Sharj Bukhnir sobre la doctrina de Darwin
شرح بخنر على مذهب دارون
Géneros
المقالة الأولى
المقالة الثانية
المقالة الثالثة
المقالة الرابعة
المقالة الخامسة
المقالة السادسة
المقالة الأولى
المقالة الثانية
المقالة الثالثة
المقالة الرابعة
Página desconocida
المقالة الخامسة
المقالة السادسة
شرح بخنر على مذهب دارون
شرح بخنر على مذهب دارون
تأليف
شبلي شميل
المقالة الأولى
خفف الوطء ما أظن أديم الأ
رض إلا من هذه الأجساد
إننا في كل خطوة نطأ بها الأرض أمنا جميعا نمر بقبور ملايين ملايين من الأحياء التي عاشت وجاهدت، وتألمت زمانا طويلا قبلنا، ثم ماتت تاركة آثارها في الأرض المنبسطة تحت أقدامنا كأنها تريد بها أن تقول لنا:
Página desconocida
تلك آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار
ولقد رأى الناس هذه الآثار في كل زمان ومكان، ولكنهم لم يدركوا حقيقتها، فاعتبروها من فلتات الطبيعة التي راق لها في زعمهم أن ترسم صور الأحياء في باطن الحجارة. وكانوا في الأعصر الوسطى يعتبرون العظام الهائلة التي وجدت في أماكن متفرقة - وهي عظام الفيلة الأولى والحيوان المعروف بالمستودنت
1 - أنها بقايا من طوائف الجبابرة، الذين كانوا في اعتقادهم يأهلون الأرض زمانا طويلا قبل الإنسان.
إلا أن بعض ذوي العقول الراجحة والأفكار الثاقبة السابقين عصرهم قد أدركوا الحقيقة منذ القديم، فإن الفيلسوف اليوناني «أكزينوفانوس» من «كولوفنس» العدو الألد لآلهة اليونان، وأبو الفلسفة الآلياوية
2
عرف الأحافير منذ 2400 سنة بما هي حقيقة، فعرف أنها بقايا حيوانات ونباتات كانت حية في الماضي. واستدل من وجود أصداف بحرية على الجبال، ومن انطباع صور السمك والفقم في حجار مقالع أزمير وباروس وسيراقوس أن الماء كان يغطي هذه الأماكن سابقا.
غير أن مثل هذه الأقوال الصائبة المتفرقة هنا وهناك، والصادرة من مثل أولئك النوابغ لم يكن يمكن التعويل عليها، وإن كانت جليلة بحد نفسها؛ لعدم ارتباطها بما تعز به من المعلومات، التي لم تدرك إلا قليلا قليلا وبالتتابع. والحقائق الراسخة المعلومة كانت دون ما يلزم لأن يبنى عليها تعليم مطابق للصحة، ولم يتيسر ذلك إلا في أوائل هذا القرن وأواخر القرن الماضي، حيث قام العالم الطبيعي الشهير «كوفيه» ووضع أساس علم البالنتولوجية؛ أي علم الأحياء الأولى. ولا يخفى كم لا يزال هذا العلم الحديث ناقصا، ولكنه لا يخفى أيضا كم ينتظر منه، ولنا شاهد على ذلك من كلام «أغاسيز» حيث يقول:
لا يعرف كم اقتضى من العناء والصبر لتأييد هذه المسألة البسيطة؛ وهي أن الأحافير أو الآثار المتحجرة هي في الحقيقة بقايا حيوانات ونباتات، كانت سابقا حية على الأرض إلا الواقفون على تاريخ العلم. إذ لزم أولا أن يبين أن الأحافير ليست من خرب الطوفان؛ لأن هذا المذهب كان المعول عليه زمانا طويلا، فالبالنتولوجية لم تؤسس على قاعدة إلا من حين ما بين كوفيه أن هذه البقايا هي بقايا حيوانات قد انقرضت، ومع ذلك فكم لا يزال يعرض لنا من المسائل التي ننتظر حلها.
فهذه المسائل التي يشير أجاسيز إليها يشتغل العلم الحديث بحلها. ومما يسهل هذه الغاية اليوم الاكتشافات الصادرة عن مد السكك الحديدية، وخرق الجبال، وفتح المقالع، وتخطيط الطرق، وبناء المدن، وحفر الآبار والاستقصاء في البلدان البعيدة ... إلى غير ذلك مما هو الآن أكثر منه في الماضي. ولعدم إدراك هذه الأشياء في الماضي إدراكا صحيحا كان إذا وجد شيء منها لا يعبأ به أو عد من الخوارق.
Página desconocida
ولا ينبغي أن يتوهم أن جميع الأحياء الأولى أو أكثرها بقيت محفوظة إلى يومنا هذا، فإنه لم يحفظ منها إلا القليل جدا مما وافقته الأحوال، والقسم الأكبر تلاشى لفعل الأشياء الخارجية، ولا سيما ما كان منه غير ممكن الحفظ من طبعه كطائفة الحيوانات الرخوة، والأجزاء الرخوة لباقي الحيوانات، ومتى وجد آثار لهذه الحيوانات العديمة الهيكل ففي غاية الندرة. وما يشاهد في الأحافير غالبا إنما هو أصداف وقواقع كلسية، وعظام وقطع عظام، وشعر وريش، وأسنان وحوافر، ومبرزات متحجرة وما شاكل. وعلى هذه الآثار يكون البحث لمعرفة الأحياء التابعة لها وجنس معيشتها. ومن النادر أن تلتقي الهياكل العظمية للأزمنة الأولى كاملة ومحفوظة جيدا. وأندر منه أن تلتقي الحيوانات كاملة، ولا بد لذلك من أحوال خصوصية. ومن أعظم أمثلة هذا الأخير مماميث (جمع مموث، وهو الفيل الأول ) سيبيريا أو الفيلة الأولى التي هي من أهم أمثلة البالنتولوجية. فهذه الحيوانات توجد كاملة بجلدها وشعرها وأحشائها، وقد مر عليها ألوف من السنين، وزعم بعضهم أنه وجد في معدها بقايا طعامها القديم. وسبب حفظها فعل الجليد أو الأرض المجلودة، حيث وقعت واندفنت حين كان الماء سائلا أو الأرض طينة. ولكي يعلم كم يصعب على العقل البشري إدراك هذه المسائل بدون مساعدة العلم، يكفي توجيه النظر إلى معتقد قبائل سيبيريا الرحالة، الذين يعتبرون هذه الحيوانات أنها مناجذ هائلة حية تدب تحت الأرض، وتموت حالما تقابل النور، وصينيو آسيا الجنوبية يعتقدون ذلك أيضا، وينسبون الزلازل إلى حركتها تحت الأرض.
فيظهر مما تقدم أن معرفة الأحياء الأولى صعبة للغاية؛ لقلة المحفوظ منها ووجوده غالبا في حالة ناقصة جدا؛ ولأن المعلوم من هذا القليل المحفوظ هو دون الطفيف. وإذا تذكرنا بأن ثلثي الأرض أو ثلاثة أخماسها تحجبها البحار، وأن قسما كبيرا من الثلث الباقي تغطيه الجبال الشاهقة، نعلم أنه تمنعنا عن الأبحاث العلمية موانع طبيعية. وإنا لا نعلم شيئا عن أحافير قارات آسيا وأفريقيا وأميركا وأوستراليا الواسعة، وما نعلمه من هذا القبيل إنما هو آت كله من قارة أوروبا الصغيرة. ولقد أصاب دارون حيث قال: إن أغنى مجموعاتنا البالنتولوجية ليس شيئا بالنسبة إلى الحقيقة، وهو آت من قسم من سطح الأرض صغير غير مستوفى البحث فيه، على أن كثرة اختلافات هذه المجاميع تدلنا على كثرة الأحياء التي عاشت على الأرض في كل الأدوار بما يفوق حد الحصر.
ومع كل هذه الصعوبات الناشئة عن قلة المواد المعلومة، وعن نقصها في غالب الأحيان، قد تحققوا أن طبقات الأرض المختلفة الكثيرة تحتوي أجساما عضوية مختلفة؛ أي إنه في الأدوار العديدة لتاريخ الأرض التي كل طبقة من طبقاتها تدل على كل دور من أدوارها، عاشت حيوانات ونباتات خصوصية مختلفة بعضها عن بعض يزيد اختلافها كلما زاد البعد بينها.
وعليه فصاروا يعينون مقام بعض الطبقات في النظام الحيواني من مجرد الأحافير الموجودة فيها، خصوصا الأصداف التي تحفظ جيدا لمادتها الكلسية، والتي تلتقي في الأحافير بكثرة، فإنها اعتبرت زمانا طويلا دليلا على تعيين مقام بعض الطبقات في الأرض، وهي لا تزال إلى اليوم تعتبر أدلة ثمينة، ولو أن كثيرا من الاكتشافات الحديثة يناقض ذلك.
فمما تقدم، ومن الوهم في فهم بعض الحوادث الجيولوجية، نشأ المذهب العظيم القائل بنكبات الأرض وتقلباتها؛ وبالنتيجة مذهب تعاقب الخلق. وهذان المذهبان اللذان أيدهما كوفيه الشهير تغلبا على سواهما حتى هذه الأيام الأخيرة، ويراد بهما انقلاب عام يمحق به كل أثر حياة على سطح الأرض، ثم تقوم على أثره مخلوقات أخرى حية. وهذا التعاقب حصل 36 أو 40 أو 50 مرة في تاريخ الأرض.
على أن علم البالنتولوجية لم يكن يخلو من مسائل كثيرة يصعب أو يستحيل تطبيقها على هذا المذهب، منها امتناع ملاشاة كل الأحياء في وقت معلوم من تاريخ الأرض دفعة واحدة؛ لأنه توجد أصول ثابتة حية لم تتغير في النكبات والانقلابات الجيولوجية، كالحيوانات البحرية الدنيا. وعدا ذلك، فإنا نرى في خلال الأدوار المتعددة تكاثرا تدريجيا في بعض الأنواع، ثم انقراضا بطيئا فيها كذلك؛ مما يدل على أن الصور الواحدة انتقلت من دور إلى دور في تنسيق طبقات الأرض. فهذه الملاحظات لا يصح معها التسليم بانقراض تام يعقبه خلق جديد. وما نعلمه من وحدة النظام الأساسي في العالم العضوي، ومن تقارب البنية في كل الصور الحية لا يقبل ذلك أيضا؛ لأننا نجد في طبقات الأرض المختلفة ليس عددا عظيما من الصور المتشابهة فقط، بل تدرجا بطيئا صاعدا، ونسبة شديدة بين أحياء المكان الواحد المختلفة سواء كان بين الأصول المنقرضة والحية، أو بين كل منها. فإذن، يوجد رابط يربط الصور المتعددة بعضها ببعض، وهذا لا يجب أن يكون في المذهب المار ذكره.
ومع ذلك فعلماء كثيرون أيدوا هذا المذهب، وله نصراء حتى الآن، ومن أشهر نصرائه كوفيه الذي هو بأبحاثه في الأحافير العظمية أول من مهد السبيل لدرس الآثار الأولى درسا علميا. ولقد عرف أيضا في كتابه «تقلبات سطح الأرض» هذه الأمور المتناقضة، وهو يذكرها أيضا على ترتيب مطابق لأفكار دارون، إلا أنه لم يأخذ على نفسه تطبيقها على مذهبه؛ وربما كان السبب امتناع مثل ذلك في حينه. على أنه يعذر بجانب أغاسيز الذي لم يخش فصل المسألة بقوله: «إن الخالق قادر أن يعيد خلق الصورة التي أعجبه خلقها»؛ فإن مثل هذا الجواب يغلق الباب في وجه العلم، وفي وجه العقل البشري.
ومذهب النكبات أو الانقلابات الجيولوجية هو إقرار بالجهل ليس إلا، والتسليم به بدعوى أن سبب الأشياء الحقيقي والطبيعي لم يدرك طفور إلى ما وراء الطبيعة، وهو شأن الناس عموما في تفسير كل ما أشكل عليهم معرفة سببه الطبيعي. على أن الرضا بذلك - وهو شأن كثير من أساتذتنا الفلاسفة - تشبه بهنود أميركا الذين لما رأوا خريستف كولمب نازلا بينهم قالوا: إنه نزل من السماء!
وهذا المذهب لم يثبت كل هذا الزمان الطويل، ولم يقو بعضه على ما سواه حتى يومنا هذا إلا لعدم وجود ما يفضله، ولا سيما أن مبدأ ثبوت الأنواع كان قد رسخ في ذهن الجميع، فكان كل نوع يعتبر أنه ثابت على مر الزمان، وأنه خلق خصوصي، ولم يتزعزع هذا الزعم حتى قام دارون، وأخذت الأبحاث الحديثة تمهد للعلم سبيل التقدم.
على أن مذهب نكبات الأرض وتقلباتها المار ذكره كان قد انتقض قبل دارون بزمان طويل، والفضل في ذلك راجع إلى الجيولوجي الشهير السر شارل ليل الإنكليزي الذي بين في كتابه «مبادئ الجيولوجيا»، بما لا يقبل الاعتراض، أن النكبات المشار إليها لم تكن عامة بل خاصة؛ أي إن الانقلابات لم تعم قط سطح الأرض دفعة واحدة، وإنما الأرض تتبع دائما في تاريخها نشوءا تدريجيا ثابتا مستمرا، وهي دائما وأبدا تحت فعل نفس القوى، ومعرضة لنفس الأحوال التي لا تزال تغير سطحها حتى اليوم. وقال أيضا: إن هذا النشوء بطيء جدا، وغير محسوس بحيث يخفى علينا. وما اشتهر هذا المذهب حتى انضم إليه جمهور الجيولوجيين، وهو الذي مهد السبيل لانحراف الأفكار عن مذهب ثبوت الأنواع.
Página desconocida
وأما ظهور العالم الحي فلنا عليه أحد ثلاثة افتراضات: إما التسليم بمذهب تعاقب الخلق، أو القول بتحول العالم العضوي تحولا تدريجيا متتابعا بفعل القوى الطبيعية، أو التسليم بالمذهب القائل بتولد جميع الأنواع حتى العليا منها رأسا تولدا ذاتيا في كل الأدوار بفعل القوى الطبيعية، فالأول يكاد لا يثبت، والأخير فاسد لانتقاضه بجميع ظواهر العالم العضوي. وواضع هذا المذهب ليل الجيولوجي الشهير، وهو يقول فيه ما نصه:
إن الاختبار يعلمنا أن كثيرا من الأحياء والأنواع الحية يضمحل على الدوام من دون أن يقفر العالم، فلا بد إذن من أن تكون قد قامت بطريقة غير معروفة من الطرق الطبيعية أنواع جديدة مقام التي اضمحلت، فالقول أن هذه الأنواع مكتشفة حديثا وهي متكونة حديثا غلط.
ولا يخفى على العارفين بالعلوم الطبيعية ما في هذا القول من الاضطراب؛ إذ لا يفهم كيف أن نوعا حيا كالأسد أو الفرس ونحوهما يوجد دفعة واحدة بدون استعداد سابق بفعل القوى الطبيعية المعروفة.
فلفصل المسألة لا يكفي أن يقال أنه تتولد أنواع جديدة، بل ينبغي أن يبين كيف يكون ذلك، بحيث يكون مطابقا لما يعلم عن القوى الطبيعية وكيفية عملها، وهذه المسألة المهمة الصعبة قد حلها كلا أو بعضا رجل من أكبر رجال هذا العصر، أعني به العالم الطبيعي الإنكليزي: (1) شرل دارون
3
ولد هذا الإمام المقدام والعالم المدقق والفيلسوف المحقق سنة 1808 في إنكلترا،
4
وقد صرف عشرين سنة من حياته في البحث فقط عن المسألة التي نحن بصددها، حتى تحقق له أن الأجسام الحية الماضية والحاضرة قد لا تشتق من أكثر من خمس أو ست صور أصلية نباتية وحيوانية. وربما كان مرجع هذه الصور إلى صور أدنى؛ أي إلى بعض كريات أصلية. فالأجسام الحية على مذهبه لا تنفك أبدا عن التحول في نشوئها الخاضع لناموس طبيعي ثابت. وكتابه يعد من أفضل الأساليب الفلسفية الطبيعية، فهو لا يعتمد فيه في تفسير الظواهر الطبيعية وما تعلق بها إلا على الامتحان والعيان، ولا يخفي الصعوبات التي تعترض مذهبه، بل بالضد من ذلك يبسطها؛ لكي يبعدها بما في الإمكان. ولقد علمنا بسببه أشياء كثيرة جديدة، أو بالحري تعلمنا أن ننظر إليها نظرا آخر. وكل ما تعرض له شديد التعلق بأهم مسائل العلوم الطبيعية، ولا سيما الفيزيولوجية؛ ولذلك فهو يهم جدا جميع الذين يهمهم المسائل العامة التي تشملها هذه العلوم.
ولم يقم بعد كتاب ليل «مبادئ الجيولوجيا» أعظم من كتاب دارون من جهة تأثيره العظيم في جميع العلوم الطبيعية، فدارون فعل في علم الحيوان ما فعل ليل في علم الجيولوجيا؛ أي أنه جرده من كل مفاجئ ومجرد، وجعله تحت حكم التحول التدريجي بفعل القوى الطبيعية.
وقبل أن ننتقل إلى البحث في مذهب دارون، لا بد من النظر إلى من تقدمه في هذا السبيل من العلماء الأفاضل. وهو نفسه يذكر في مقدمة كتابه أسماء كثيرين منهم؛ للدلالة على أن مثل هذه الأفكار كانت موجودة، ولكنها لبثت هاجعة، ولم تنتشر إما لضعف البرهان، وإما لكثرة الخصوم. وأقدمهم وأفضلهم «لامرك»، وهو ليس كما توهمه بعضهم فيلسوفا لا إلمام له بالعلوم، بل بالضد هو من أعظم الطبيعيين الفرنساويين. ولقد تولى تعليم الحيوان في بستان النبات في باريس زمانا طويلا. وأول ما درس من العلوم الميتورولوجية والطب، ثم تعلق على النبات والحيوان اللذين نبغ فيهما جدا، هذا ما عدا كتاباته الفلسفية. ولطالما هزأ به أضداده لأجل هذا المذهب الذي هو أول واضع، له حتى جاء دارون ووفاه حقه من الاعتبار.
Página desconocida
وكان الاعتقاد قبل لامرك أن الأنواع ثابتة لم تتغير عن الصورة التي خلقت بها، ولن تتغير. قال لينيوس أعظم نباتي القرن الماضي ما نصه:
الأنواع بقدر الصور الحية المخلوقة في الأصل.
على أنه وجد في كل زمان من الفلاسفة والعلماء من قال أنه ربما كانت الصور الحاضرة آتية من صور سابقة على سبيل التحول، إلا أن ذلك لا يجوز اعتباره إلا من قبيل الرأي فقط؛ لخلوه من كل مستند طبيعي. والفضل الصحيح للامرك وحده الذي كان فيلسوفا وطبيعيا معا لما بسطه من هذا القبيل في كتابه «فلسفة الحيوان» (سنة 1809)، وكتابه «تاريخ الحيوان العديم الفقر» (سنة 1815)، فإنه أوضح فيهما ببراهين طبيعية عدم ثبوت الأنواع واشتقاقها بعضها من بعض من أدناها إلى أعلاها، وارتقاءها بالتحول التدريجي.
وهو يذكر لهذا النمو عدة أسباب، كالعادة والضرورة وجنس المعيشة والثفن؛ أي استعمال الأعضاء وعدمه، والتصالب، وفعل الأشياء الخارجية والوراثة التي يجعلها في المقام الأول. ويعتقد ناموس الارتقاء التدريجي، ويقول بالتولد الذاتي في الأجسام الحية الدنيا، وأكثر اعتماده على استعمال الأعضاء وعدمه، وعلى العادة والضرورة كما يظهر من الأمثلة التي يذكرها. ولا بأس من تفصيل بعض ما جاء به من هذا القبيل؛ لتبيان النسبة بينه وبين دارون من جهة ما يتفقان ويختلفان.
فهما وإن اتفقا من حيث مصدر الأنواع إلا أنهما يختلفان في كيفية حصول ذلك، ونظر دارون من هذا القبيل أصح؛ فإن لامرك - لاعتماده على العادة والضرورة وجنس المعيشة - عنده أن الجسم يوفق للأحوال الخارجية ولاحتياجاته بقوة نفسه، وأما دارون فبالضد من ذلك يجعل التوفيق المذكور من فعل الأشياء الخارجية فيه لا عن استعداد فيه لقبوله. ولا تخفى أهمية الفرق بينهما؛ لأن قول لامرك فيه تقييد ومذهب دارون أعم، وقلما يعتبر لامرك فعل الزمان الذي يجعله دارون من أهم العوامل. ولا بأس من إيراد بعض الأمثلة من لامرك لزيادة الإيضاح.
قال: إن الخلد ليس له عينان أو هما أثر فيه؛ لأنه لسكنه دائما تحت الأرض هو في غنى عنهما وعن النور. وقد توسع حتى قال أنه إذا ربطت إحدى عيني الطفل ينتهي إلى أن يصير ذا عين واحدة فقط، وإذا تكرر ذلك عدة أجيال يتكون نسل أعور.
وإن الأفاعي إنما كانت ذات شكل مستطيل وجسد ملس لا أعضاء له؛ لأن ضرورة مرورها في مسالك ضيقة والعادة اقتضتا ذلك.
وشكل الحيوانات الرخوة البحرية الخاص واحتواؤها على مماسك طويلة؛ نتيجة جنس معيشتها ومحاولتها إمساك فريستها.
والطيور المائية كالبط إنما كان لها غشاء بين أصابعها؛ لاحتياجها إلى العوم واعتيادها له.
واللقلق الذي يعيش بقرب الماء إنما كان طويل العنق والمنقار والرجلين قويهما؛ لأنه في التقاطه غذاءه من الماء يحاول عدم الوقوع فيه.
Página desconocida
وعنق الإوز إنما كان منحنيا طويلا؛ لمحاولته التقاط غذائه من أسفل الماء.
والزرافة إنما كان عنقها طويلا جدا؛ لاحتياجها لمد عنقها إلى أوراق الأشجار العالية.
وميل الثور إلى النطاح؛ سبب قرونه. وحمل القنقر أجريته في جرابه بقرب بطنه سبب فيه؛ لشدة رجليه وطول ذنبه وقوته.
فمن هذه الأمثلة وغيرها يرى ما في هذا التعليل من الاجتهاد والنقص، وهو وإن صح على بعض الحوادث وفي بعض الظروف، إلا أنه لا شك في كونه لا يصح على ارتباط العالم العضوي بعضه ببعض. ومما يزيد في فضل لامرك أنه كان يعتبر جدا ناموس الوراثة الذي بسطه دارون جيدا، إلا أنه لعدم إدراكه كيفية عمله كما ينبغي لم يستطع تبيينه في كل حالة، بخلاف دارون فإنه بسطه في أخص الأحوال، وأما لامرك فاكتفى بأن قال على وجه الإجمال: إن الوراثة مع الأحوال السابق ذكرها تجعل الأحياء تنشأ وتتحول وفقا للضرورات وللأحوال الخارجية الفاعلة فيها من أدنى الحيوان حتى الإنسان. وهو يظن أن الإنسان نوع من القرود ارتقى حتى صارت كمالات الارتقاء فيه وراثية.
وأفكار لامرك تتشابه جدا مع أفكار أحد فلاسفة الألمان المتأخرين، وهو «شوبنهور» الذي يجعل مبدأ كل شيء في الإرادة، فإنه نظير لامرك، يقول: إن احتياجات الحيوان وإرادته سبب أعضائه، وكل أعراض جسم حي إنما هي مفعول إرادة ذلك الجسم، فقرنا الثور إنما هما لميله وإرادته النطاح، وسيقان الأيل السريعة لإرادته العدو.
وإنه وإن كنا لا نستطيع أن نقبل قول لامرك هذا على علاته، إلا أننا لا نجد بدا من التسليم معه بأمور أخرى، هو باتفاق تام فيها مع دارون، وهنا يظهر فضله على أقرانه.
وأول هذه الأمور إنكاره الأنواع، وعنده أن لا أنواع في الطبيعة، بل أفراد فقط تتحول تحولا غير محسوس، وإذا كان ذلك يخفى علينا في مكانه فلقصر وقتنا وطول زمانه، وهذه القضية مهمة جدا في مذهب دارون.
وثانيها أن لامرك لا يسلم بقول معاصريه من الجيولوجيين الذين يقولون بنكبات الأرض وانقلاباتها العامة، وعنده أن هذه النكبات خاصة. وهو قول يعجب به، لا سيما إذا اعتبرت حالة العلم في زمانه.
5
ولم يكن له عضد في فرنسا إلا جفروي سنتيلير (1772-1844)، وهو من فحول العلماء والطبيعيين ونظرياته قريبة من تعاليم الطبيعيين الألمانيين. وكانت أفكاره في الأنواع نظير أفكار لامرك منذ نحو سنة 1795، إلا أنه لم يتجاسر أن يجاهر بها حتى سنة 1828، وذلك في رسالته «أصل وحدة التركيب العضوي».
Página desconocida
على أنه جعل أسباب هذا التحول غير ما جعله لامرك، وجل اعتماده على الأحوال الخارجة، ولا سيما الهواء واختلافاته من جهة الحرارة والرطوبة، وكمية الحامض الكربونيك فيه إلى غير ذلك، مما يجب أن يؤثر في تكوين الأجسام الحية وبنائها من تأثيره في التنفس. وهو يعتقد بنظام مشترك لبناء كل الأجسام العضوية.
وبينا كان لامرك يبحث في هذا الموضوع، كان في ألمانيا رجلان يبحثان فيه أيضا، وهما الشاعر «غاتي» والطبيعي الشهير والفيلسوف معا «أوكن».
فغاتي يقترب في نظرياته الفلسفية من جفروي سنتيليار، وهو ذو مقام في تشريح المقابلة؛ لاكتشافه عظم ما بين الفكين في الإنسان، ولمذهبه في الجمجمة أنها اجتماع فقرات متحولة. وقد نشر سنة 1790 كتابه «تحول النبات»، وقد بسط فيه ببيان ودقة مبادئ مذهب التسلسل، فقال: إن الورقة أصل في النبات، ومنها يتكون باقي الأعضاء. ثم رجع بعد حين عن هذا الرأي - كما سيأتي - إلى مذهب لامرك وجفروي؛ أي مذهب الارتقاء التدريجي أو التسلسل.
أما لورنس أوكن فكان طبيعيا أعظم من غاتي (1779-1851) ولقد تبع في كتابه «فلسفة الطبيعة» نفس الترتيب الذي تبعه لامرك، وهو لم يبسط فيه مبادئ مذهب التحول فقط، بل مذهب الكريات المهم جدا أيضا. وعنده أن جميع الأجسام الحية ناشئة مما يسميه «العلقة الأولى» (أرشليم)، وهي نفس ما نسميه اليوم «بلاسما أو برتو بلاسما». ومذهبه الشهير في الحيوانات النقيعية التي على موجب رأيه يتركب منها جميع العالم العضوي في الإنسان، فيه إشارة إلى مذهب الكريات الحالي. ومهما يكن في هذين القولين، وهما: التحول والكريات من الصحة، فالعلم لم يستفد منهما سريعا الفائدة المنتظرة؛ للاعتماد فيهما على النظريات الفلسفية العريقة في الإبهام. وزد على ذلك أن أوكن كان يضع أفكاره في قالب من الكلام، هو من الاقتضاب وعدم الصراحة، بحيث كان يجعل انتشارها صعبا جدا.
وفي الجملة فإن آراء أوكن في «فلسفة الطبيعة» لم يزدد شأنها في الثلاثين سنة التي عقبتها إلا انحطاطا، حتى إنه في الجدال الذي حصل بين جفروي من جهة، وكوفيه وأنصاره من جهة على تحول الأنواع في جمعية العلوم بباريس في 22 شباط سنة 1830، اضطر علماء المدرسة الفلسفية أن يرتدوا على أعقابهم خاسرين أمام خصومهم؛ إذ فاز الأصوليون - الذين ينظرون إلى الأشياء من حيث الواقع المنظور فقط - على أصحاب النظر الفلسفي في الطبيعة. والفوز المذكور إنما كان لنقص الشواهد ولسوء فهم الموجود منها، فلم تقبل آراء جفروي بدعوى أنها آراء لا دليل عليها وصحت الغلبة، ولكن إلى حين، لخصومه الذين اقتصروا على الواقع المنظور، واعتبرت مسألة البحث في أصل الأنواع من المسائل التي تعلو على العلوم الطبيعية علوا كبيرا.
وذاع خبر هذا الجدال في كل أوروبا. وقد كتب غاتي - الذي هو، كما قلنا، قريب جدا بأفكاره من جفروي وفلسفته - رسالة جليلة في هذا المعنى، فرغ منها قبل موته بأيام قليلة (1832)، وقد ضمنها شرحا مستوفيا في صفات كوفيه وجفروي ومذهب كل منهما. ومن سنة 1830 إلى سنة 1860 لم يسمع ذكر علم فلسفة الطبيعة لما كان من انتصار خصومه، فنسي العلماء - لما فيه من النقص والخطاء - ما له من المزايا التي لا تنكر، حتى توهموا - كما قال هكل - أن الفلسفة في الأمور الطبيعية لا تتفق مع العلم. وليل نفسه الذي هو أعظم المصلحين في علم الجيولوجيا اعتقد ذلك أيضا وقام ضد لامرك، وهو يذكر في كتابه «قدم الجنس البشري» (صفحة 321) كيف أنه في كتابه «مبادئ الجيولوجيا» (1832) تظاهر ضده، وكثيرا ما يتقدم إليه في كتابه المذكور سائلا العفو حيث يقول:
إن كل ما قدمه لامرك في تحول الأنواع صحيح.
وفي موضع آخر منه ما نصه:
كلما عرفنا صورا جديدة أكثر بان عجزنا عن تحديد الأنواع.
وغير ذلك مما يدل على رجوعه إلى أفكار لامرك.
Página desconocida
والغريب أن ليل رغما عن مضادته لمذهب تحول الأنواع في كتابه «مبادئ الجيولوجيا»، هو الذي مهد له السبيل بنقضه مذهب النكبات العامة المعول عليه قديما في علم الجيولوجيا؛ لأنه لما بين ليل وحده فساد مذهب النكبات الأرضية العامة المفاجئة، وبين مع فربس شدة تأثير التربة والإقليم في الأجسام الحية، لزم ضرورة أن تشتهر آراء لامرك وجفروي أيضا، ولو كانت على ضد مشرب الطبيعيين وبعض الناس؛ لأن معرفة الأحوال في تكوين الأرض لا بد أن تتناول تكوين العالم العضوي المنتشر فوقها، واستمرار الحال الواحدة يقتضي استمرار الثانية.
فعاد العلماء إلى البحث في هذه الآراء، ولكن واحدا واحدا وعلى سبيل التستر. ودارون يذكر لنا في مقدمته أسماء كثيرين منهم موافقين على رأيه، وفيهم بعض أفاضل لاهوتيي الإنكليز.
وما زال الاعتقاد بوجود علاقة شديدة بين جميع الصور العضوية، وبتسلسلها بعضها عن بعض ينحت أذهان بعض الفلاسفة في السر، حتى حان لهم أن يجاهروا بحقيقته مستندين فيه إلى الحوادث المقررة.
فأذاع ويليم هربرت في سنة 1837 أن أنواع النبات ليست إلا تباينات مرتقية، وكذلك أنواع الحيوان. ثم في سنة 1844 ظهر في إنكلترا كتاب «آثار الخلق» الشهير، وقد طبع مرارا والطبعة العاشرة في سنة 1853، بسط فيه مؤلفه - وقد أخفى اسمه - وجود عاملين يعملان التغيير في الأحياء؛ أحدهما: أحوال الحياة الخارجية، والثاني: القوة المتصلة بالجسم الحي، وهي ذاتية مستقرة فيه تدفعه إلى الترقي، فمن هذين المبدأين يستنتج المؤلف أن الأنواع غير ثابتة.
وفي سنة 1846 قال أحد أفاضل علماء الجيولوجيا في البلجيك «دوماليوس دلوي» في رسالة أثبتت في سجل جمعية بروكسل الملكية، ما معناه أن الأنواع الجديدة متكونة بالتسلسل لا أنها خلق خاص، وذكر أنه أبدى هذا الرأي من سنة 1831.
وفي سنة 1852-1858 استنتج هربرت سبنسر أحد مشاهير علماء الإنكليز مما قرره الاختبار، ومن التدرج العمومي المتبع في الطبيعة بعد أن قابل بين مذهبي الخلق والتحول، أن الأنواع لا بد أن تكون قد تغيرت للتغيرات الحاصلة في الأشياء التي من خارج.
وفي سنة 1852 قال «نودن» أحد أفاضل نباتيي فرنسا: «إن الطبيعة كونت الأنواع كما نكون نحن التباينات.»
وفي سنة 1853 قال الكونت «كيزرلين» في تفسير ظهور الأنواع الجديدة بفعل جسم ميازمي، قد ينتشر في بعض الأحيان على الأرض فربما لقح الجراثيم التي تولد الأنواع، ومهما يكن من غرابة هذا الزعم فما هو إلا وسيلة لتفسير الشيء تفسيرا طبيعيا.
ثم بعده بسنتين - أي في سنة 1855 كما يقول دارون - بحث الفاضل «بادن بادل» في فلسفة الخلق في كتابه «وحدة العالم»، وبين جليا أن ظهور أنواع جديدة في الخلق ليس من العجيب، بل بالضد هو شيء قياسي.
فدارون اقتفى آثار ليل في علم الجيولوجيا، وكلاهما فتحا لنا السبيل لفهم أعظم أعمال الطبيعة.
Página desconocida
وفي سنة 1859 بحث في هذه المسألة اثنان شهيران من علماء الإنكليز، وهما الأستاذان هكسلي وهوكر في وقت واحد تقريبا مع دارون، وذهبا فيها مذهبا لا يختلف كثيرا عن مذهبه.
وهكسلي هو أحد علماء تشريح المقابلة، اشتهر جدا منذ نشر كتابه «منزلة الإنسان في الطبيعة»، قال في خطاب ألقاه في جمعية لوندرة الملكية أن الاعتقاد بالخلق المتعاقب لا يتفق:
أولا:
مع الواقع.
ثانيا:
مع التوراة.
ثالثا:
مع ناموس تناسب الطبيعة العام.
ثم بين كيف أن المذهب القائل بأن الأنواع الحاضرة ناشئة عن أنواع أخر سابقة متحولة، هو المذهب الوحيد الذي فيه بعض مستندات فزيولوجية.
وبعد ظهور كتاب دارون بقليل ظهرت مقدمة الدكتور هوكر في نباتات طسمانيا (مقاطعة في أوستراليا). والدكتور المذكور من أفاضل النباتيين، وقد بين فيها امتناع فهم ظهور الأنواع إلا بالتسلسل عن أنواع سابقة متحولة. وهو كدارون يرى أن الطبيعة ميدان حرب يدافع كل شيء فيه عن نفسه، ويقتل القوي منه الضعيف، ويؤلف نوعا قائما بنفسه. والأنواع لا تستقر على حال من الأحوال إلا مع الزمان الطويل، وبعد ملاشاة الصور التي بين بين، وسنعود إلى بعض هذه الأمور المهمة. أما هوكر فأحدث في علم النبات ما أحدثه دارون في علم الحيوان من الانقلاب، وعنده أن مذهب استمرار التحول أعظم المذاهب التي جاء بها الطبيعيون.
Página desconocida
وما عدا الأمور العامة الجوهرية في مذهب دارون، فإن فيه أيضا أمورا أخرى عرضية مهمة ذكرت في بعض المؤلفات قبل دارون بكثير. فإن أحد الأطباء المدعو ولاس تلا في مجمع لوندرة الملكي في سنة 1813 رسالة في امرأة بيضاء، على جلدها بقع سود ذكر فيها «الانتخاب الطبيعي»، حيث قال: إن الطبيعة تكون أنواع البشر كما يغير الزارعون أنواع المواشي، فالسود من البشر يقوون على السموم الميازمية أكثر من البيض؛ لذلك نموا أكثر منهم في المناطق الحارة حتى لم يبق فيها سواهم.
وفي سنة 1820 كان ديكندل وهو نباتي فرنساوي شهير من المؤيدين لمسألة «تنازع البقاء»، وعنده أن جميع النباتات دائما في تنازع بينها، وهو يستنتج من ذلك كل ما يترتب عليه.
فلم يكن يقتضي والحالة هذه لسبق دارون إلا إطلاق ذلك على كل الأحياء كما فعل هو.
وكتاب دارون مال إليه أعظم علماء إنكلترة كليل وولاس وأون وغيرهم، هذا ما عدا هكسلي وهوكر السابق ذكرهما. ولا يخفى ما أوجب هذا الكتاب من اللغط. وفي سنة 1860 قام مطران أكسفرد في جمعية من الطبيعيين الإنكليز، وقال: إن هذا التعليم مخالف للدين، فأسكته الحاضرون مؤيدين دارون، وقائلين له: دعنا ولا تكن حجر عثرة في سبيل العلم.
6
وفي ألمانيا وفرنسا حصل في أول الأمر هياج ضد المذهب المذكور، ثم ما لبث أن هجع. واليوم أكثر علماء ألمانيا وفرنسا ولا سيما علماء المدرسة الحديثة متابعون لدارون في تحول الأنواع،
7
واعتراض الأصوليين الوحيد على مذهب دارون هو أنه افتراض لا يستطاع تبيين صحته، ولقد جهل المعترضون أن افتراضهم الخلق واحدا أو متعاقبا يمتنع تبيين صحته أكثر لتناقضه مع جميع الأشياء، وأما مذهب دارون فبالضد من ذلك يفسر جملة ظواهر كانت قبله غير مفهومة. ولقد كان معروفا أن أمر الخلق الواحد مثلا ممتنع؛ لأن الحيوانات والنباتات الحلمية لا تعيش إلا على أجسام أخرى عضوية، وكثيرا من النبات لا يعيش إلا في ظل نبات آخر. على أن نظر دارون ليس افتراضا، بل اكتشافا، ولا نطيل الكلام في ذلك أكثر الآن؛ لأنا سنعود إليه فيما يأتي.
وقبل أن نفرغ من تاريخ هذه المسألة أقول: إني من جملة الذين تكلموا بمذهب التحول قبل دارون بزمان طويل، وفي الطبعة الأولى 1855 من كتابي «القوة والمادة» في فصل التولد الأول، قلت:
إن تولد أنواع جديدة يحصل طبيعيا بالتسلسل والتحول.
Página desconocida
وقد جعلت أسباب ذلك فعل الأحوال المختلفة لسطح الأرض من جهة، وتغييرا تدريجيا في الجراثيم من جهة أخرى، ولم أفصل فعل هذه الأسباب أو العوامل كما ينبغي لعدم إمكان ذلك حينئذ. وما مرت خمس سنوات حتى ظهر كتاب دارون مؤيدا مذهب التحول.
فيرى مما تقدم أن مذهب دارون لم يبد فجأة كما قد يظن، بل بعد أن استعدت العقول له كثيرا في إنكلترا وفرنسا وألمانيا ولا سيما إنكلترا، وبعد أن عرف أصحاب التحقيق فساد المذهب القديم، إلا أنه كان يلزم إقامة آخر مقامه، وهذا حصل لما ظهر: (2) مذهب دارون
وهذا المذهب بسيط جدا بنفسه، والعجيب فيه أن الطبيعة تولد أشياء عظيمة لعوامل تكاد تكون بالنظر إلينا ضعيفة، وغير محسوسة بتجمع قواها فقط شيئا فشيئا على ممر الدهور والأدوار الجيولوجية الطويلة جدا، وهذا المذهب يذكرنا بالمثل السائر: «البساطة علامة الحقيقة.» على أن جميع الاكتشافات العظيمة والاختراعات والحقائق بسيطة جدا، وقريبة الفهم، وأول شيء يعرض للذين يعلمونها أن يتعجبوا كيف أنها لم تعلم قبل.
وعنوان كتاب دارون وحده يتضمن كل مذهبه مبدئيا، وهذا هو: «تولد الأنواع بواسطة الانتخاب الطبيعي، أو بواسطة حفظ الأصول الأكمل في تنازع البقاء».
وعندي أن هذا المذهب يقسم إلى أربع مسائل جوهرية، وإن لم يقسمه دارون كذلك، ودرسه على هذه الصورة يسهل فهمه جدا، وهي: (1)
تنازع البقاء. (2)
تكون التباينات أو تغير الأفراد. (3)
انتقال هذه التغيرات في النسل بالوراثة. (4)
انتخاب الطبيعة للمتغير من هذه الأفراد، الذي يكون فيه بعض أفضلية، وهذا الانتخاب يحصل بواسطة تنازع البقاء.
فهذه العوامل الأربعة إذا اجتمعت وفعلت معا، فنتيجتها التي هي استمرار تحويل الأحياء في الطبيعة تكون كأنها ذاتية.
Página desconocida
وأول هذه العوامل وأهمها هو:
تنازع البقاء
إن الاختبار يعلمنا أن جميع الأفراد من نبات وحيوان ميالة للتكاثر إلى ما يقل دونه الغذاء، وتضيق عنه الأرض؛ فإن السمك وفأر البيش مثلا لو صح نتاجهما جميعه، وكان الغذاء كافيا لضاقت عنه لجج البحر، وتغطت به الأرض، وبلغ ارتفاعها به أذرعا في بضع سنين.
8
ولو أخذنا أنواعا تكاثرها قليل كالفيل الذي هو أقلها نتاجا، لكان الحال كذلك أيضا مع الزمان الطويل؛ فإن أنثى الفيل لا تلد حتى تبلغ الثلاثين، ولا تلد من هذا السن إلى التسعين إلا ثلاثة أزواج فقط، ومع ذلك فقد حسبوا أنه إذا أخذ زوج واحد فقط ولم يعترضه ما يمنع تكاثره، ففي مدة 500 سنة يبلغ الناتج 15 مليونا من الفيلة. ولو أخذنا كذلك نبتا لا يعطي سوى جرثومتين في كل سنة، ففي عشرين سنة يبلغ عدد ما يعطي مليونا. وكذلك الإنسان الذي يتكاثر قليلا، ويتضاعف في كل 25 سنة، فلو صح جميع نتاجه لضاق عنه فسيح الأرض في بضعة آلاف من السنين.
ولنا على ذلك أمثلة معتبرة من الأنواع التي تكاثرت كثيرا جدا؛ لعدم وجود موانع كلية تمنع تكاثرها؛ فإن الخيل والبقر الوحشية التي تسرح سربا لا يحصى عددها في سهول أميركا الجنوبية الواسعة، إنما أصلها عدد قليل أتاها من أوروبا يوم غزوة الإسبانيول. وقد قدر همبلط عدد الخيل الوحشية في سهول بلاتا الواسعة بنحو ثلاثة ملايين. والنباتات والحيوانات التي أدخلت من أوروبا إلى أوستراليا المكتشفة حديثا قد تكاثرت حتى كادت تغطي الأرض هناك، وفازت على الأصلية منها. ويوجد في بلاد الهند الشرقية نباتات أدخلت إليها منذ اكتشاف أميركا، وقد امتدت من رأس كامورن إلى جبال حملايا.
فهذه الكثرة في النتاج تعترضها أسباب كثيرة، منها: مزاحمة الأفراد بعضها لبعض من جهة، وعدم موافقة الأحوال الخارجية للحياة من جهة أخرى، أو هو تنازع البقاء. وهذا التنازع على حالين: فاعلي ومفعولي، ويراد بالفاعلي ما كان بين الأحياء بعضها مع بعض، وبالمفعولي ما كان بينها وبين قوى الطبيعة الصامتة. قال دارون: إن الطبيعة تزرع الجراثيم بيد سخية إلا أن الكثير منها لا يبلغ تمام نموه، ويهلك ملايين منها على الدوام؛ لأن الطبيعة وإن جادت بالكثير فقد علقت هذا الكثير بأسباب التلاشي والهلاك.
ولدارون في وصف هذا التنازع للبقاء ما نصه:
إننا إذ نسمع تغريد الطيور في الليالي
9
Página desconocida
الزاهيات، ونرى الطبيعة باسمة عن ثغر الصفاء والسكون، لا يخطر لنا ببال أن جميع هذه السعادة إنما هي قائمة على تلاش في الحياة متسع ومستمر، فإن الطيور تغتذي من أنواع الذباب وبذور النبات، وننسى أيضا أنها هي العدد القليل الباقي من بين أخواتها التي سطت عليها الطيور الجوارح، وعبثت بأعشاشها أعداؤها من كل جنس، أو ألمت بها قساوة الفصول والجوع والبرد وغير ذلك.
ولا يخفى أن الفائز من الأفراد أو الأنواع أو غيرها على ما سواه في معمعة هذا التنازع للبقاء، هو ما تميز بينها بصفات جسدية أو عقلية تحقق له هذا الفوز. وهذه الصفات كثيرة جدا، فقد تكون الأقدام، أو القوة، أو كبر القد، أو صغره، أو وسائط الهجوم والدفاع، أو اللون، أو الجمال، أو السرعة، أو الصبر على الجوع، أو حسن الكساء، أو الحيلة، أو حسن التدبير في استحصال القوت، أو الحكمة في اتقاء الشر ... إلخ. ولعموم النوع هي كثرة النتاج (وإن كان فعل الكثرة محدودا جدا)، وللنبات موافقة التربة، أو قوة يقوى بها على المؤثرات الخارجية المضرة؛ فإنا لو قطعنا العشب المؤلف من نباتات مختلفة على مساواة الأرض، وكررنا ذلك فلا يقوى منه - والحالة هذه - على ما سواه إلا ما كان أكثر موافقة للتربة. وقد رأوا في امتحانات من هذا القبيل أن تسعة أنواع من عشرين نوعا هلكت. أو لو زرعنا بزورا مختلفة مخلوطة معا، ثم حصدناها وزرعنا بزور المحصود، وهكذا على زمان معلوم؛ فلا يبقى بعد حين من البزور الأصلية إلا القليل الأشد، والأكثر نتاجا، والأوفق للتربة. فلو تنازع نبتان في قفر لما بقي إلا أقواهما على احتمال اليبوسة، ولا يفوز في زمان القحط إلا من كان أشد صبرا على الجوع. والدبق ينازع ما جاوره من الأنواع بحلاوة إثماره التي تأكلها الطيور، وتنشر بذره أكثر من سواه. وبعض أنواع الغنم الجبلي إذا وضع بين أنواع أخرى أكثر منه وفاقا لأحوال الحياة فإنه يهلك، وهكذا العلقة الطبية أيضا. وذو الأجنحة الغشائية المائي إنما يغوص في الماء بسهولة؛ لتكوين خاص في رجليه يجعله متميزا على ما سواه من نوعه في القنص والهرب. وبعض الحيوانات يفيده لونه كالحجل الأبيض والدب الأبيض اللذين يقطنان في الجهات القطبية المغطاة بالثلج على الدوام، وكذلك الذباب الأخضر الذي يعيش على أوراق النبات. وبعضها يقيه فروه الذي يتلبد إذا أقبل الشتاء، وبعضها سرعته في الهرب أو شدته في القتال. ولنا أمثلة غريبة من هذا القبيل، كانقراض الفأر الأسود الإنكليزي تحت أنياب الفأر الرمادي الهنوفري، الذي قطع المانش على مراكب غوليوم دورانج. ولم يكن في مدينة سان فرنسيسكو في كليفورنيا سابقا غير الفأر الأبيض، إلا أنه انقرض أمام الفأر الأسود الذي جاء إليها بالمراكب الأوروباوية، وقد تكاثر فيها حتى بلغ ثمن القط خمسين ريالا. وانقرض نوع من الخطاطيف في أميركا لنوع آخر منها. وكانت نتيجة سرعة انتشار دج الدبق في إنكلترة انقراض الدج المغرد منها. وهذا التنازع في الوجود يطلق أيضا على الإنسان، ومن هذا القبيل ما هو معروف في التاريخ من انقراض أهل أميركا وأوستراليا المتوحشين لدخول أهل أوروبا بينهم.
ولا يبلغ التنازع معظمه إلا بين الأنواع الأقرب بعضها إلى بعض؛ لاشتراكها في المتنازع عليه، ويقل كلما ابتعدت بعضها عن بعض حتى يفقد. وكلما كانت الصورة قديمة كانت أضعف عن مقاومة خصومها الأحداث؛ لاتخاذ الأحداث في التنازع صورا أنسب للتغيرات الحاصلة في أحوال الحياة تجعلها أقوى. وكل صورة غلبت لا تعود أبدا؛ إذ لا تعود قادرة على الثبات في التنازع. ويتضح لنا كل ذلك على نوع عجيب في أوستراليا أو هولاندة الجديدة؛ فإن هذا القسم من العالم المنعزل جغرافيا عن كل منازعة لم تزل حيواناته ونباتاته متأخرة تشبه أحافيرنا المتكونة منذ زمان طويل. وأعلى حيواناته رتبة ذو الجراب الذي عاش في أوروبا في الدور الثاني، وتلاشى لتغلب أنواع أخرى عليه أقوى وأكمل. وإنما بقي مثل هذا الحيوان في أوستراليا إلى يومنا هذا، ولم يتلاش لعدم وجود منازع له شديد البأس، ولكن من يوم دخلها الإنكليز أخذ كل ما فيها بالتلاشي، حتى كاد يزول لعدم صبره على منازعة ما أدخلوه معهم. ولم يسمع قط ضد ذلك؛ أي إنه لم يسمع أن موجودات أوستراليا أمكنها أن تتأصل في أوروبا.
فإذا امتنع تكاثر الجانب العظيم من الحيوانات بسبب الجوارح منها، فالجوارح نفسها يمتنع تكاثرها أيضا؛ لقلة القوت الذي يقيم من نفسه حدا لنمو الحيوان لا يتعدى. وزد على ذلك أيضا تأثير الإقليم والبرد والحر، فقد ذكر دارون أن خمس الطير هلك في بعض أماكن في إنكلترا بسبب البرد القارس الذي حصل سنة 1854-1855، وما بقي منه إنما هو الأقوى والأكثر ريشا، والمتعود أكثر على طبيعة الإقليم. كما أن الذي يفوز باستحصال القوت في زمان القحط على مذهب دارون إنما هو الشديد، وصاحب الحيلة. ومن المعلوم أن التنازع مع القواسر الطبيعية - ولا سيما البرد - يشتد كلما صعدنا نحو الشمال، إلا أنه يكاد يتلاشى حيث تتغلب القواسر المذكورة لفرط شدتها. على أن تأثير الإقليم في نوع ما قد لا يظهر إلا إذا كان مع تنازع أنواع أخرى؛ فإن في حدائقنا نباتات كثيرة متحملة الإقليم جيدا، ولو تركت ونفسها خارج الحدائق بعيدة عن اعتناء الإنسان، لما استطاعت أن تثبت لمنازعة أقرانها والحيوانات لها. ويكاد شجر القطران في أكوسيا من أعمال إنكلترا يتلاشى للضرر الذي يلحقه من أبقارها فإنها ترعاه وهو صغير، ولكي يتنامى فيها لا بد من أن يتداركه الإنسان بما يصونه من مثل هذا الضرر، وقد يتوقف نجاحه في بعض البلدان على عدم وجود ذباب لو وجد لأضر به كثيرا. ولقد علم أن البقر والخيل والكلاب في بلاد باراجي لا تنتقل إلى الحالة الوحشية كما هو الغالب في باقي أميركا الجنوبية لذباب مجنح يكثر فيها، ويقتل صغارها بإلقاء بيضه في سراتها، فلو انتشر فيها بعض أنواع الطير الآكل الذباب لقل ذبابها، وكثرت بقرها وخيلها الوحشية أيضا، ولحصل تغير عظيم في نباتاتها التي تقتات منها، ولأثر ذلك في أحوال طيورها أيضا، وتداعت سائر أحوالها إلى حصول عدة تغيرات فيها الموازنة بينها.
فهذا الشاهد يرينا ما يفعله التنازع للبقاء في ظواهر الوجود من اختلاط الأعمال لما بينها من الارتباط الشديد. ولقد دقق دارون جدا في البحث عن هذا الارتباط، وبلغ فيه نتيجة عظيمة. من ذلك ما فسر به تلقيح كثير من النباتات بالذباب الذي يتردد عليها (كالنحل والزنابير وغيرها)، حاملا البلن
10
من زهرة إلى أخرى، ولولاه لما تلقحت النباتات المذكورة. وعدد الزنابير يتوقف على عدد فأر البيش الذي يخرب أوكارها، وعدد فأر البيش متوقف على عدد القطاط والبوم التي تفترسه ... وهكذا، بحيث إن وجود حيوان جارح في مكان يؤثر في نباتات ذلك المكان. ولنا شاهد أيضا فيما هو معلوم من دودة تظهر في شجرة القطران، ثم تختفي لاختفائه واسمها «ننا»، فحيثما كانت الدودة المذكورة كثر «الأكنمن» جدا؛ وهو حيوان يضع بيضه في جسدها فتموت، فإذا أقفر الغاب ماتت «الننا» لفقد قوتها فاختفى «الأكنمن» كأن لم يكن شيء من ذلك كله.
وهناك أيضا شاهد ثالث مأخوذ من جزيرة القديسة هيلانة، فإن هذه الجزيرة كانت في القرن السادس عشر يغطيها غاب كثيف، فلما أدخل أهل أوروبا المعز والخنازير إليها رعت الفروخ الصغيرة، فتعرت الأرض في ظرف قرنين، فطرأ على حيواناتها تغيرات جسيمة. ويلتقي في تربتها آثار حيوانات رخوة أرضية، وهي نوع كان موجودا في القديم، وقد انقرض اليوم، ولم يكن يوجد إلا في هذه الجزيرة.
فهذه الشواهد تكفي، وهي تبين أن كل جسم حي يرتبط في تكوينه وصفاته الخاصة ارتباطا شديدا - ولو أنه خفي غالبا - بغيره من الأجسام الحية التي تنازعه في قوته ومسكنه وغير ذلك. وهذا الأمر ظاهر جيدا - كما قال دارون - بأنياب النمر وأظفاره، كما هو ظاهر بمخالب الذباب الذي يتعلق بشعره.
وقد لاحظ هكل في كتابه المذكور سابقا على دارون أنه ذكر أمثالا فاسدة بجانب أمثال صحيحة، وعنده - أي هكل - أن تنازع البقاء بحيث يعدم الواحد الآخر لا يكون إلا بين الأجسام الحية فقط، وأما بينها وبين الضرورة فلا تكون غايته إعدام الحي، بل توفيقه لها كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم بقسمنا التنازع إلى فاعلي ومفعولي.
Página desconocida
فهذا ما نبسطه فيما خص تنازع البقاء الذي هو في الحياة الأدبية أيضا كما هو في الحياة الطبيعية. وبقي علينا لتتمة الموضوع أن نبسط الكلام على الأقسام الثلاثة الباقية، وهي تكون التباينات، ثم انتقال هذه التباينات بالوراثة، وأخيرا انتخاب الطبيعة لما هو أكثر صلاحية. فالأول وهو:
تكون التباينات
مبني على القاعدة المتحصلة من الاختبار، والتي وضعها دارون، وهي أن الأجسام الحية ميالة إلى التغير على أوجه مختلفة، وإلى حد محدود؛ أي إنها تنحرف عن الأصل الصادرة عنه ببعض صفات خصوصية، إما في السحنة أو اللون أو الكساء أو القد أو القوة أو تكوين بعض الأعضاء، فلا تشبه الأبناء الآباء شبها تاما مطلقا، ولا يجتمع اثنان مع كثرة الأجسام العضوية على شبه واحد، حتى ولا ورقتان على شجرة واحدة، بل يوجد دائما اختلاف ولو مهما كان قليلا. فالتحول إلى حد محدود هو إذن ناموس عام يطلق على جميع الأحياء. ولا يقال إن الحي يلد حيا نظيره، ولا يصح أن يقال أيضا إنه يلد حيا مختلفا عنه؛ لأن الوراثة ليست راسخة كما أنها غير متخلقة، فلو كانت راسخة لاقتضى أن يبقى العالم العضوي واحدا في جميع الأدوار وفي سائر الأحوال، وذلك بخلاف الواقع لما يعلم من اختلاف الأحياء العظيم في الأدوار الجيولوجية. ولو كانت متخلقة لاقتضى أن يحصل في الصور العضوية شذوذ يشرد بها ولا يرد إلى قياس، وهو ليس كذلك أيضا. والصحيح أن يقال: إن كل حي يلد حيا شبيها به، وعلى هذه القاعدة يشبه الابن أبويه بالصفات الجوهرية، ولا يشبههما أبدا بكل الصفات، ولو أن الاختلاف جزئي غير محسوس. ويشتد هذا الاختلاف كلما كانت سلسلة التسلسل أطول، فإن النباتات والأشجار الفسيلية أكثر شبها بأصلها من النباتات البزرية، والأشجار المثمرة المطعمة لا تنبت كذلك إلا إذا زرعت بالفسيلة، وترجع إلى أصلها البري إذا زرعت بالبزرة. على أن الاختلاف بين الأبناء والآباء هو غالبا جزئي جدا بحيث يخفى على غير المحقق؛ فإن قطيع الغنم قد يظهر للبعض أن كل واحد منه نظير الآخر، وأما الراعي فيعرف كل فرد منه بعلامة خصوصية. وهكذا كل زوج في سرب من الطير، فإنه يعرف بعضه ويجتمع به بسهولة.
فهذا الميل في الأحياء إلى التغير نتيجته تكوين التباينات، ولا يخفى ما له من الأهمية في صناعة تحسين الحيوانات الأهلية والأثمار والأزهار، سواء كان ذلك بتوليد تباينات جديدة بالتصالب أو بتثبيتها بعد توليدها.
وهذا على رأي دارون أصل الأنواع فإنها حاصلة عن انحصار بعض الصفات في بعض الأفراد، وانتقالها في النسل بالوراثة، وثبوتها فيه مع الزمان الطويل، فالتباينات على رأيه أنواع في حالة النشأة والأنواع تباينات واضحة جيدا وثابتة.
وربما لم يظهر الانتخاب الطبيعي واضحا حتى يتوهم الضد كما في الأماكن التي لا تتغير فيها أحوال الحياة الخارجية، كالإقليم والتربة والقوت والهواء وأقسام اليابسة والمياه، أو تتغير قليلا جدا مثل بلاد مصر، فإنها لموقعها الجغرافي لم يعرض لها منذ ألوف من السنين أدنى تغير يعتد به لا في إقليمها، ولا في سائر أحوالها الخصوصية، فلم تتغير نباتاتها ولا حيواناتها ولا أناسها. وأما في الأماكن المتغيرة أحوالها فبالضد من ذلك يكون الانتخاب الطبيعي ظاهرا واضحا جدا.
ولا يسع خصوم دارون أن ينكروا ميل الأحياء إلى الاختلاف وتكوين التباينات لما هو واضح ومسلم به عموما، إلا أنهم يزعمون أنه لا يتناول إلا الأعراض فقط كاللون والجلد والقد وغير ذلك، ولا يصل تأثيره إلى جوهر التكوين. وقد بين دارون بطلان زعمهم هذا، وأثبت أن الميل المذكور يصل إلى الجوهر أيضا، قال: إن الفرق بين النوع والتباين يمتنع تبيينه علميا، والاختلاف بين العلماء من هذا القبيل كبير، وليس لهم فيه تعريف مقبول، والذي أوقعهم في هذا الارتباك اعتبارهم النتاج حدا يفصل به النوع.
ولا تمر سنة إلا ويضع العلماء أنواعا جديدة، وكل منهم يميزها على هواه، فقد ذكر دارون أن النباتي الإنكليزي وستن يذكر 182 نباتا إنكليزيا عدها غيره أنواعا مع أنها تباينات . وقد قال هوكر في هذا المعنى ما نصه:
إن النباتيين يعدون الآن من 8000 إلى 15000 نوع من النبات، فالنوع إذن غير محدود. وإذا كنا لا نستطيع أن نتحقق انتقال الأنواع بأنفسنا؛ فلانحصارنا في دائرة من الاختبار ضيقة جدا.
وما قيل عن النبات يقال أيضا عن الحيوان؛ فإن فيه أصولا كثيرة يعدها بعضهم تباينات وبعضهم أنواعا. وقد قال جيبل أستاذ الحيوان، وقد بين لخصومه بطلان اعتقادهم في النوع: «إنهم كثيرا ما يعتمدون في تمييز الأنواع على اختلافات هي فيها أقل منها في فروع الجنس البشري.» وقال هكل: «إنه في صناعة تحسين النبات والحيوان كثيرا ما يحصل على اختلافات أهم من الاختلافات الطبيعية التي يعتبرها بعض الطبيعيين كافية لتقرير النوع والجنس أيضا.» والأستاذ برن مترجم دارون يقول أيضا: «إن القول بالأنواع لا أساس له، وليس ما يسوغه في طبيعة الأشياء.» ولأمر معلوم أنه كلما كان الطبيعي واسع الاطلاع في فنه أشكل عليه تمييز الأنواع؛ لزيادة علمه بالتباينات والصور التي بين بين. وعليه، فكلما اتسع العلم قل التصديق بالنوع؛ وهذا مما يدل على أن القول به لا أساس له إلا في عقل الإنسان.
Página desconocida
وأصحاب المذهب القديم قلما يعتبرون قيمة التباينات، بل بالضد يكرهونها؛ لأنها توقعهم في الارتباك من حيث الترتيب، وأما عند دارون ومن تابعه فهي ثمينة جدا؛ لأنها أصل الأنواع الجديدة. وقد تغيرت طرق الترتيب منذ قيام مذهب دارون، وصار يعتنى كثيرا بالتباينات التي كان يهمل أمرها سابقا؛ لعدم انطباقها على القاعدة المعول عليها عندهم. وقد ذكر ليل في هذا المعنى في كتاب «قدم الجنس البشري» أن أحد تجار الأصداف في لوندرة المتعمق جدا في العلوم الطبيعية، قال له ذات يوم إنه لا يخشى شيئا يقلل قيمة مجموعاته مثل ظهور رسالة في وصف بعض الحيوانات الرخوة الكبيرة وصفا جيدا؛ لأن كل نوع يدخل في صف التباينات لا يعود له مشتر. غير أن ليل يقول أيضا: «ولكن منذ ذلك الزمن زادت قيمة الحقائق العلمية جدا في إنكلترا، حتى كثر الطلب على الصور التي تصل بين الصور المنفصلة بعضها عن بعض انفصالا كبيرا، وأصبحت قيمتها أثمن من الصور الأصلية.»
على أنه لا ينبغي الاستنتاج مما تقدم أن كل تباين يصير نوعا وإن وافقته الأحوال كلا؛ فإن تباينات كثيرة تتلاشى في التصالب أو الانتخاب الطبيعي. ويزعم هكل أن الأنواع كلها غير متساوية في قابليتها للتغيير، فبعضها متغير جدا، وبعضها ثابت، وبعضها متغير إلى حد محدود. وسبب هذا الاختلاف على رأيه أحوال الحياة الخارجية، وكثرة انتشار النوع أو قلته ... وما شاكل ذلك. وعنده أن النوع البشري أكثر الأنواع وفاقا للأحوال.
فهذا ما نبسطه بشأن ما للأحياء من الميل إلى التغير. على أن ذلك لا قيمة له في مذهب دارون إلا بالوراثة التي تنقل الصفات المميزة للأنواع في النسل وأعلم أنها - أي الوراثة - تنقل الأمراض كما تنقل عيوب التكوين، مثل زيادة عدد الأصابع والأظفار، ومثل الجهر وتشقق الجلد، ولادية كانت كما تقدم، أو عارضة كالعيوب الحاصلة عن آفات طارئة. وكما أنها تنقل الصفات الجسدية تنقل الصفات الأدبية كذلك أيضا، كالشهوات، والأميال، والعوائد، والأخلاق، والعقل ... إلى غير ذلك. ومن عجيب أمرها أنها كثيرا ما تقطع الأجيال كامنة وتظهر في الأولاد بعد ذلك، وهذا الأمر يسمى عندهم «الأتافيسم»، ومعناه الرجوع إلى الجد، ونصطلح عليه بالدور الوراثي أو الرجعة، ولا فرق بين أن يكون من جهة الأب أو الأم. والانتقال الوراثي كان معروفا قبل دارون، لكن ليس كما ينبغي لفهم ما يترتب عليه، فكان إذا ذكر منه شيء يذكر على سبيل الغرابة، وأما اليوم فهو من أعظم الأمور التي يعتمد عليها في تاريخ ارتقاء العالم العضوي، وارتقاء الجنس البشري. على أن الأطباء منذ القديم قد انتبهوا إلى الوراثة المرضية، وعرفوا أن غالب الأمراض المزمنة قد يصير وراثيا، ويكمن في الجسد، ولا يظهر حتى سن معلوم كالسل الذي يفشو مع سن البلوغ. وعرفوا أيضا انتقال الأمراض المكتسبة، ولم يجهلوا أمر الدور الوراثي الذي تقرب الأولاد بموجبه من أجدادهم بالأميال والعوائد والأخلاق، والاستعدادات المرضية وصفات أخرى جسدية. قال فيرخو منذ نحو 10 أو 15 سنة في ذلك ما معناه: إن بدن الأب وبدن الأم يكسبان مادة الجرثومة، ومن ثم الولد الصادر عنها، حركة مادية ذات طبيعة خصوصية لا تسكن حتى الموت. وقد عرف أيضا ما سيكون لهذه المسألة من الأهمية، حيث قال: إنها ستكون أصح ما تبنى عليه فلسفة الطبيعة، ولقد أصاب؛ لأنه بالوراثة يتوصل إلى التعليل طبيعيا عن ظواهر كثيرة سواء كان ذلك في حياة الأفراد الجسدية، أو العقلية، أو حياة الشعوب أيضا، مما كان يعمد في تعليله عنه سابقا إلى قوى ما فوق الطبيعة، أو ينسب إلى استعداد في الأحياء لا يدرك، فالإنسان كما هو الآن، وكل ما يملكه ليس إلا نتيجة عمل شاق وبطيء، لم يفتر أبدا على مر الدهور الطويلة، وقائم على انتقال الصفات في الأجيال العديدة بالوراثة، سواء كانت هذه الصفات حسية أو معنوية ولادية، أو مكتسبة ليس إلا.
فالوراثة مهمة جدا في مذهب انتقال الأنواع، قال دارون في هذا المعنى ما نصه:
إذا كان من المقرر أن الاختلافات حتى أكثرها شذوذا، والتي لا تنطبق على جنس معلوم كنقص بعض الأصابع والأظفار أو زيادتها، وكالجهر وتشقق الجلد وغيرها، تنتقل في النسل بحرص، فكم بالحري ينبغي أن يكون كذلك في الاختلافات العادية التي يصح عليها جليا ناموس الوراثة الشامل لكل الصفات الفردية.
على أنه يقر بأن نواميس الوراثة الخاصة لا تزال مجهولة كليا، وعلى المستقبل أن يرفع الحجاب عن مكنوناتها.
11
وقد وصلنا الآن إلى آخر قضية من مذهب دارون وأهمها، وهي:
الانتخاب الطبيعي
ويسميه «برن» التحسين الطبيعي أيضا. ولا يكون إلا إذا كان للاختلافات الحاصلة في الفرد معنى في تنازع البقاء؛ فإن الاختلافات الفردية تكون ضرورة على إحدى ثلاث حالات: إما نافعة للمنازع، أو مضرة له، أو لا نافعة ولا مضرة، ففي الحالة الأخيرة لا يكون لها معنى فبقاؤها وعدمه على حد سوى. وكذلك أيضا إذا كانت مضرة؛ لأن الاختلاف الذي يحصل والحالة هذه تكون نتيجته أحد أمرين: إما ملاشاة الفرد، وإما ملاشاة الصفة. وتختلف نتيجته إذا كان نافعا، فيمتاز الفرد به على إخوانه وخصومه في تنازع البقاء، وينتقل هذا الامتياز إلى نسله وينمو فيه على مرور الأجيال. وهذا الامتياز في تنازع البقاء لا يحصل إلا بعد جهد جهيد، فلكي يؤلف الفرد به نوعا جديدا لا يكفي امتيازه به مرة واحدة، بل يلزم لذلك أحيانا مائة جيل أو ألف جيل، أو عشرة آلاف جيل. وهذا الأمر يعتبر جدا في مذهب دارون، فإن الزمان في تاريخ الأرض ومتكوناتها له المقام الأول، وإنا ليتولانا الذعر إذا افتكرنا في عدد السنين الذي اقتضاه تعاقب الأدوار الجيولوجية، فوجودنا بالنظر إلى ذلك لا يكاد يحسب لحظة.
Página desconocida
فدارون في علم الحياة اقتفى آثار ليل في علم الجيولوجيا، وكلاهما فتحا لنا السبيل لفهم أعظم أعمال الطبيعة القائمة على أسباب أو قوى ظاهرها ضعيف وقليل الأهمية، إلا أنها ذات فعل، وإن كان بطيئا فإنه يتجمع مع الزمان الطويل، ويأتي بكل ما نرى.
فالانتخاب الطبيعي أساس مذهب دارون، ولكي يفهم معناه كما ينبغي، لا بد من معرفة الأسباب التي دعته إلى القول به. فهو إنما توصل إليه بدرس علم تحسين الحيوانات والنباتات الأهلية الصناعي، وهذا العلم كما لا يخفى قد بلغ مبلغا عظيما بنتائجه العجيبة، ولا سيما في إنكلترا وطن دارون حيث يوجد أناس متفرغون لذلك. وقد أجرى دارون نفسه امتحانات كثيرة من هذا القبيل، ولكي يتأكد بالعيان فعل هذه الصناعة انخرط في جمعيتين في لوندرة تشتغلان بتربية الحمام، فتحقق بنفسه أن التباينات الكثيرة للحمام إنما أصلها كلها اليمام؛ أي الحمام البري، لأنها قد تحتوي بعض الصفات الخاصة به والدالة على أصلها. وربما اشتبه بها أنها أنواع لشدة الاختلاف بينها، فإنه لا يقتصر فيها على الصفات الظاهرة فقط، بل يتناول أيضا تكوين الهيكل والبيضة وأمر الطيران وغير ذلك. قال دارون: «إني ما كنت أظن قبل تربيتي الحمام أن كل هذه التباينات يجوز أن يكون مصدرها صورة واحدة!»
وعلى رأي دارون إن الإنسان قد بلغ الغاية القصوى في التحسين الصناعي؛ لأنه يستطيع أن يجمع في أصل واحد أقل الاختلافات الفردية بواسطة الانتخاب الصناعي. وميل الصور إلى التغير أو الانحراف عن الصورة الأصلية، يتضح جليا في الأحياء الواقعة تحت فعل التربية أكثر من الواقعة تحت فعل الطبيعة؛ لكثرة اختلافات أحوال الحياة في الحالة الأولى وشدة تأثيرها، كحسن المسكن وغزارة القوت. على أن هذه القابلية - أي الميل إلى التغير - لا تفقد أبدا؛ فإن أقدم نباتاتنا الأهلية كالقمح لا يزال يعطي تباينات حتى يومنا. ومبدأ التحسين الصناعي قد كان معروفا منذ القديم، وكان الرومانيون القدماء والصينيون وغيرهم يعتنون به. ويظهر أنه معروف أيضا عند شعوب أفريقيا المتوحشين. على أن كل إنسان يربي حيوانات ونباتات يستخدمه ولا يدري؛ لأنه يختار دائما للتربية أحسن الحيوانات والنباتات، ككلاب الصيد وجياد الخيل وغيرها. والمتوحشون أنفسهم الذين يجهلون ذلك كليا يستعملونه على غير علم منهم بحقيقته كما في زمان القحط، فإنهم لا يبقون إلا أفضل الحيوانات اللازمة، ويقتلون ما سواها، أو يتركونه وشأنه بلا عناية.
وإذا كان علم تربية الحيوان قد تقدم كثيرا في إنكلترا؛ فلاعتناء أصحاب الحيوانات من ذوي الثروة فيها به؛ فإنهم لامتلاكهم عددا وافرا منها كان أحدهم إذا وجد أحد أفراد القطيع مميزا ببعض صفات حسنة يربيه ويعتني به، حتى يحسن به كل القطيع رويدا رويدا. وهكذا توصل أهل إنكلترا إلى تحسين حيواناتهم الأهلية، بحيث صارت بقرهم المختارة للذبح ذات بطن ضخم، وسيقان نحيفة، ورأس صغير لا قرون لها، وصار لهم خنزير «للجامبن» وللشحم - ويسمى عندهم الممتلئ دما - وغنم للصوف وديوك وكلاب «بلدج» للقتال، وحمام لحسن المنظر، وخيل لحسن الصورة، وأخرى للسباق، وهذه الأخيرة المولدة من جياد خيلهم وخيل العرب تفوق جدا الأصل المولدة منه. وقد توصل الإنسان في تربية الأزهار والأثمار والخضر بواسطة التحسين الصناعي إلى نتائج عجيبة جدا، كالجذر الذي هو في أصله البري يابس وقاس، فإنه اكتسب بالتربية طعمه المعروف. وكل الأثمار اللذيذة نتيجة اعتناء الإنسان بها، وانتخابه لأفضلها على مدة طويلة من السنين. وقد لا يكفي الانتخاب الصناعي وحده، فيقرن بالتصالب بين الفروع للحصول على فرع جامع فيه كل الصفات الحسنة في غيره. على أن الانتخاب وحده إذا اعتني به كما ينبغي فإنه قد يعطي نتائج أغرب جدا من ذلك، ومثاله غنم «أطر» في أميركا، ولم يذكره دارون مع أنه من أعظم الأمثلة على ما يستطيع المربي أن يناله بالتربية، فقد وجد في «مصاشصتس» خروف بدنه طويل جدا، وساقاه الأماميتان قصيرتان فاستحسن فيه هذا التكوين؛ لأنه لا يستطيع معه أن يقفز من فوق سور الحظيرة، فاعتني بتربيته حتى انتشر على قسم كبير من أميركا الشمالية حيث بقي خمسين سنة، ثم جاء غنم إسباني اسمه «مورينوس» أو مور فأزاحه؛ لأن صوفه أكثر من صوفه وأجود منه. وقد ذكر «عذارا» مثالا كذلك في باراجي، حيث قال: إنه ولد سنة 1770 ثور بلا قرون فاستحسنه المربون فربوه، ولم يزل حتى اليوم بقر باراجي البلدية عديمة القرون على شهادة «رل».
فيرى من هذه الأمثلة كم هي متنوعة طرق التحسين الصناعي، ودارون يقول بالاستناد إلى ذلك ما معناه: «كما أن الإنسان في طاقته أن يحسن الفروع صناعيا بانتخابه الأفراد التي يكون فيها بعض الصفات الموافقة لغاية ما، ثم يثبتها إما بالتصالب، وإما باستمرار تحسينها بعد الولادة، هكذا تفعل الطبيعة أيضا؛ فإنها تجمع التغيرات النافعة للفرد، وتنقلها في نسله من جيل إلى جيل، والفرق الوحيد بين عمل الإنسان والطبيعة، هو أن الإنسان يعمل عن علم بالشيء؛ ولذلك كان عمله يتم في زمن بالنسبة إلى الطبيعة قصير، وأما الطبيعة فيلزم لنجاحها زمان أطول من ذلك بكثير.» ويقول - أي دارون - أيضا أنه إذا كان الإنسان يحصل على مثل ذلك في الانتخاب، فكم يجب أن يكون هذا الأمر أعظم في الطبيعة التي لا تنتخب لمصلحتها كما يفعل الإنسان، بل لمصلحة المنتخب نفسه، والتي تشتغل بلباقة أكثر وقوة أعظم منه؛ لذلك فإنها لا تفتر لحظة واحدة عن جعل أقل التغيرات في الأحياء ممكنة، فإن كانت جيدة حسنتها وإلا لاشتها، ولهذا السبب كانت الألوان التي تقي بعض الحيوانات من مطاردة أعدائها لها، وكان رأس منقار صغار الطير الرخص الذي تشق به قشرة البيضة التي تكون ضمنها، ولون ناقر الخشب الذي يتسلق الأشجار، ويفتش على الذباب تحت القشر، وتكوين مخالبه ومنقاره وذنبه ولسانه لمناسبة ذلك لجنس معيشته، ولهذا السبب عينه كانت قوائم المعزى السريعة العدو، وبصر الجوارح الحاد وسلاحها القوي، وله أيضا ولانتخاب يسمى جنسيا قرن الأيل القوي وعرف الديك.
12
وكذلك أيضا طول عنق الزرافة التي ترعى أفانين الأشجار العالية، وهذا المثال ذكر في الكلام على مذهب لامرك، وإذ ذكرناه هنا فلا بد لنا من أن نبين وجه الفرق فيه بين مذهب لامرك ومذهب دارون.
قد تقدم أن لامرك يجعل سبب هذا الطول في عنق الزرافة الضرورة أو العادة التي تضطرها للتطاول إلى الأشجار العالية، وأما دارون فيختلف عنه في التعليل عن سببه، حيث يقول: إن الزرافة الحالية آتية من أصل أصغر منها، وهذا الأصل قد انقرض منذ زمان طويل، فلم يكن عنقها في الأصل طويلا كما هو اليوم، ولا باقي أعضائها ناميا كذلك (بناء على أن الأعضاء متناسبة في الجسم الحي)، وبقيت على هذه الحالة زمانا ربما كان مائة سنة، أو ألف سنة، أو أكثر أو أقل، بدون تغير جوهري فيها؛ لعدم تغير أحوال حياتها حتى حصل يبس شديد ماتت به كل الأشجار إلا أشدها؛ أي أعلاها، فماتت كل الزرافات الصغيرة التي في عنقها قصر يحول بينها وبين الحصول على قوتها، وبقيت الكبيرة الطويلة الأعناق. وانتقل ذلك في نسلها إلى أولادها، وبقيت هكذا حتى أصابها أيضا ما أصابها في المرة الأولى، فماتت قصارها، وبقيت طوالها ... وهكذا. وما زال هذا الأمر يتكرر فيها، حتى بلغ بها في الأدوار الطويلة والأجيال العديدة إلى ما هي عليه اليوم. وليعلم أن مثل هذه التحولات يتم بمساعدة قوة شديدة يسميها دارون النمو المشترك، ويراد به أن أعضاء جسم حي ذات نسبة بينها ثابتة لا تتغير، بحيث لو تغير عضو لرافقه تغير أيضا مناسب له في سائر الأعضاء، فقد شوهد أن طول القوائم يكون مع طول العنق، وأن الحمام القصير المنقار رجلاه قصيرتان أيضا، وأن القطاط التي عيونها زرق هي عادة صماء، وأن الكلاب العديمة الشعر أسنانها ناقصة ... إلخ. وقس على ذلك باقي أمثلة لامرك.
على أنه لا ينبغي أن يظن من ذلك أن دارون ينكر تأثير الأسباب التي يذكرها لامرك، كلا بل بالضد يعترف بتأثيرها ويضعها في مقام رفيع بجانب الانتخاب الذي يعده في المقام الأول. والأسباب المذكورة هي كما تقدم العادة والاستعمال والضرورة، ومن الأمثلة التي يذكرها دارون يعلم ما لهذه الأسباب عنده من القيمة في أمر التغيرات الحادثة؛ فلأجلها كانت عظام رجلي البط الأهلي أقوى، وعظام جناحيه أضعف من البط البري، وكذلك البقر والمعزى التي تحلب دائما فإن حلماتها تصير كبيرة، وأكثر الحيوانات الأهلية آذانها مرتخية؛ لقلة لزوم استعمالها بخلاف الوحشية فإنها شديدة فيها، وكل الطيور من طائفة النعام أجنحتها ضامرة؛ لأنها لا تطير، والخلد لقيامه دائما تحت الأرض هو في غنى عن العينين؛ ولذلك هما أثر فيه، وغير ذلك كثير.
ويعترف دارون أيضا بتأثير الأحوال الخارجية للحياة التي يعتبرها كثيرا جفروي سنتيلير، كالإقليم والتربة والقوت والنور والهواء وأقسام اليابسة والمياه ... إلخ، إلا أنه يجعلها دون الانتخاب الطبيعي؛ فإن تأثير الأشياء الخارجية وتغيراتها الدائمة على سطح الأرض - المتغير على الدوام - كل ذلك مهم جدا، حتى ظن كثير من العلماء أنه يكفي وحده للتعليل عن التغيرات الدائمة في العالم الحي، وما حصل فيه من الارتقاء. فنحن نعلم مع قلة اختبارنا أن كساء الحيوانات متوقف على الإقليم، ولونها على القوت أو النور أو المساكن التي تقيم فيها عادة، وكبرها على كثرة القوت أو قلته وغير ذلك، غير أن هذه الأحوال الخارجية التي سيأتي بيانها مفصلا لا يسعها على رأي دارون أن تفسر المطابقة الكلية في الأحياء للأشياء الخارجية المحيطة بها، ولأحوال حياتها، ولاحتياجاتها ... إلخ، فمثل هذه المطابقة الكلية لا يكون إلا نتيجة الانتخاب الطبيعي الذي هو العامل الأكبر، وأما باقي العوامل كأحوال الحياة الخارجية واستعمال الأعضاء وعدمه، والعادة، والنمو المتناسب، والوراثة، والتصالب إلى غير ذلك فيعمل معه بالاشتراك أيضا.
Página desconocida
وإنه ليصعب، بل يستحيل علينا أن نعرف كم يخص كلا من هذه الأسباب العديدة من كل من النتائج المختلطة الصادرة عن عملها المشترك. ويظن دارون أنا غالبا لا نعرف شيئا عن النواميس التي تتغير الأحياء بموجبها، وإن ما نستطيعه من ذلك إنما هو التأكيد بوجود هذه النواميس. على أنه مهما كانت فلا يسعنا أن ننكر وجوب حصول تجمع ثابت في التغيرات الطفيفة الموافقة للفرد بواسطة الانتخاب الطبيعي.
13
ولا يظن أن تجمع الصفات الموافقة في الفرد ودوام هذا التجمع فيه يسعيان به نحو الكمال في كل الأحوال، فإنه مهما كان سلطان التحسين والتكميل عظيما فلا تحصل عنه هذه الغاية دائما؛ لأنه قد يكفي أن يكون في الفرد امتياز، ولو قليل المعنى، حتى يقوى على أقرانه، ولو كان أضعف منها في باقي الصفات.
وقد يكون الامتياز أحيانا سببا للانحطاط ككبر القد، والعافية في حين فقد القوت. وعليه، فالارتقاء يصاحب تغيرات الفرد غالبا لا دائما ووجوبا، فربما تقهقر الفرد ووقع في الحئول كما في الدب الأسمر الحالي، فإن أصله دب الكهوف الذي كان أكبر منه وأقوى، ولكنه انحط إلى حالته الحاضرة لتغيرات في سطح الأرض، وفي المسكن، والقوت ... وما شاكل. وكذلك الديدان البطنية فإن أصلها من دودة كانت سابقا في الخارج أكمل منها، ولكنها فقدت بعض أعضائها لتغير جنس معيشتها في القناة الهضمية فانحطت. والسريبيد (حلزون مائي) الذي كان له قوقعة كلسية لما كان مستقلا فتعرى من قوقعته إذ صار حلميا يعيش على حيوانات أخرى، وذلك نتيجة الانتخاب الطبيعي؛ لأن القوقعة النافعة له في الحالة الأولى لا تنفعه في الثانية، بل ربما أضرته إذ تزيده ثقلا لا معنى له. وعلى ذلك، فكل جزء لا يعود فيه فائدة يفقد رويدا رويدا.
ولنا في جعلان جزيرة مديرا شاهد على ما يحصل من الضرر بسبب الامتياز، فقد قال دارون: إن غالب الجعل هناك لا يطير لنقص في جناحيه؛ وسبب ذلك عنده أن ما كان منه قادرا على الطيران يسوقه الريح ويلقيه في البحر فيهلكه، ولا يبقى منه إلا العاجز، فينتقل تكوينه منه إلى نسله وهو لا يخرج من مكانه إلا بعد طلوع الشمس وانكسار شدة الريح، ويكثر قيامه في الأماكن الرطبة بجانب الصخور التي تقيه من الريح، وإذا وجد منه ما يطير في بعض الأماكن في الجزيرة المذكورة كان جناحاه قويين جدا لمقاومة الرياح. فذلك شاهد على الانتخاب الطبيعي مشتركا مع عدم استعمال الأعضاء.
فمن هذه الأمثلة وكثير غيرها يعلم أن الانتخاب الطبيعي لا يؤدي إلى الارتقاء دائما، وإن أدى إليه غالبا. على أن الارتقاء كثيرا أو قليلا في العالم العضوي لا حقيقة له واضحة، ويلزم الانتباه إلى ذلك إذا نظر إلى الشيء على مذهب دارون، فإن الحال المناسب في ظروف معلومة من الزمان والمكان قد لا يناسب في غيرها، فإن التكوين الكامل إذا كانت أحوال الوجود بسيطة يكون نقصا لا امتيازا؛ ولذلك كان الانتخاب الطبيعي يجعل في مثله والحالة هذه تقهقرا لا ارتقاء. ولا ننس ما قلناه سابقا، وهو أن الانتخاب لا يكون في كل قوته إلا حيث يكثر ازدحام الأحياء المتنازعة؛ ولهذا السبب كان وقوف بعض الأنواع وارتقاء البعض الآخر، فإنه قد يعرض لبعض الأنواع أن يكون بمعزل عن كل منازعة؛ لشدة بساطة أحوال حياته فيبقى ثابتا غير متغير، كالحيوانات الرخوة الدنيئة التي لم تزل واقفة على درجة واحدة في سلم الحياة منذ زمان طويل جدا، وهكذا غيرها مما لم يتغير إلا قليلا جدا، وربما كانت صور قريبة منها موجودة، ولكنها ارتقت سريعا، ولم تبق أصولها. ولا ننس أيضا أن الحركة البطيئة التي يصدر عنها العالم العضوي لم تسكن قط، وأنها ما زالت كما كانت صاعدة من البسيط إلى المركب، وأنه لا تزال صور جديدة أولية تتولد أيضا وتنمو على مقتضى نواميس النمو في الطبيعة.
فمما تقدم يعلم لماذا لا يزال كثير من الصور غير كامل، وفي حالة دنيئة جدا في مدى الأدوار الجيولوجية على رغم الانتخاب الطبيعي. وقد كاد مذهب دارون يضعف لأجل ذلك، لولا أنهم وافوه بالتعليل الشافي من هذا القبيل؛ فإن هذه الصور الثابتة أو المتغيرة قليلا لا وجود لها إلا في عديمات الفقر؛ أي في أدنى طبقات الحيوان. وأما ذوات الفقر - ومنها الإنسان - فتسير دائما نحو الكمال إلا فيما ندر كذوات الجراب منها، فإنها قلما تغيرت عما كانت عليه في الدور اليوراوي
14
الذي كان ظهورها فيه. وبحسب القاعدة التي وضعها ليل أن الصور العضوية تكون أثبت كلما كانت أدنى في سلم الحياة، وأشد تغيرا كلما كانت أعلى؛ وسبب ذلك في الصور الدنيا بساطتها من حيث التركيب وقبول التأثير من جهة، وعدم تغير أحوال حياتها الخارجية من جهة أخرى. وأما في الصور العالية فسببه اختلاط تركيبها وشدة انفعالها مع تغير أحوال حياتها الخارجية؛ مما يجعلها متغيرة جدا.
وقد ضرب دارون مثلا لإدراك الرابط الذي يربط الأحياء بعضها ببعض، قال: إنها كشجرة ذات أغصان خضراء متفرعة هي الأنواع الباقية، وأغصان يابسة هي الأنواع المنقرضة. فالأغصان النامية لا تنمو هكذا إلا حتى تضر بغيرها، ولا تنمو أفانينها كذلك حتى تضر بما جاورها أيضا، فلكي تبقى الأنواع نامية لا بد لها من أن تتغير، وكل تباين فهو أشد حيوية من الأصل الصادر عنه، وكل نوع لا يتغير لا يثبت، وإذا زال لا يعود. وكلما كان الجنس قريب العهد في التكوين - أي كلما طال الزمان عليه في الأدوار الجيولوجية حتى تكون - كان أكثر أنواعا؛ أي كان أقدر على الحياة، بخلاف الأجناس التي عهد ظهورها بعيد، فإن أنواعها تقل حتى تتلاشى رويدا رويدا، وأقوى الأحياء ما في دورنا، فإنه لا يثبت أمامه شيء مما تقدمه كما هو معروف في زيلاندة الجديدة.
Página desconocida
15
وكانت الصور الحية في الدهور الغابرة أقرب بعضها إلى بعض، ثم تشعبت من حول أصلها الأول، وأخذت تتباعد يوما عن يوم حتى كثرت الصور الجديدة. فالصور القديمة إذن ذات صفات تتوزع وتتخصص، وتكون الأجناس المختلفة ويسميها أغاسيز الصور الأنبائية
16
أو الأصول المتقدمة. وهذه الأصول الأولى لا تلتقي إلا في جزائر منفردة حيث التنازع قليل كالأرنيثورنقس العجيب (حيوان ذو منقار)، واللالبيدوزير وغيرها.
وقد رد دارون أيضا على من يرى عدم ارتقاء كثير من الصور الحية تخطئة لمذهبه بما معناه أن كثيرا من الحيوان، بل غالبه فيه أعضاء موروثة لا فائدة لها، وقد تكون مضرة لاختلاف أحوال الوارث عن الموروث عنه، كرجلي الفرقاطة
17
مثلا فإنها في غنى عن الغشاء بين الأصابع؛ لأنها لا تعوم كأجدادها التي كان مثل هذا الغشاء لازما لها، وأمثال ذلك كثيرة جدا في الحيوان والنبات، وتسمى أعضاء أثرية؛ أي ضامرة أو ناقصة النمو، ولم يكن يعني بها سابقا إلا للترتيب، وأما غايتها فلم تكن معروفة. ومن هذه الأعضاء العيون الأثرية لحيوانات الكهوف، وأجنحة الطيور وأنواع الذباب التي لا تطير، والأثداء في ذكور ذوات الثدي،
18
والحوض والطرفان السفليان في الحيات والأسنان التي توجد في أجنة الحوتة، ولا يبقى إلا أثرها في كبارها، والأسنان القواطع الأثرية في الفك العلوي للعجول، والأسنان الأثرية في الطيور، وهذا الأخير من أعظم أمثلة الوراثة وقرابة الأنواع. والإنسان فيه أيضا بقايا كثيرة من طائفة ذوات الثدي الذي هو منها ولا فائدة لها، كعظم العصعص، وعظم ما بين الفكين الذي اكتشفه غاتي، والزوائد الدودية في القناة الهضمية.
19
Página desconocida
واعلم أن فعل الوراثة في الحياة الجنينية أظهر منه في سواها؛ فإن في الجنين في الأدوار الأولى من حياته شقوقا على كل جانب من عنقه، شبيهة بالأصداغ التي تتنفس بها ذوات الفقر الدنيا التي لا رئة لها، والشرايين تنعكس على نفسها لتتصل بها، كأن التنفس الصدغي مزمع أن يصير، ثم يتغير هذا التكوين ويتحول إلى سواه. والرئة نفسها في أعلى ذوات الثدي ليست إلا النفاخة التي يعوم بها السمك، ولكنها نامية ومركبة أكثر منها. والتنفس في اللابيدوزير الذي هو بين السمك والحشرات في التكوين قائم بالأصداغ والرئتين معا، ويرى فيه واضحا أن الرئة ليست سوى نفاخة مفصولة بحواجز كثيرة جدا، ومفتوحة إلى الفم. ومبدأ التكوين الجنيني واحد، فإن جميع الحيوانات المختلفة تتشابه بعضها مع بعض في أول درجات الحياة الجنينية، وتنشأ جميعها من صورة واحدة أولية. قال الشهير باير أستاذ علم الأجنة: إن أجنة ذوات الثدي والطيور والجرذان والأفاعي والسلاحف - أي طوائف الحيوان المتباعدة - تتشابه في أولها، وليس بينها فرق إلا من جهة الكبر، ويقول أيضا: إن هذه المشابهة قد تبقى حتى أول ظهور الحياة. ويرى أكثر من ذلك أيضا، فإن جنين أعلى ذوات الفقر كالإنسان يمر في نموه بدرجات الحيوانات التي دونه، ليس الحية فقط، بل الأحفورية أو السابقة أيضا. وأغاسيز وهو من خصوم دارون يقول أيضا ما نصه:
إنه لأمر يسوغ لي التصريح به الآن على سبيل الإطلاق أن أجنة جميع الحيوانات الحاضرة وصورها مهما كانت رتبتها، هي الصور الحية المصغرة لأصولها الأحفورية.
فهذه الأشياء لا تتفق مع المذهب القديم؛ أي مذهب الخلق إذ لا معنى لها فيه، بل هي منافية له أيضا، وربما عبثت بعلم اللاهوت. وأما على مذهب دارون فمعناها واضح، وهي من أعظم الأدلة على صحته، وبدونه يستحيل علينا أن نفهم لماذا الإوز الذي لا يعوم له غشاء بين أصابع رجليه، ولماذا كان في الأجسام الحية أعضاء زائدة، بل مضرة أحيانا، ولماذا هذا التشابه بين الأحياء كما يعلم من تشريح المقابلة، ولماذا هذه الوحدة في التكوين الجنيني، وما معنى الأعضاء الأثرية. فلو لم تكن الأحياء مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا جوهريا من أدناها إلى أعلاها، لما اقتضى أن يكون بينها ذلك.
على أن دارون لم يحصر الأحياء في أصل واحد، وربما كان ذلك لعدم جسارته لا لسبب آخر، فجعل الحيوان من أربعة أو خمسة أصول أولى مخلوقة منذ زمان طويل كل أصل زوج، وكذلك النبات. غير أنه لم يصمت عن ذلك كليا، بل قال في آخر كتابه:
إن المشابهة وأسبابا غيرها كثيرة تدعونا ضرورة إلى الاعتقاد بأن الأحياء أصلها واحد ... وأن لا فاصل جوهري بين العالمين؛ عالم النبات وعالم الحيوان.
غير أنه يحترس مستدركا على نفسه حيث يقول أيضا:
إني أرى فيما يظهر لي أن الأحياء التي عاشت على هذه الأرض جميعها من صورة واحدة أولية، نفخ الخالق فيها نسمة الحياة، على أن أساس هذه النتيجة المشابهة، فالتسليم بها وعدمه غير جوهريين.
فهذا القول غير قياسي، ويجعل المذهب ناقصا، وربما نقضه أيضا. وقد قام الأستاذ برن مترجم دارون ضده؛ لأنا إذا سلمنا بأفعال خلق خصوصية لثمانية أو عشرة أزواج أصلية، فما المانع من إطلاق هذا الخلق على جميع الأحياء؟ وما الداعي بعد ذلك لتفسير ظهورها على سبيل طبيعي؛ لأنه سيان عند الفيلسوف حصول الفعل الخالق مرة أو مرات، فالتسليم به ولو مرة إقامة المعجزة مقام الناموس الطبيعي. فليس لنا إلا أن نتوسع بمذهب التسلسل الذي وضعه دارون حتى آخره، ونجعل العالم العضوي يشتق من صورة واحدة أصلية بسيطة جدا من الكرية أو البييضة. قال برن: «كيف يسوغ لنا أن نستغرب هذا الأمر الذي نراه كل يوم بأعيننا؟ أليس الجسم العضوي حتى الأكثر كمالا كالإنسان يتكون رويدا رويدا من كرية واحدة أو البييضة؟» ا.ه.
فالنمو بالبيضة لا يقتضي له وقت طويل، ويتم في بضع ساعات أو أيام أو أسابيع أو أشهر، والبييضة حوصلة كروية صغيرة جدا مكروسكوبية غالبا، ومؤلفة من غشاء دقيق شفاف يتضمن مادة لزجة ومن نواة، وهذا الكل يؤلف أيضا نواة لحوصلة أخرى أكبر منها هي البيضة. ولا يسبق الفهم إلى بيضة الدجاجة، فإن بيضة الدجاجة والطير تختلف عن سائر البيضات، ولا سيما بيضة ذوات الثدي؛ لأن بيضة الدجاجة يحيط بها مح مغذ، ثم زلال، ثم قشرة؛ أي كل ما يلزم لتكوين حيوان جديد، وأما بيضة ذوات الثدي فليس فيها شيء من ذلك كله، بل يصلها غذاؤها مما جاورها من بدن الأم. وعليه، فكل جسم عضوي نباتا كان أو حيوانا منشؤه من بيضة، ونموه فيها بسيط بانقسام المادة اللزجة التي يتضمنها المح، فيتحول المح إلى جواهر عضوية تسمى كريات جبنية، وهذه الجواهر تتنامى وتتحول إلى جميع الصور الممكنة، وتكون الجسم الحي بإضافة كريات جديدة، فالعمل كله راجع إلى تنامي الكريات بالانقسام.
على أن الإحاطة بهذه المسألة من خصائص علم الأمبريولوجيا - أي علم تكوين الأجنة - وأما نحن فعلينا أن نعلم فقط أن جميع الأجسام العضوية منشؤها من أبسط الصور المعروفة؛ أي الكرية، وأن نموها كائن بانقسام هذه الكرية انقساما بسيطا جدا في ظاهره. وهذا النمو الفردي الذي نراه ونراقبه في كل أدواره جار على نفس ما هو جار عليه نمو كل العالم العضوي المتكون من كريات أولية، هي نفسها متكونة منذ ملايين من السنين في قعر البحار الأولى.
Página desconocida