التصريف " وحده،ولا "اللغة" ولا" علم المعانى" ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معانى كيف تصورت....
فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة.
فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ولا كان قوله فيها مقبولا.
فلا بد من أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها،كـ"الخليل" و" سيبويه "و"الأخفش"و"الجرمي"و"المازنى"ومن سواهم" (٢) (٣) ...
_________
(١) - الموافقات للشاطبي:٢/٦٤،٨٢،٥٨،٨٧
(٢) - السابق:٤/١١٤- ١١٥
1 / 10
كل الذي نقلته لك عن " الشاطبي" ومن قبله" الشافعي" دالٌ دلالة بينة محققة على أنه فريضة علمٍ ودينٍ على كل من قام إلى النظر في معانى الهدى في بيان الوحي: الكتاب والسنة أن يكون العليمَ بلسان العربية عما يخرجه عن الجهالة بمنهاج الناطقين به زمن نزول الوحي في الإبانة والتلقي، فلا يتلبس بشيء من الجهالة بخصائص هذا اللسان التى هي قائمة على كمالها في بيان الوحي كيما يتحقق الفهم عن الله ﷿ وعن رسوله ﷺ، وقد هدي الله ﷿ إلى أنَّ
من نعمه على خلقه أنْ جعلَ من أرسله إليهم من النبيين والمرسلين بلسان من أُرْسِلُوا اليهم في كلِّ عصرٍ ومصرٍ:
" وَمَا أَرْسَلْنا مِن رسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" ﴿ابراهيم:٤﴾
وقد كان من " الشافعي" في الرسالة تبيان لبعض خصائص لسان العربية زمن الوحي يغري به طلاب العلم بمعانى الهدي إلى الصراط المستقيم في كتاب الله عز وعلا وسنة نبيه ﵌ قائلا:
" إنما خاطب الله بكتاب العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها.
وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها، وأنَّ فِطرتَه أن يُخاطبَ بالشيء منه عاما ظاهرًا يراد به العام الظاهر، ويستغنى بأول هذا منه عن آخره.
وعاما ظاهرا يراد به العام، ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه.
وظاهرًا يراد به الخاص.
وظاهرا يُعرفُ في سياقه أنه يراد به غير ظاهره
فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره.
وتبتدأُ الشيء من كلامِها يُبينُ أوَّلُ لفظها فيه علم آخره
وتبتدئُ الشيْءَ يُبِينُ آخرُ لفظها منه عن أولِه.
وَتَكَلَّمُ بالشيْء تُعَرِّفُهُ بالمعنَى دون الإيضاحِ باللفظِ،كما تُعَرِّفُ اٌشَارةَ، ثُمَّ يكونُ هذا من أعلى كلامها؛لانفرادِ أهلِ علمِها به دون أهلِ جهالتها.
1 / 11
وتسمى الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة
وتسمى بالاسم الواحد المعاني الكثيرة.
وكانت هذه الوجوه التى وصفت اجتماعها في معرفة أهل العلم منها به - وإن اختلفتْ أسباب معرفتها - معرفةً واضحةً عندها، ومستنكرًا عند غيرها ممن جهلَ هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة، فتكلف القول في علمها تكلُّف مايجهلُ بعضه.
ومن تكلف ما جهل ومالم تثبته معرفته كانت موافقته للصواب - إنْ وافقه من حيثُ لا يعرفه - غير محمودة،والله أعلم، وكان بخطئه غير معذور، إذا ما نطق فيما لايحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه (١)
هذا بعض خصائص لسان العربية التى نزل عليها الوحي في بيانه وإفهامه مراد الله ﷿ من عباده،وهي خصائص مذهبية منهجية كلية من تحتها خصائص دقيقة جليلة يقف عليها علماء بيان العربية.
والشافعي قرر فيما قرر قي رسالته الجليلة:
" ولسان العربِ أوسع الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظا، ولانعلمه يُحيطُ بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لايذهب منه شيء على عامتها حتى لايكون موجودًا فيها من يعرفه" (٢) (٥)
فانظر قوله:" أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا" جاعلا الاتساع للمذهب والكثرة للألفاظ،وإذا ما كانت الإحاطة بالألفاظ جد عسيرة فكيف تكون الإحاطة بالمذاهب المتسعة؟!.
وإذا ما كانت المذاهب متسعة وهي في بيان البشر وهم مهما علا علمهم وقدرهم وأطاق اقتدارهم عاجزون عن الإحاطة وعن التَّطَهُّرِ من الغفلة والإبهام في البيان عن المراد، فكيف يكون الأمر حين يكون البيان بيان الله عز وعلا الذي لاتنفد كلماته:
" قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَدًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ولَو جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا " ﴿الكهف: ١.٩﴾
_________
(١) - الرسالة:٥١-٥٣
(٢) - السابق:٤٢
1 / 12
يقول " أبو الحسنِ الحَرَالَّيُّ " (١):
" بيان كل مُبِينٍ على قدْرِ إحاطَةِ علمه، فإذا أبانَ الإنسانُ عن الكائن أبان بقدر ما يدرك منه،وهو لايحيطُ به علمًا، فلا يصلُ إلى غايةِ البلاغةِ فيه بيانُهُ.وإذا أنبأ عن الماضي فبقدر ما بقي من ناقص علمه به كائنا في ذكره، لما لزم الإنسانَ من نسيانه.وإذا أراد أن ينبئَ عن الآتى أعوزهُ البيان كله إلاَّ ما يقدِّره أو يُزَوِّرُهُ.
فبيانه عن الكائن ناقص،وبيانه في الماضي أنقص، وبيانه في الآتي ساقط.
ثم يقول:" بلاغة البيان تعلُو على قدر علو المبين،فعلو بيان الله على بيان خلقه بقدر علو الله على خلقه" (٢) (٧)
وقد هدى إلى ذلك ماقاله النبي ﷺ فيما رواه الترمذي في جامعه الصحيح من " كتاب فضائل القرآن":
" فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه "
وكل هذا الذي بسطت لك القول فيه دال دلالة بينة محققه على أنَّ العرفان بخصائص العربية ضابطٌ حركةَ الناظرِ في كتاب الله ﷿ وسنة نبيه ﷺ يستخرج منهما معانى الهدى إلى مايرضي ربنا ﷻ، فإن في العلم المحقق بمناهج العرب في الإبانة عن معانيها عونا عظيما على ذلك.
يروي " الزجاجي" أنَّ " أبا عمر: صالح بن إسحق الجرمِيّ" كان يَدِلُّ بمعرفته بالعربية، ويقول أنا من ثلاثين سنة أفُتِي الناس من
كتاب " سيبويهِ" فأُخبر " المبرد" بذلك، فقال: أنا سمعته يقول هذا
_________
(١) - أبو الحسن على بن أحمد بن الحسن الحَرَالِّيّ (ت:٦٣٧هـ) من آثاره: مفتاح الباب المقفل لفهم الكتاب المنزل، ورسالة الاستقامة ن وشرح اسماء النبي ﵌.
(٢) - مفتاح الباب القفل - خط - ق: ٣ب - دار الكتب المصرية
1 / 13
وذلك أنَّ "أبا عمر" كان صاحب حديثٍ فلما علِمَ كتابَ" سيبويهِ " تفقَّهَ في الدِّينِ والحديثِ؛ إذْ كان ذلك أي كتاب " سيبويهِ " يُتَعَلَّمُ منه النظر والتفتيش " (١)
يقول " الشاطبي " في "الموافقات: " والمراد بذلك أن سيبويه وإن تكلم في " النحو" فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب،وأنحاء
تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أنَّ " الفاعل " مرفوع، و" المفعول" منصوب ونحو ذلك
بل هو يبين في كل باب ما يليق به حتى إنه احتوى على " علم المعانى والبيان" ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني "......
" فالحاصل أنه لاغنى بالمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب بحيث يصير فهم خطابها له وصفا غير متكلف ولا متوقَّف فيه في الغالب إلاَّ بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب "
وإذا ماكان بلوغ درجة الاجتهاد في فقه مذاهب العربية في الإبانة عن المعانى أداة ريئسة للمتدبر بيان الكتاب والسنة يستخرج منهما أحكام الشريعة فإنَّ ذلك الأمر ليبدو أثرُه قويًا في الوقوفِ على معالم " التثقيف" للنفس الإنسانية في البيان القرآني. وتفاوت العلماء في هذا أعظم من تفاوتهم في إدراك أحكام الحلال والحرام منه.
اتقان فقه العربية من أعظم آلآت العالم في استجلاء مسالك التهذيب للأمة؛ لتقبل على أحكام الله ﷿ إقبالا مبعثه الحب والخوف والرجاء، فتكون إقامتهم في رياض الطاعة الخالدة.
والله ﷿ لم يرض من عباده أن يحتمكوا إلى كتابه الكريم وسنة نبيه ﷺ فحسب بل أوجب عليهم التسليم والرضا
بذلك،وإلا كانوا الخارجين من حمى الإسلام والإيمان:
" فَلا وَرَبِّكَ لايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفِسِهِم حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " ﴿النساء: ٦٥﴾
_________
(١) - مجالس ثعلب: ص١٩١ – ت: هارون - دار المعارف
1 / 14
التحريض على الجهاد في سبيل الله تعالى
يقول الله تعالى
يَأَيُّها الَّذِيَنَ آمَنُوا مَالَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا متَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ ﴿﴾ إلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوه شَيْئًا وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قّديرٌ ﴿﴾ إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لاتَحْزَنْ إِنَّ اللهَ معَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿﴾ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿﴾
﴿التوبة:٣٨-٤١﴾
السِّياق
لهذه الآيات سياقان: سياق نزول وسياق تلاوة، ومن حسن فقه بيان القرآن الكريم أن يُعنى طالب العلم بفقه السياقين معا، فإنَّ لهما أثرًا عظيمًا في تحقيق المعنى وتحريره.
= سياق النزول:
ذكر " ابن جرير الطبرى: (١)
" عن ابن أبي جريج عن مجاهد قوله:" يأيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض "الآية. قال: هذا حين أُمِرُوا بغزوة " تبوك " بعد " الفتح " " وحنين " وبعد " الطائف " أمرهم بالنفير في الصيف حين أخْترَفت النخيلُ، وطابت الثمار واشتهوا الظلالَ، وشقَّ عليهم المَخْرَجُ (٢)
1 / 15
وغزة " تبوك" كانت في شهر " رجب" من السنة التاسعة " وتبوك" مكان في شمال الجزيرة، وهذه الغزوة تعرف بغزوة " العسرة"؛ لما أصاب فيها المسلمين من ضيق اليد بالنفقة.
وقد أنفق " عثمان بن عفان " ﵁ في هذه الغزوة نفقة عظيمة: جهز عشرة آلاف، وأنفق عشرة آلاف دينار " أي ما يعادل اثنين وأربعين ألفا وخمس مئة جرام من ذهب، وتسع مئة بعير ومئة فرس وجاء " أبو بكرالصديق" ﵁ بكل ما يملك، وجاء " عمر بن الخطاب " ﵁ بنصف ما يملك، وتطوع كثير من الصحابة رجالا ونساء بأموالهم، وقد بلغ عدد جيش المسلمين ثلاثين ألف مقاتل.
ــ
(١) أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري (٢٢٤-٣١.) من آثاره: تفسيره: جامع البيان، وأخبار الرسل والملوك، والقراءات.
(٢) جامع البيان للطبري: ج٦ / ٤١٧ - ط: دار الغد العربي - القاهرة ـ
وقد خلَّف النبي - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على "المدينة النبوية" عليًّا بن أبي طالب " وقال له: أنت منى بمنزلة هارون من موسى " ﴿البخاري: فضائل أصحاب النبي﴾ هى منزلة استخلاف ولاية موقوتة، وليس منزلة نبوة أومنزلة استخلاف ممدود
وقد كانت هذه الغزوة اختبارًا عظيما لكثير من المسلمين، فقد كانت في زمن الصيف الشديد حرُّه، وهي آخر عزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.وقد كان من شأنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن يورِّي حين يريد الغزو إلا في غزوة تبوك فإنه صرح للمسلمين بمقصده حتى يتموا استعدادهم.
يقول " كعب بن مالك " ﵁، فيما رواه البخاري بسنده:
1 / 16
"كان رسول الله ﷺ قلَّما يريد غزوة يغزوها إلا وَرَّى بغيرها حتى كانت غزوة تبوكٍ، فغزاها رسول الله ﷺ في حرٍشديدٍ، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل غزو عدوٍ كثيرٍ، فجلّى للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يريد" ﴿البخاري: الجهاد- من أرادغزوة فورى بغيرها)
وفي هذا السبب بيان لعظيم ما كان من بعض الذين أخلدت نفوسهم إلى شيء من نعيم الدنيا، فكان منهم ما لا ينبغي أن يكون: تثاقلٌ عن الفرار إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين والإخلادَ إلى الحياة الدنيا ومتاعها الزائل.
وقد كان من النبي الهادي - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم عظيم التحذير من السقوط في حمأة التشاغل بنعيم الدنيا عن الآخرة:
روى " مسلم "بسنده عن عمرو بن عوف " أن رسول الله ﵌ قال:
" ... أَظُنكم سمعْتُم أنَّ " أبَا عُبَيْدَةَ " قدمَ بشَيْءٍ من " البَحْرَيْنِ"؟ فقالوا: أجلْ يارسولَ اللهِ قال:" فأبشِرُوا وأمِّلُوا مايسرُّكُمْ، فواللهِ ماالفقرَ أخشى عليكم، ولكنى أخشى عليكم أنْ تُبسطَ الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلَكُم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم " [الزهد: ح. ر: ٦/٢٩٦١]
وهذا يبين لنا خطر ما نحن فيه، فقد أفعم حب متاع الحياة الدنيا قلوبنا وقيد حركتنا إلى الجنة، ففررنا من جنة العزة بالإسلام في الدنيا إلى هاوية الاستسلام، فنزع الله عز وعلا مهابتنا من قلوب أعدائنا،وملأ قلوبنا حبًا للحياة في رَغْدة الخَبال والفَرَقَ من الموت في سبيل الله عز وعلا.
ونزل قوله تعالى: (انفروا خفافا وثقالا) في الذين اعتذروا بالضيعة والشغل وانتشار الأمر، فأبى الله تعالى أن يعذرهم دون أن ينفروا على ما كان منهم
1 / 17
عن " انس " قال: قرأ " ابو طلحة ": انفروا خفافا وثقالا، فقال: ما أسمع الله عذرَ واحدٍ، فخرج مجاهدًا إلى الشام حتى مات
[] [] [] [] []
سياق الترتيل:
جاءت هذه الآيات في سياق سورة " التوبة" وهي سورة معقودة للحث على البراءة مما لا يُرضي الله ﷿، وممن يدعو إلى مخالفته واتباع الهوى
وهذه السورة جاءت عقب سورة الأنفال " سورة الجهاد،النازلة في شأن غزوة " بدر الكبرى " ﴿البخاري: التفسير﴾ وكان من السُّنة قراءة هذه السورة قبل التحام المقاتلين، فإن فيها من التحفيز والتثبيت ما فيها.
وسورة " التوبة" قد بعث بها النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم " أبابكر"﵁ في الحج، وأمَرَ"عليا بن أبي طالب " ﵁ أن يتلوها علىالناس ﴿الترمزي: ح. ر"٣.٩.- ٣.٩٢﴾ فكان هذا إعلامًا بليغًا بالبراءة من الكافرين والمشركين التي ينبغي أن يستمسك بها المسلمون إلى يوم الدين.
وهي سورة قد كثر فيها الحث على مجاهدة المخالفين لله ﷿، لرسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وقد كان من نصح أمير المؤمنين:" عمربن الخطاب " ﵁:" تعلموا سورة التوبة، وعلموا نساءكم سورة النور"
افتتح الله عز وعلا سياق القول في السورة بإعلان البراءة من عهد المشركين، والحثِّ على قتالهم حيث وُجدوا،وبيان أنه لايكون للمشركين عهد عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وهم الذين لايرقبون في المسلمين إلاَّ (قرابة) ولا ذمة وعهدًا، فهل لنا نحن المسلمين في زماننا هذا أن نستمع إلى قول ربناجلَّ جلالُه وأن نصدقه وأن نطمئن إليه؟ فلا نفتن ونغتر بدعاوى الضالين المضلين أننا في عصر حوار الحضارات مع الإسلام لاعصر صراعها معه.
1 / 18
وحثَّ اللهُ عزَّ وعلا وحرَّض على قتال أولئك الناكثين أيمانهم الهامّين بإخراج الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم البادئين بالعدوان، وحذر من خشيتهم ووعد بتعذيبهم بأيدي المسلمين إن أطاع المسلمون أمر ربهم تعالى، وبيَّن أنَّ المشركين لن يكونوا يوما يعمرون مساجد الله تعالى فذلك من شأن المؤمنين وحدهم، وبين أن الجهاد في سبيل الله ﷿ أجل من تعمير المسجد الحرام
وأعلنت السورة عظيم النهي عن الولاء لمن حارب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وإن كانوا الآباء والأبناء والإخوان والأزواج، فكيف حالنا وقد والينا من مزقوا أعراضنا وداسوا مقدستنا، ثم لايكون منا إلا الإعلان بأنا أمة السلام!!!!
ويؤكد الله ﷿ لنا أنه هو الناصر للإسلام في مواطن كثيرة، وذلك حين يكون المسلمون أهلا لذلك النصر بطاعتهم لله رب العالمين، فيقصُّ الله عز وعلا علينا ما كان في غزوة " حنين" علَّنَا نتخذ العبرة الهادية
ويحثنا على أن نقاتل الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر حتى يخضعوا ويذلوا لسلطان الإسلام، ويقصُّ علينا ما يكون منهم من إفساد في الأرض ليُغْرِينا بقتالهم ومنع فسادهم في هذه الأرض التى استخلفنا فيها لنعمرها
في هذا السياق المنصوب للحث على البراءة من كل ما لايرضي ربنا جلَّ جلالة، وعلى مقاتلة كل من يدعو إلى تلك المفاسد في الأرض جاءت هاتان الآيتان، وفيهما من معانى الهدى ما فيهما وإنِّى أرى أن كلَّ مسلم وقافٍ عندهما لايكاد تقر نفسه بنوم، مادام على غير التحفز إلى ما تدعو إليه الآيتان الكريمتان، وما تُهَدِّدُ به من ليس قائما لما يُغْرَى به، ويحرَّضُ عَلَيْهِ.
آيات السورة كما ترى متناسل تاليها من أولها، فهى تجمع وحدة المقصد والمغزى إلى وحدة البيان إلى وحدة الموضوع، فتحققت فيها هذه الوحدات على نحو لايكاد يغيم فضلا عن أن يغيب.
1 / 19
......
القراءات القرآنية في الآيات
كان من فضل اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ على عباده أن لم ينزل كتابه على وجه واحد من وجوه الترتيل التي يستنبط منها معانى الهدى، بل جاء التنزيل بوجوه عدَّة، كما هدت إلي ذلك السنة المطهَّرة:
" عن عبد الرحمن بن عبد القَارِيَّ قال سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة "الفرقان" على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لببته بردائه فجئت به رسول الله فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة "الفرقان" على غير ما أقرأتنيها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أرسله، اقرأ، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم هكذا أنزلت، ثم قال لي: اقرأ، فقرأت، فقال: هكذا أنزلت؛ إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه"
﴿الشيخان: البخاري ك: فضائل القرآن:باب أنزل القرآن على سبعة أحرف،و"مسلم" ك: المسافرين - باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، والنص لمسلم ح. ر:٢٧./٨١٨﴾
1 / 20