تخصيص الوجوب بالعبادات قوله ﵊: «خذوا عني مناسككم وصلوا كما رأيتموني أصلي» وظاهر المنطوق الوجوب، لأنه أمر، ومفهومه أن غير المذكور لا يجب وهو المطلوب، ولحديث بريرة قالت: «يا رسول أفأمر منك أم تشفع، قال إنّما أنا أشفع، فقالت لا حاجة لي به»، فدل على أن ما عدا الأمر الجازم لا يجب الاتباع فيه، وأصل التخيير التسوية، فإذا خير بين ذلك الفعل وبين ما علم وجوبه كان ذلك الفعل واجبًا، أو خير بينه وبين مندوب كان ذلك الفعل مندوبًا، أو بينه وبين ما معلمت إباحته كان ذلك الفعل مباحًا.
سؤال: قال بعض فضلاء العصر: قول العلماء التخيير يقتضي التسوية يشكل بأن رسول الله ﷺ أتى ليلة الإسراء بقدحين أحدهما لبن والآخر خمر، وخُير بينهما فاختار اللبن، فقال له جبريل ﵊ لو اخترت الخمر لغويت أمتك، فالخمر موجب للإغواء، ومع ذلك خير بينة وبين موجب الهداية وهو اللبن، وموجب الهداية مأمور به، وموجب الغي والإغواء منهي عنه، فقد وجد التخيير لا مع الاستواء في الأحكام.
جوابه: أن الحكم الشرعي كان في القدحين واحدًا، وهو الإباحة، غير أن الشيئين قد يستويان في الحكم الشرعي، فيكون اختلافهما بحسب العاقبة لا بحسب الحكم الشرعي، كما انعقد الإجماع على جواز بناء ما شئنا من الدور وشراء ما شئنا من الدواب وزواج ما شئنا من النساء، ومع ذلك إذا عدل الإنسان عن إحدى هذه إلى غيرها أمكن أن يقول له صاحب الشرع: لو اخترت تلك الدار أو الدابة أو المرأة لكانت مشئومة، كما جاء في الحديث، وإن كان للعلماء فيه خلاف في تأويله، غير أن ذلك لا يمنع التمثيل، فإنه يكفي الإمكان، فما يتوقع في العواقب لا يغير الحكم الشرعي، كذلك القدحان حكمهما الإباحة، وأخبر جبريل ﵊ أن الله تعالى ربط بأحدهما حسن العاقبة وبالآخر سوء العاقبة وذلك غير الأحكام الشرعية.
نعم: لو قال جبريل ﵇ لو اخترت الخمر لأثمت أشكل. أما العواقب