قالت: «ثق بأني سأذهب مكرمة، وسأقيم هناك لا أقول مكرمة ولكني لا أخاف بأسا؛ لأن أود يعرف من أنا، وأرجو أن يكون بقائي في معسكر أود هذه المرة مثمرا مثل بقائي المرة الماضية، فقد كشفت فيه سرا أبعد عنا شرا عظيما.»
قال: «ربما كان ذلك، ولكنني أستحي من نفسي أن أخرج من هذا الدير وحوله الجند يطلبونك فإذا كنت لا تسمحين أن أمنعهم من أخذك أفلا تأذنين لي أن أراك ذاهبة معهم؟»
قالت مريم: «إن هانئا مصيب في رأيه.»
قالت سالمة: «فلأذهب إذن لرئيس الدير لأودعه، فانتظراني في الحديقة.» قالت ذلك وخرجت فتبعاها فتحولت هي إلى غرفة الرئيس، ونزلا هما إلى الحديقة وكانت مضيئة بالأقباس، وطلب هانئ من البواب أن يحضر الجوادين، فأمر فجيء بهما فدفع هانئ إليه صرة فيها دنانير فاستأنس البواب بذلك الكرم وأمر الخادم أن يحسن العناية بالجوادين، فوقف بهما وجواد هانئ يتجلى كالعروس بما عليه من العدة المتقنة وما في عنقه من القلائد والعقود، وما على عدته من الأحجار الكريمة، وخصوصا اللؤلؤة الكبيرة المصاغة على شكل النجمة فوق جبهته، ناهيك بلجامه المذهب وما على صدره من سلاسل الفضة، وهو أدهم شديد السواد فأصبح كأنه ليل تتلألأ فيه النجوم، وكان هانئ واقفا إلى جانبه ينظر إليه نظرة وإلى مريم نظرة أخرى، ولم يبق أحد من أهل الدير في تلك الحديقة أو بالقرب من الباب إلا وقد جاء ينظر إلى الأدهم وإلى صاحبه، وكلاهما غريب في نظرهم، وكأن الأدهم أدرك إعجاب الناس فازداد دلالا وأخذ يضرب الأرض بيمناه ويصهل ويشخر، كأنه يطلب النزال، أو كأنه فهم من صهيل الخيول حول سور الدير أنهم أعداء صاحبه فأخذ يهددهم به.
أما مريم فقد كادت تنسى فراق والدتها قبل ذهابها لانشغال خاطرها بحب هانئ وخاصة بعد هذه السفرة، وقد تحققت من أنها عربية الأب ملوكية الحسب فتذكرت المحفظة فافتقدتها وعادت إلى هواجسها.
وبعد قليل سمعوا ضوضاء داخل الدير، ثم خرج بعض الخدم يحملون الشموع ووراءهم جماعة من الرهبان يسيرون بين يدي سالمة ورفيقها الراهب، وساروا بهما إلى السور فمروا بهانئ ومريم فحيتهما سالمة، ومشت حتى خرجت من الباب وكانوا قد أعدوا لها جوادا ركبته وركب الراهب جوادا آخر، ونفخ في البوق فاجتمع الفرسان الإفرنج ومشوا إلى جانبها وبعضهم إلى ورائها برعاية وإكرام، وهانئ ومريم ينظران، وأحست مريم في تلك اللحظة أن أمها اقتلعت من قلبها، فغلب عليها البكاء ولكنها كتمت بكاءها.
الفصل الرابع والسبعون
ضوء القمر
أما هانئ فبعد أن سار الركب بسالمة ركب جواده، وأشار إلى مريم فركبت جوادها فخرجا وتحولا نحو المعسكر، فلما بعدا عن الدير أحسا بالانفراد، وكان الليل مقمرا وقد صفا الجو وهدأت الحياة وسكن الهواء كأن الطبيعة قد شاركتهما في التهيب والاعتبار، فلم يسمعا إلا وقع حوافر الجوادين على التراب، وكأن الجوادين قد أحسا بما يتقد على ظهريهما من لواعج الغرام فاعتبرا وطأطآ ومشيا مشية الاحترام - والحب سلطان تطأطئ له الرءوس - وظل الحبيبان مدة صامتين تهيبا من منظر الطبيعة وتفكيرا فيما رأياه وسمعاه تلك الليلة من الأمور الهامة، وقد سرهما الاطلاع على ذلك السر، فأصبح ارتباطهما بعده من الأمور الهامة، وقد علما أنهما أقرب نسبا وأوثق عهدا، وأحست مريم أنها مطالبة بنصرة العرب عملا بوصية والدها.
فلما اقتربا من المعسكر رأيا نيرانه، ولم تكد تظهر لهما عن بعد لتغلب ضوء القمر فأسف هانئ لوصوله إلى المعسكر قبل أن يخاطب مريم في شيء بعد ما عرفه من أمرها، فأمسك شكيمة جواده ليسير الهوينا فاقتدت به مريم وهي تتوقع أن تسمع منه شيئا فإذا هو يقول على سبيل المداعبة: «أراك صامتة يا مريم ألعل ما علمته من شرف أصلك خفف شيئا من حبك؟»
Página desconocida