قال: «فتفضلي إذن.» قال ذلك وأشار بيده نحو الباب.
قالت: «اخرج وأنا خارجة في أثرك.» فخرج .
فالتفت بردائها فوق الخمار، وتفقدت المحفظة وسائر ما معها، وخرجت إلى الدهليز ومنه إلى الباحة حتى أطلت على صحن الدار، فرأت هناك فرسا مسرجا وحوله فرسان مدججون بالسلاح وفي أيديهم الحراب وعليهم الدروع كأنهم يحرسون عشرين سجينا متمردين، فلم تعبأ سالمة بهذا المنظر، وتقدمت إلى فرسها فركبته وساقته، فمشى الفرسان حولها في شبه حلقة، وركب الأحوال حمارا كان هناك وسار في أثرهم.
سارت سالمة في ذلك الموكب وهي غارقة في بحار الهواجس تفكر فيما دهمها على غير انتظار بعد أن كادت تنجو من الخطر، وفكرت في رودريك فغلب على ظنها أنهم حبسوه أو قتلوه وأنها صائرة إلى مثل ما صار هو إليه، ولم يكن الموت ليخيفها لولا خوفها من أن يفوت عليها أمورا تود إنجازها قبل الموت ومن الناس من تتسلط عليه فكرة القيام بالواجب حتى تنسيه حاجات نفسه، فلا يطلب البقاء إلا لواجب يقوم به، فإذا أدى الواجب أصبح الموت والحياة عنده سواء.
قضت برهة في هذه الهواجس حتى تعبت وفرسها سائر بها إلى حيث لا تعلم، ولكنها كانت ترى الحملة تارة أمامها وطورا إلى جانبها، فعلمت أنها تابعة لها وتبينت من مسيرهم نحو الشمال أنهم يقصدون تورس على نهر لوار، فلما تذكرت ذلك النهر اختلج قلبها في صدرها وتصورت ما عليها من العهود والمواثيق المتعلقة بذلك النهر، وتذكرت أشياء كثيرة زادتها انقباضا وعظم في نظرها الأمر حتى كادت تبكي، ولو بكت لخفت حدة انقباضها.
وفي الغروب وصلت الحملة إلى سهل حطوا أحمالهم فيه للمبيت مؤقتا، وفي الصباح نهضوا لمواصلة السير، وسالمة لا يخاطبها أحد في شيء غير ما لا بد منه مما يتعلق بالطعام أو نحوه، وكانت في أثناء الطريق تتأمل فيما يقع عليه بصرها من الدروب أو التلال أو نحوها، وتتفهم ما يدور بين الجند من الحديث لعلها تطلع على أخبار جند العرب وأين هم وكانت تتفحص الطريق الذي يسيرون فيه عسى أن ترى أثرا يدل على اجتيازهم ذلك المكان فلم تر شيئا يدل على مرورهم، فترجح عندها أنهم لم يصلوا إلى هناك بعد، مع أنها سمعت بقيامهم من بوردو، يطلبون بواتيه فنهر لوار وكانت على يقين من أنهم لن يلقوا في طريقهم مقاومة كبيرة لما مهدته لهم، وأما المعركة الكبرى فستكون على ذلك النهر فمن غلب هناك ملك.
الفصل الخامس والخمسون
تورس
وباتوا تلك الليلة أيضا في الطريق، وأصبحوا مسافرين يجدون في السير، وقضوا يوما رابعا على هذه الصورة وهم تارة ينحدرون في واد، وآونة يصعدون على جبل، وحينا يمرون في سهل حتى وصلوا في أصيل اليوم الرابع إلى نهر صغير يقال له نهر شير، تحف به التلال من الضفتين فضلا عن الغياض والبساتين، فقطعوا النهر من ضفته اليسرى إلى اليمنى، ثم صعدوا أكمات أطلوا منها على سهل واسع ينتهي بمدينة تورس الكبرى ووراءها نهر لوار؛ لأنها واقعة على ضفته اليسرى، وكان الليل قد أسدل ستاره فلم تشاهد سالمة شيئا لبعد المدينة عنهم.
وبعد مسير بضعة أميال من شير، اختاروا مكانا عسكروا فيه على نية الإقامة هناك، فعلمت سالمة أنهم قد حطوا عصا التسيار، فلبثت تنتظر ما يفعلونه بها، فإذا هي بالأحول المعهود قد جاء ومعه بعض الخدم، فنصبوا خيمة خاصة على مقربة من فسطاط الدوق أود، علمت ذلك من شكل الفسطاط بما فيه من دلائل البذخ والترف، فلم يهمها الأمر وقد كادت أن تيأس، وقضوا معظم ذلك الليل في نصب الخيام وإعداد مستلزمات الإقامة.
Página desconocida