158

Sharh Tafsir Ibn Kathir

شرح تفسير ابن كثير

Géneros

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم)
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:٢١ - ٢٢].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [شرع ﵎ في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشًا، أي: مهدًا كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات، «وَالسَّمَاءَ بِنَاءً» وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء:٣٢]، وأنزل لهم من السماء ماء -والمراد به السحاب هاهنا- في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد، رزقًا لهم ولأنعامهم، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن.
ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر:٦٤]، ومضمونه أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)].
أول أمر في القرآن الكريم هو هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة:٢١]، وفي الآيات السابقة بيان أوصاف المؤمنين، وأوصاف الكفار ظاهرًا وباطنًا، وأوصاف المنافقين، ثم بعد ذلك وجه الله ﷾ الأمر إلى عباده المؤمنين بأن يعبدوه فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ أي: وحدوه وأخلصوا له العبادة، وبيَّن ﷾ أنه مستحق للعبادة؛ لما له من النعم العظيمة، فقد أوجد الخلق من العدم، وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة.
وقوله هنا: (اعبدوا ربكم) فيه توحيد العبادة، وقد استدل عليه بتوحيد الربوبية، فتوحيد الربوبية دليل على توحيد الإلهية، فالذي خلقكم وأوجدكم من العدم ورباكم بنعمه وأسبغ عليكم نعمه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه؛ لأنه المنعم والمتفضل والخالق، ويستحق العبادة لما له من الأسماء الحسنى والصفات العظيمة، فهو ﷾ الحميد الرازق الرزاق المدبر الخالق المحيي المميت، ولأنه ﷾ هو الذي أوجد الخلق من العدم، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.
وكثيرًا ما يدلل ﷾ على استحقاقه للعبادة بتوحيد الربوبية كما في هاتين الآيتين.
وفي سورة النمل دلل ﷾ في آيات متعددة على استحقاقه للعبادة بتوحيد الربوبية، قال تعالى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [النمل:٥٩ - ٦٠].
ثم قال: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا﴾ [النمل:٦١] الآية، وقال: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل:٦٢] الآية، وفي كل آية يقول: «أإله مع الله»، وقال: ﴿أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [النمل:٦٣ - ٦٤].
وفي هذه الآية قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:٢١] أي: كما أنكم -أيها المشركون- تقرون بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر، وهو الذي أنزل من السماء ماءً، وهو المنعم على عباده، فتقرون بهذا كله ولا تنكرونه، فأفردوه بالعبادة، فلماذا تشركون معه غيره؟! ولماذا لا تفردونه بالعبادة؟! فائدة: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات واحد؛ لأن فيهما إثبات حقيقة ذات الرب وأسمائه وصفاته، وهو التوحيد العلمي الخبري، وأما توحيد الإلهية فتوحيد ثانٍ، وهذا هو الأصل كما قال هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (التدمرية) وغيره، لكن لما كثر الاشتباه في الأسماء والصفات فأنكرت المعطلة الأسماء والصفات، فصل العلماء توحيد الأسماء والصفات عن توحيد الربوبية وجعلوه قسمًا مستقلًا، وإلا فهما شيء واحد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود ﵁ قال: قلت: (يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك) الحديث.
وكذا حديث معاذ: (أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا) الحديث].
في حديث معاذ: (أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ فقال معاذ: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذبهم).
ففي حديث معاذ بيان للحقين: الحق الأول: حق الله، وهو حق إيجاب وإلزام، وليس للإنسان فيه خيرة، بل هو عبد لله مخلوق لعبادة الله، وأما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك فهو حق تفضل وإكرام منه ﷾، وهذا هو الحق الثاني، وقد أوجبه سبحانه على نفسه ولم يوجبه عليه أحد؛ لأنه ليس فوقه أحد ﷾، فأوجبه على نفسه من نفسه ولم يوجبه عليه أحد، كما كتب على نفسه الرحمة، وكما حرم على نفسه الظلم، فحرم على نفسه من نفسه، وكتب على نفسه الرحمة تفضلًا منه وإحسانًا، كما قال القائل: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع

22 / 2