فقال الأسقف: «صدقت يا ابنتي، ولا يجوز لنا إنكار هذا الجميل.»
قالت: «لذلك أرجو إذا لقيت حاكم البلد أن تبث هذه الروح فيه، إذ ربما طلب إليه الكونت أود نجدة لمساعدته في قطع الطريق على العرب؛ لأني علمت أن الكونت المذكور معسكر في مضيق دردون، وعلى كل حال فقد تركت تدبير هذا الأمر إليك، وإني مسافرة إلى بواتيه في هذه الساعة، فهل تأذن لي في كتاب إلى أسقفها؟»
قال: «نعم» ثم نهض وكتب على منديل من حرير سطرين للغرض المقصود، فتناولت الكتاب وقبلت يده فباركها، وقبل خروجها تذكرت المسافة بين بوردو وبواتيه، وهي نحو مائة ميل لا يمكن قطعها في أقل من ثلاثة أيام أو أربعة، وحسان لا يقدر على السير في ركابها ماشيا كل هذه المسافة، فطلبت إلى الأسقف أن يأمر لها بفرس يركبه حسان فأمر لها بواحد، فخرجت شاكرة وأهل القرية يتباحثون فيما عسى أن يكون من أمر هذه السيدة ومجيئها على تلك الصورة، أما هي فإنها خرجت فرأت حسانا والفرسين في انتظارها فركبت وركب حسان وخرجا من بوردو يلتمسان بواتيه.
الفصل السابع والثلاثون
الدير
وكان حسان يعرف أكثر من طريق يؤدي إلى بواتيه، فسار في أسهل الطرق بحيث لا يكون عليهما بأس وقد دبر أن يصلا كل مساء إلى دير ينزلان فيه ويبيتان ثم ينهضان في الصباح التالي فمشيا بقية ذلك اليوم، وقلما تكلمت سالمة لانشغال خاطرها بالمهمة التي تسعى إليها فلما أمسى المساء أشرفا على دير لا يعد من الأديرة الكبرى، فتحولا إليه وهو قائم على سفح جبل فوق نهر تجري مياهه في معظم السنة، وحول الدير مغارس الكرم والزيتون وأشجار الليمون والتفاح وغيرها، وهو كسائر الأديرة في تلك الأيام، يتألف من بناء محاط بسور عال له باب صغير للدواب ونحوها، فلما أشرفا على الباب تقدم حسان وقرعه بجرس معلق فوقه، فأطل عليه راهب من كوة فوق الباب سأله عن غرضه فقال له: «نحن غرباء نبغي المبيت عندكم، فهل من مكان؟» قال حسان ذلك بلغة أهل البلاد، ولكن ظهر من لهجته أنه غريب عنها ففتحوا لهما، فدخلت سالمة وتركت حسانا لينظر في أمر الفرسين ثم يدخل في جملة خدم الدير، فلما رآها الراهب البواب توسم في منظرها وفي زيها هيئة الجلال والوقار فأسرع إلى الرئيس فأخبره بذلك فأمر أن يدخلها إليه، فعاد وهو يقول: «تفضلي إلى حضرة الرئيس وهو يأمر بغرفة تقيمين فيها ما شئت.»
فمشت سالمة في صحن الدير فرأته مزدحما بالناس من الرجال والنساء والأطفال، وأكثرهم من أهل بوردو وضواحيها، فأدركت أنهم لجئوا إلى الدير خوفا من العرب، فظلت في طريقها حتى أقبلت على غرفة الرئيس، فلما دخلت وقف لاستقبالها ورحب بها وأمر لها بالطعام، وسألها عن مسيرها في ذلك الطريق، فقالت: «إنها قادمة من بوردو، وسائرة إلى بواتيه.»
فلما علم أنها قادمة من بوردو قال: «لعلك في جملة الذين فروا في أثناء الحرب على أثر نهب الكنيسة والفتك بالأسرى؟»
قالت: «لقد أخطأ الذين فروا؛ لأن نهب الكنيسة إنما كان تعديا من بعض الغوغاء المرافقين لجند العرب، ولما علم الأمير بذلك أمر بإعادة الآنية إلى مكانها ورد الأسرى إلى أهلهم بالفدية القليلة، وأحاطوا أهل بوردو بكل وسائل الرفق.»
فلما سمع الرئيس قولها، بدا الاستغراب على وجهه وقال: «وهل يعرفون الرفق؟ وما الذي يدعوهم إليه، أو يردعهم عن الفتك والقتل ولا دين لهم ولا ذمام؟»
Página desconocida