الجزء الأوّل
[المقدمة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير أنبيائه ورسله وخير من أشرقت عليه الشمس سيّدنا ونبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد؛ فإن كتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» للقاضي عياض، من الكتب التي عدّها كثير من العلماء والمحققين من خير الكتب في موضوعه، فقد قال عنه المقري في أزهار الرياض: مما كمل تأليفه، رضوان الله عليه، «الشفا» الذي بلغ فيه الغاية القصوى، وسار صيته شرقا وغربا، ولقد لهجت به الخاصة والعامة، عجما وعربا، ونال به مؤلفه وغيره من الرحمن قربا. ثم قال: وفضائل هذا الكتاب لا تستوفى، ولا يمتري من سمع كلامه العذب السهل المنور في وصف النبي ﷺ أو وصف إعجاز القرآن، أن تلك نفحة ربانية، ومنحة صمدانية، خص الله بها هذا الإمام، وحلاه بدرها النظيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وقال القاري: كتاب «الشفا» في شمائل صاحب الاصطفاء أجمع ما صنف في بابه مجملا في الاستيفاء.
وقد اعتنى الأئمة بشرح هذا الكتاب والتعليق عليه، وكما اعتنى الناس بذلك اعتنوا أيضا بتصحيحه وضبطه وإتقانه. فمن العلماء الذين شرحوا الشفا، نذكر:
١- الشهاب الخفاجي، وقد شرحه شرحا مطولا، أسماه: «نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض» .
٢- شرح «الملّا علي القاري» وقد شرحه شرحا متوسط الطول. وهو الكتاب الذي بين أيدينا.
٣- الشيخ حسن العدوي الحمزاوي، وقد شرحه شرحا مختصرا، وأسماه:
«المدد الفياض» .
1 / 3
٤- كتاب «مزيل الخفا عن ألفاظ الشفا» تأليف العلامة تقي الدين أحمد بن محمد بن حسن الشمني التميمي الداري الحنفي.
٥- كتاب «المقتفى في حل ألفاظ الشفا» تأليف العلامة برهان الدين إبراهيم بن محمد بن خليل الحلبي سبط ابن العجمي.
٦- ولما كان القاضي عياض قد اعتمد في مؤلفه «الشفا» على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فقد عنى السيوطي به، وخرّج أحاديثه في كتابه: «مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا» .
1 / 4
ترجمة القاضي عياض
هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض بن محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي. وهو من أهل سبتة، وأصله من مدينة بسطة.
ولد في منتصف شعبان من سنة ست وسبعين وأربعمائة، وتوفي، ﵀، بمراكش مغربا عن وطنه وسط سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
وقدم الأندلس طالبا للعلم، فأخذ بقرطبة عن جلة علمائها.
وأخذ بالمشرق عن القاضي الصدفي، وعن غيره وعني بلقاء الشيوخ والأخذ عنهم، وجمع من الحديث كثيرا، وله عناية كبيرة به واهتمام بجمعه وتقييده.
وقد استقضى ببلده، مدينة سبتة، مدة طويلة حمدت سيرته فيها، ثم نقل منها إلى قضاء غرناظة، فلم تطل مدته بها.
وقال هو عن نسب أجداده: استقر أجدادنا في القديم بجهة بسطة من بلاد الأندلس، ثم انتقلوا إلى مدينة فاس وكان لهم استقرار بالقيروان، فلا أدري أكان قبل استقرارهم بالأندلس أم بعد.
قال: وكان عمرون والد جد أبي رحمة الله على جميعهم، رجلا خيرا صالحا، من أهل القرآن، انتقل من مدينة فاس إلى مدينة سبتة بعد دخول بني عبيد المغرب «١» .
وقال عنه ابنه: نشأ أبي على عفة وصيانة، مرضيّ الحال، محمود الأقوال والأفعال، موصوفا بالنّبل والفهم والحذق طالبا للعلم، حريصا مجتهدا فيه، معظما
_________
(١) الصلة (١/ ٤٥٣)، أزهار الرياض (١/ ٢٨) .
1 / 5
من الأشياخ من أهل العلم، كثير المجالسة لهم، والاختلاف إليهم، إلى أن برع أهل زمانه، وساد جملة أقرانه؛ فكان من حفاظ كتاب الله تعالى، مع القراءة الحسنة، والحظ الوافر من تفسيره وجميع علومه.
وكان من أئمة الحديث في وقته، أصوليا متكلما، فقيها حافظا للغة والأخبار والتواريخ، حلو الدعابة، صبورا حليما، حسن العشرة جوّادا سمحا، دؤوبا على العمل، صليبا في الحق «١» .
وفي أزهار الرياض يتمثل بقول ابن عاصم في وصف عياض: قد كان، ﵀، علم الكمال، ورجل الحقيقة، وقارا لا يخفّ راسيه، ولا يعري كاسيه، وسكونا لا يطرق جانبه، ولا يرهب غالبه؛ وحلما لا تزل حصاته، ولا تمهل وصاته، وانقباضا لا يتعدّى رسمه، ولا يتجاوز حكمه؛ ونزاهة لا ترخص قيمتها، ولا تلين عزيمتها، وذهنا لا يخبو نوره، ولا ينبو مطروده، وفهما لا يخفى فلقه، وحفظا لا يسبر غوره، ولا يذبل نوره، وطلبا لا تتحد فنونه، ولا تتعيّن عيونه، بل لا تحصر معارفه، ولا تقصر مصارفه «٢» .
وقال الملاحي: كان القاضي ﵀ بحر علم، وهضبة دين وحلم، أحكم قراءة كتاب الله بالسبع، وبلغ من معرفته الطول والعرض، وبرّز في علم الحديث، وحمل راية الرأي ورأس في الأصول، وحفظ أسماء الرجال، وثقب في علم النحو، وقيّد اللغة، وأشرف على مذاهب الفقهاء وأنحاء العلماء، وأعراض الأدباء «٣» .
وقال المقري في أزهار الرياض: وكان القاضي أبو الفضل كثير الاعتناء بالتقييد والتحصيل.
قال ابن خاتمة: كان لا يبلغ شأوه، ولا يبلغ مداه في العناية بصناعة الحديث، وتقييد الآثار، وخدمة العلم من حسن التفنّن فيه، والتصرف الكامل في فهم معانيه، إلى اضطلاعه بالأداة، وتحققه بالنظم والنثر، ومهارته في الفقه، ومشاركته في اللغة
_________
(١) أزهار الرياض (٣/ ٢٧) .
(٢) أزهار الرياض (٣/ ٦) .
(٣) أزهار الرياض (٣/ ٧) .
1 / 6
والعربية، وبالجملة فقد كان جمال العصر، ومفخر الأفق، وينبوع المعرفة، ومعدن الإفادة، وإذا عدّت رجالات المغرب فضلا عن الأندلس حسبناه منهم.
وقال: وكان، ﵀، معظّما للسنّة، عالما عاملا، خاشعا قانتا، قوّالا للحق، لا يخاف في الله لومة لائم، وكان معتنيا بضبط الألفاظ النبوية على اختلاف طرقها، وكتابه «المشارق» أزكى شاهد على ذلك.
وكان حاضر الجواب، حادّ الذهن، متوقّد الذكاء، جامعا للفنون، أخذ منها بالحظ الأوفر، وكان بارع الخط المغربي، حسن العبارة، لطيف الإشارة؛ وتآليفه شاهدة بذلك. وله في الفقه المالكي اليد الطولى، وعليه المعوّل في حل ألفاظ المدونة، وضبط مشكلاتها، وتحرير رواياتها، وتسمية رواتها.
1 / 7
ترجمة الملّا علي القاري «١» (٠٠٠- ١٠١٤ هـ ٠٠٠- ١٦٠٦ م)
علي بن (سلطان) محمد، نور الدين الملّا الهروي القاري: فقيه حنفي، من صدور العلم في عصره. ولد في هراة وسكن مكة وتوفي بها. وقيل: كان يكتب في كل عام مصحفا وعليه طرر من القراآت والتفسير فيبيعه فيكفيه قوته من العام إلى العام. وصنف كتبا كثيرة، منها «تفسير القرآن- خ» ثلاثة مجلدات، و«الأثمار الجنية في أسماء الحنفية» و«الفصول المهمة- خ» فقه، و«بداية السالك- خ» مناسك، و«شرح مشكاة المصابيح- ط» و«شرح مشكلات الموطأ- خ» و«شرح الشفاء- ط» و«شرح الحصن الحصين- خ» في الحديث، و«شرح الشمائل- ط» و«تعليق على بعض آداب المريدين، لعبد القاهر السهروردي- خ» في خزانة الرباط (٢٥٠٣ ك) و«سيرة الشيخ عبد القادر الجيلاني- ط» رسالة، ولخص مواد من القاموس سماها «الناموسن» وله «شرح الأربعين النووية- ط» و«تذكرة الموضوعات- ط» و«كتاب الجمالين، حاشية على الجلالين- ط» جزء منه، في التفسير، و«أربعون حديثا قدسية- خ» رسالة، و«ضوء المعالي- ط» شرح قصيدة بدء الأمالي، في التوحيد، و«منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر- ط» ورسالة في «الرد على ابن العربي في كتابه الفصوص وعلى القائلين بالحلول والاتحاد- خ» و«شرح كتاب عين العلم المختصر من الإحياء- ط» و«فتح الأسماع- خ» فيما يتعلق بالسماع، من الكتاب والسنة ونقول الأئمة، و«توضيح المباني- خ» شرح مختصر المنار، في الأصول، و«الزبدة في شرح البردة- خ» في مكتبة عبيد. ونقل لي عن هامشه، بشأن الخلاف حول اسم أبي صاحب الترجمة، الحاشية الآتية: «ودأب العجم أن يسموا أولادهم أسماء مزدوجة مثل فاضل محمد وصادق محمد وأسد محمد واسم أبيه سلطان محمد. فهو من هذا القبيل على ما سمع وأما كونه من الملوك فلم يسمع» .
_________
(١) انظر الأعلام للزركلي (٥/ ١٢، ١٣) .
1 / 8
[خطبة الكتاب]
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي أنزل القرآن شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، وشفى به من كان اشفى على شفائر جهنم من الكافرين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وسيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وأتباعه أجمعين إلى يوم الدين.
(أما بعد) فيقول أفقر العباد إلى كرم ربه الباري علي ابن سلطان محمد القاري لما رأيت كتاب الشفاء في شمائل صاحب الاصطفاء، أجمع ما صنف في بابه مجملا في الاستيفاء لعدم إمكان الوصول إلى انتهاء الاستقصاء، قصدت أن اخدمه بشرح يشرح بعض ما يتعلق به من تحقيق الاعراب والنباء، رجاء أن أسلك في سلك مسالك العلماء يوم الجزاء، فأقول وبالله التوفيق، وبتأييده ظهور التحقيق، أن المصنف رحمه الله تعالى كان وحيد زمانه وفريد أوانه، متقنا لعلوم الحديث واللغة والنحو والآداب، وعالما بأيام العرب والأنساب، ومن تصانيفه المفيدة الاكمال في شرح مسلم، كمل به المعلم في شرح مسلم، للمازري ومنها مشارق الأنوار فسر به غريب الحديث ومنها الشفا في حقوق المصطفى ومنها شرح حديث ام ذرع إلى غير ذلك وله أشعار لطيفة متضمنة المضامين منيفة مولده منتصف شعبان سنة ست وسبعين واربعمائة وتوفي يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة وقيل في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة قال: (بسم الله الرحمن الرحيم) اقتداء بالكلام المجيد واقتفاء بالحديث الحميد ثم قال (اللهمّ صلّ على محمّد، وآله) أي وأتباعه المتضمنين لأصحابه (وسلّم) وهذا طريق المغاربة حيث يأتون بالتصلية والتحية بين البسملة والحمدلة كما في الشاطبية ولعل فيه اشعارا بأن البسملة المشتملة على نعت الألوهية وصفات الرحمانية والرحيمية بمنزلة شطر الشهادتين من كلمة التوحيد فلا بد من انضمام الشطر الآخر لإتمام معنى التمجيد ليترتب على توفيق تحصيل هذا المقام مقال التحميد ثم في بعض النسخ المصححة قبل قوله الحمد لله (قال الفقيه) وفي نسخة الشيخ الْفَقِيهُ (الْقَاضِي الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضُ بن موسى بن عياض) بكسر العين (اليحصبيّ) بتثليث الصاد والفتح أخف وبه ثبتت رواية الشاطبي وهو نسبة إلى يحصب بن مالك قبيلة من حمير باليمن (رحمة الله عليه) ولا شك أن هذا الادخال من المقال صدر من بعض أرباب الكمال من تلاميذ المصنف أو من بعده ولكن اللائق في فعله أن يأتي به قبل البسملة ليقع الكل من مقوله. ولعله تحاشى من تقديم ذكره فوقع وهم في حقه فالأولى أن يفعل مثل هذا العنوان وراء الكتاب على قصد التبيان أو بقلم آخر أو لون مغاير في هذا المكان ثم تحقيق مباحث البسملة والحمدلة وما يتعلق بهما من وجوه التكملة قد كثر في تصانيف العلماء وتآليف الفضلاء، وقد ذكرنا طرفا منها في بعض
1 / 9
تصانيفنا كما هو دأب البلغاء والمقصود بعون الملك المعبود هو أن المصنف قال (الحمد لله) بالجملة الاسمية لإفادة الديمومية لأن الفعل دال على اقتران مدلوله بزمان والزمان لا ثبات له فكذا ما قارنه واللام فيه للاستغراق عند أهل السنة خلافا للمعتزلة إذ كل كمال إنما هو لله ﷾ في حقيقة الحال أو طريقة المآل (المنفرد باسمه الأسمى) وفي نسخة المتفرد من باب التفعل بمعنى المتوحد الممتاز عن المشاركة فمآلهما واحد في المعنى وان اختلفا في المبنى والأسمى افعل التفضيل من السمو وهو الارتفاع أي الممتاز عن المشاركة في اسمه الأعلى والإضافة للتعميم فإن لله الأسماء الحسنى وكل واحد منها في مرتبته هو الأعلى والأغلى وأغرب الشمني في تفسير الأسمي بالعالي (المختصّ) صفة لله كالمنفرد ويجوز قطعهما بنصبهما أو رفعهما أي المخصوص (بالملك الأعز الأحمى) أي الموصوف باختصاص الاستيلاء على البلاد والعباد باطنا وظاهرا على وجه الأعزية الذي لا يحوم حوله ذل ومغلوبية لأنه في غاية المنعة ونهاية الحماية بحيث لا يقربه أحد أولا وآخرا والملك بضم الميم فإنه أبلغ من كسرها وعليه النسخ المصححة والأصول المعتمدة. وقال التلمساني: هو بضم الميم وكسرها (الّذي ليس دونه) أي قريب منه (منتهى) أي موضع غاية ومحل نهاية فيفيد معنى البقاء فإنه أول قديم بلا ابتداء وآخر كريم بلا انتهاء أو المراد أنه ليس للقرب منه نهاية يدركها أحد ولو كان من أهل العناية ويلائمه قوله (ولا وراءه مرمى) مقتبس من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم ليس وراء الله مرمى ولا منتهى أي ليس غيره أو بعده مقصد للورى وأصل المرمى بفتح الميمين موضع الرمي شبه بالغرض والهدف الذي ينتهي إليه سهم الرامي. قال النابغة:
وليس وراء الله للمرء مذهب وفي النهاية أي ليس بعد الله لطالب مطلب فإليه انتهت العقول ووقفت فليس وراء معرفته والإيمان به غاية تقصد وحاصل الجملتين انه تعالى ليس في جهة ولا في حيز ومسافة ليكون للقرب غاية وللبعد منه نهاية، وأما القرب والبعد الثابت في نحو حديث ولا مقرب لما باعدت ولا مباعد لما قربت فإنما هو القرب والبعد المعنوي لا الصوري والحسي وإنما كمال القرب في الحب بحيث لا يشهد السالك إلا الله ويفني عن شهود ما سواه حتى يفني عن نفسه ويبقى ببقاه ونهاية البعد هو الغفلة عن الله على وجه يشاركه ما خلقه وسواه (الظّاهر) أي بالأدلة الدالة على وجوده وكمال كرمه وجوده لعين الحقيقة في شهوده (يقينا) وقطعا (لا تخيّلا) أي لا ظنا بالقوة الخيالية (ووهما) بسكون الهاء أي ولا وهما كما في نسخة مصححة ولا غلطا بالقوة الوهمية والمراد أن الله تعالى ظاهر بصفاته لدلالة مصنوعاته وظهوره لنا ليس على جهة ظن ووهم منابل ظهورا يغلب نورا أدركناه بعيون بصائرنا في الدنيا وسيرونه الأحباء بعيون أبصارهم في العقبى والحاصل أن جميع المخلوقات دالة على وجوب وجوده وألوهيته وتحقيق وحدانيته:
ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
1 / 10
(الباطن) وفي نسخة والباطن أي باعتبار ذاته دون صفاته (تقدّسا) أي تنزها فإنه كما قال الغزالي وغيره كل ما خطر ببالك فالله وراء ذلك (لا عدما،) بضم فسكون لغة في المفتوحين أي لا فقدا وعدما إذ لا يقتضي عدم ظهوره نفي وجوده ونوره لانه قد ثبت بالدليل القطعي قدمه وما ثبت قدمه استحال عدمه والتحقيق المتضمن للتدقيق على وجه التوفيق أنه باطن لا يدرك أحد حقيقة ذاته ولا يحيط أحد بكنه صفاته وهذا بالنسبة إلى ما سواه فإنه لا يعرف الله إلا الله ونصبهما على التمييز وأما قول الدلجي تمييز أو تعليل لكونه باطنا فهو وان كان صحيحا في هذا المبنى لكن التعليل لا يصح بحسب المعنى في قوله (وسع كلّ شيء رحمة وعلما) أي أحاط بكل شيء رحمته وعلمه فإن كل شيء لا يستغني عن رحمته إيجادا وامدادا وعلمه شامل للجزئيات والكليات احصاء واعدادا والجملة مقتبسة من قوله تعالى:
رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا والاقتباس أن يتضمن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث على وجه لا يكون فيه إشعار بأنه منه (وأسبغ) أي أكمل بالرحمة الخاصة والعلم المختص بالهداية (على أوليائه) أي المؤمنين على قدر كمالاتهم ومراتب حالاتهم (نعما) بكسر ففتح جمع نعمة، وفي نسخة بضم فسكون مقصورا لغة في النعمة لكنه يكتب بالياء مع انه غير ملائم لقوله: (عمّا) بضم المهملة وتشديد الميم جمع عميمة وهي العامة الشاملة التامة ووهم من قال من المحشيين انها جمع عمة فإنه يقال نخل عم نخلة عميمة والحاصل أن رحمته وسعت كل شيء في أمر الدنيا لكن له رحمة خاصة بأرباب العقبى كما قال:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الآية. وكذا علمه بكل شيء محيط بمعنى المعية كما قال: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ لكن لأرباب الخصوص معية خاصة كما يدل عليه قول موسى ﵊: إِنَّ مَعِي رَبِّي وقول نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم للصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه: «لا تحزن إن الله معنا» وتأمل التفرقة بين الكلامين فإن الثاني مشير إلى مقام جمع الجمع والأول مشير إلى مقام التفرقة والمنع، وأما ما ذكره الدلجي من أن تصدير هذه الفقرة بالواو الموضوعة للجمع دون ما قبلها مع أن أجزاء الصفات المتعاقبة على موصوف واحد مشعرة به يلوح بزيادة جمعية وارتباط معية ففيه مناقشة خفية لأن أجزاء الصفات المفردة يؤتى بها من غير واو الجمعية في الجمل الاسمية، كقوله تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ مع جواز إتيان العاطف بخلاف الجمل الفعلية، ولهذا قال: (وبعث) أي أرسل الله (فيهم) أي في أوليائه ولأجل أحبائه، ولذا قيل إنه لم يرسل في الحقيقة إلى أعدائه ثم المؤمنون هم المراد بأوليائه لقوله تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ (رَسُولًا) أي نبيا مرسلا أمر بتبليغ الرسالة موصوفا بكونه (من أنفسهم) بضم الفاء أي من جنسهم العربي أو البشري دون الملكي للحكم الإلهي (أنفسهم) بفتح الفاء ونصب السين أي أشرفهم وأعظمهم في نفوسهم فالأول جمع النفس بسكون الفاء والثاني افعل من النفيس وجمع بينهما كما قرىء في الآية بهما ونصب أنفسهم الثاني على أنه صفة رسولا أو
1 / 11
بدل أو حال. وفي البعض الحواشي ضبط بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف أي هو أنفسهم من نفس بالضم صار مرغوبا فيه لشرفه (عربا وعجما) بضم فسكون فيهما وهو لغة في فتحتيهما والمراد بالعرب هنا أعم من سكان القرية والبادية كما أن المراد بالعجم ضد العرب الشامل لأهل الفارس والترك والهند وغيرهم ونصبهما على التمييز. وقال الدلجي: حالان لازمان من ضمير أنفسهم وردا بيانا لنوعي المنفوسين، وأما قول بعضهم في حاشيته وأنفسهم بفتح الفاء أي أعلاهم وخيارهم وهو من النفاسة ولا يجوز ضمها لأن الضمير عائد إلى الأولياء فخطأ ولعله مبني على أن لفظ أنفسهم لم يكن مكررا عنده وإلا فإن أراد عدم جواز الضم في أنفسهم الثاني فلا كلام فيه إلا أن تعليله لا يصح وان أراد مطلقا فغلط محض (وأزكاهم) أي أطهرهم وانما هم (محتدا) بفتح الميم وكسر الفوقية أي أصلا وطبعا (ومنمى) بفتح الميمين مصدر ميمي أي نموا وزيادة وارتقاء، وقد ذكر الحلبي وغيره أنه إذا كان الفعل معتل اللام مثل رمى فقياس المصدر منه مفعل مثل نمى منمى ورمى مرمى وسرى مسرى انتهى. وفيه أن مصدر الثلاثي المجرد مطلقا يجيء على مفعل بفتح العين قياسا مطردا كمقتل ومضرب ومشرب كما في الشافية فلا وجه لقيده بالمعتل نعم هذا القيد يعتبر في أسمى الزمان والمكان منه والله أعلم. واختار الدلجي أنهما اسما مكان فمحتد من حتد إذا أقام والمراد بهما مكة المشرفة فإن للأمكنة دخلا ما في شرف الأخلاق وطهارتها وحسن الافعال ونجابتها (وأرجحهم) بالنصب عطفا على أنفسهم الثاني أي أرزنهم (عقلا) أي تعقلا (وحلما) أي تحلما (وأوفرهم) أي أتمهم (علما وفهما) وفي نسخة بالعكس رعاية لحلما والفهم هو العلم وسرعة ادراك الشيء فالحمل على المعنى الثاني أولى واختلف في حقيقة العقل والأقرب قول القاضي أبي بكر العقل علم ضروري بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات ولعله اراد به تعريف العقل الكامل والله تعالى أعلم. وقيل الفهم إزالة الوهم (وأقواهم) أي أشدهم، وفي نسخة أوفاهم أي أزيدهم (يقينا) أي علما زال فيه الريب تحقيقا (وعزما) أي اهتماما بالغا ليس فيه رخصة ما فقيل جدا وقيل صبرا (وأشدّهم) أي بهم كما في نسخة صحيحة (بهم رأفة) أي زيادة رحمة (ورحما) بضم فسكون أي رحمة وعطفا. قال الله تعالى: وَأَقْرَبَ رُحْمًا. قرأ الشامي بضم الحاء والباقون بسكونها. وفي نسخة مقصور وهو تعميم بعد تخصيص لا مجرد تغاير لفظي كما ذكره الحلبي وفيه إيماء إلى قوله تعالى:
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، ثم من قوله: (لا تخيلا ووهما) إلى هنا منصوبات على التمييز خلافا لما بعده ولذا فصله بقوله: (زكّاه) بتشديد الكاف أي طهره (روحا وجسما) فهما بدلان من الضمير فإنه عينهما لا غيرهما على خلاف التمييز. وقال الدلجي: مميزان حولا عن كونهما مفعولين وإيراد هذه الفقرة بلا عاطف دون ما قبلها لكمال انقطاع بينهما لاختلافهما ثبوتا وسلبا انتهى. وهو وهم منه وغفلة صدرت عنه لأن هذا الكلام إنما يصح لو عطف في زكاه وترك العطف في حاشاه، ثم المراد بالجسم الجسد وهو جسم كثيف ظاهري بخلاف
1 / 12
الروح، فإنه جسم لطيف باطني، أما تزكية روحه صلى الله تعالى عليه وسلم فلكونه أشرف الأرواح المطهرة لا من أشرفها كما قال المحشي فإنه كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم:
«أول ما خلق الله روحي وسائر الأرواح، إنما خلق ببركة روحه ونور وجوده» كما روي لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك فإنه صحيح معنى لو ضعف مبنى، وأما تزكية جسده فلشق جبريل ﵇ صدره واستخراج حظ الشيطان منه وغسله بماء زمزم لا بماء الجنة كما قاله المحشي إلا أنه إن صح رواية يجمع بينهما دراية، ويمكن أن يكون الروح والجسم كنايتين عن الخلق والخلق، فإنهما مزكيان من جانب الحق وأغرب المحشي حيث قال في رأفة ورحما اشترط من أجاز العطف أن لا بد من زيادة معنى في المعطوف. وقال هنا فيه دلالة على جواز العطف وان تغاير اللفظان والمعنى واحد من غير زيادة. وأبعد الحلبي حيث تبعه في الموضعين، وقال هنا: وهذا لا زائد ولا مساو، ولعله فعل ذلك للسجع انتهى. وقد بينت لك الفرق بين الرأفة والرحمة، وأما الفضل بين الروح والجسد فظاهر للعامة فضلا عن الفضلاء الخاصة (وحاشاه) أي نزهه الله وبرأه (عيبا ووصما) أي عارا على ما صرح به في القاموس فهو تخصيص بعد تعميم خلافا لمن زعم أنهما متساويان، وتبعه الحلبي والدلجي ثم نصبهما بنزع الخافض أي من غيب ووصم (وآتاه) بالمد أي اعطاه الله تعالى (حكمة) وهي في الأصل ما يمنع من الجهالة فإنها مأخوذة من الحكمة بفتحتين وهي اللجام المانع من النفور أي علما بالشرائع المشتملة على الحكم المبنية على الاتقان والأحكام (وحكما) بضم فسكون أي قضاء بالأحكام. قال المحشي وتبعه الدلجي فيه تجنيس التحريف وهو تحريف من أحدهما والصواب التطريف وهو أن يختلف المتجانسان في إعداد الحروف وتكون الزيادة في الآخر على ما في شرح مختصر التلخيص ثم هما منصوبان على المفعولية الثانية. وأغرب التلمساني بقوله: هما مترادفان وجمعهما للتأكيد (وفتح به) أي فتح الله تعالى بسبب نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم (أعينا عميا) عن رؤية الحق وهو بضم فسكون جمع عمياء بفتح فسكون ممدودا.
وأبعد التلمساني حيث قال: عميا صفة للأعين وهو جمع أعمى. وقال المحشي: كان الأولى أن يأتي بجمع كثرة لكن قد يأتي جمع القلة بمعنى الكثرة كقوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ بمعنى جنان، وقد تأتي الكثرة بمعنى القلة كقوله تعالى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ أي اقراء، وتبعه الحلبي وقالا الأولى أن يأتي به جمع كثرة لكنه تبع الحديث الصحيح والمراد به هنا وبالحديث الكثرة انتهى.
وقال الحافظ العسقلاني الكثرة العددية من الأمور النسبية فيحتمل أن يكون العدول عن جمع الكثرة في الحديث إلى جمع القلة للإشارة إلى أن الكفار أكثر من المسلمين (وقلوبا) جمع قلب وسمي به لتقلبه في أيدي مقلب القلوب ﷿ كما قال الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ... ولا القلب إلا انه يتقلب
(غلفا) بضم فسكون جمع أغلف كأنه جعل في غلاف فهو لا يعي، وَقالُوا قُلُوبُنا
1 / 13
غُلْفٌ أي ذوات غلف لا تعي كلمة الحق ولا تفهمها لأنها لا تصل إليها (وآذانا) بمد الهمزة جمع اذن (صمّا) بضم فتشديد ميم جمع صماء لا أصم كما سبق أي لا تسمع النصيحة، والحاصل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أتاهم بآيات واضحة ومعجزات لائحة فاجتلت أبصارهم ووعت قلوبهم وقبلت أسماعهم (فآمن به) أي صدق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما جاء به (وعزّره) أي عظمه ووقره وهو بتشديد الزاء، ووهم التلمساني حيث قال:
تخفف وتشدد. ففي القاموس العزر اللوم والتعزير التعظيم أو المعنى منعه من عدوه إذ أصل العز والمنع ومنه التعزير لأنه يمنع من معاودة القبيح (ونصره) أي أيده وأعانه إيماء إلى قوله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ والضمير في الآية يجوز أن يكون لكل منهما والأظهر أن يكون إلى الأخير، فإن الإيمان به متضمن للأول فتأمل، ثم الفاعل قوله:
(من) أي الذي (جعل الله له في مغنم السّعادة) أي في غنائم السعادة الإيمانية وحيز السيادة الإيقانية (قسما) بكسر فسكون أي حظا ونصيبا مقسوما، وأما بفتح القاف فهو مصدر (وكذّب به) أي كفر بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وصدف عن آياته) أي أعرض عن معجزاته البرهانية أو مال عن قبول آياته القرآنية (من كتب الله) أي قدر وقضى وأوجب (عليه الشّقاء) بالمد مفتوحا ويكسر أي الشقاوة كما في نسخة وهي الأولى من الأولى كما لا يخفى. وقال التلمساني: الشقاء العذاب وهو ممدود انتهى. ولا يخفى عدم الملائمة بالمقابلة للسعادة مع أن صاحب القاموس قال: الشقاء الشدة والعسر ويمد، والظاهر أن معناه التعب كما فسر به قوله تعالى: (فشقى) وقوله: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى لا بمعنى العذاب المتعارف والله أعلم. (حتما) أي حتما مقضيا يعني وجوبا متحتما لازما لا بد له من فعله ولا تبديل ولا تحويل فيه أصلا وقطعا (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) أي في الدنيا الدنية التي هي محل تحصيل الكمالات الدينية (أَعْمى) أي عن الأمور العلمية والعملية أو عن طريق الحق وبصيرة الصدق (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) [الإسراء: ٧٢] . فاعل أو خبر أي فهو فيها أعمى بالطريق الأولى أو أشد عمى مما كان في الدنيا أو أعمى عن النجاة ورؤية سبيل أهل الهدى والحاصل أن أعمى في الموضعين افعل وصف، والمعنى من كان في الدنيا لا يبصر طريق هدايته لا يرى في العقبى سبيل عنايته وقيل أعمى الثاني للتفضيل كأجهل وأبله، ولهذا عطف عليه في الآية، وَأَضَلُّ سَبِيلًا ولم يمله أبو عمرو ويعقوب لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم المتوسط كما في أعمالكم ولا يبعد أن يراد بالعمى في الدنيا الجهالة والضلالة في الأمور الدينية وكونه أعمى في الآخرة بالطريق الصورية والمعنوية (صلّى الله تعالى عليه وسلّم) جملة خبرية مبنى انشائية معنى (صلاة تنمو) بفتح فسكون فضم من النمو أي تزيد عددا دائما (وتنمى) بصيغة المجهول من الإنماء أي ويزيدها الله أو يزيد ثوابها أبدا والمعنى تزيد في نفسها أو يزاد فيها، وفي نسخة صحيحة بدل الأولى تنمى كترمى بالياء بدل الواو وهو الأولى من جهة صنيع الجناس المستحسن في المبنى مع انه
1 / 14
اللغة الأشهر عند الأكثر، ففي الصحاح نمى المال وغيره ينمى نماء، وربما قالوا ينمو نموا وانماه الله تعالى إنماء انتهى. وفي غالب النسخ المصححة تنمو بالواو. وعن الخليل انه أفصح وبهذا يتبين أن قول الحلبي وفي لغة ينمو وهو ضعيف هو الضعيف لمخالفة الجمهور ولمعارضة شيخه مجد الدين الفيروزآبادي صاحب القاموس حيث قال: نما ينمو زاده كنمى ينمى. وأما ما نقل عن الكسائي لم أسمعه بالواو إلا من أخوين من بني سليم. ثم سألت بني سليم فلم يعرفوه فالجواب عنه أنه على تسليم صحته يكون لغة لغيرهم ومن حفظ صار حجة على من لم يحفظ (وعلى آله) أي اتباعه ولذا لم يقل وأصحابه. وفي نسخة: وصحبه على انه تخصيص بعد تميم أو المراد بالآل أقاربه والعطف لزيادة التشريف والتكريم (وصحبه وسلّم) بفتح اللام عطف على صلى (تسليما) أي تسليما عظيما. ووقع في بعض النسخ زيادة كثيرا وهو مخل بالسجع المرعى في الفواصل ثم ظاهر آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا دال على وجوب الصلاة والسلام عليه كلما ذكر وكذا حديث من ذكرت عنده فلم يصل على دخل النار فأبعده الله تعالى، وحديث رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ علي. وبه قال الطحاوي من الحنفية والحليمي من الشافعية واللخمي من المالكية وابن بطة من الحنابلة والجمهور على أنها في العمر فرض مرة والمحققون على انها فرض في كل مجلس ذكر صلى الله تعالى عليه وسلم والله تعالى أعلم.
(أمّا بعد) بضم الدال مبنيا لحذف المضاف إليه وكونه منويا. وقال الحلبي: وبفتحها.
اجازه هشام. وقال النحاس: إنه غير معروف ورفعها منونة، وكذا نصبها انتهى. وذكر النووي في باب الجمعة: من شرح مسلم أنه اختلف العلماء في أول من تكلم بأما بعد فقيل داود ﵊. وقيل: يعرب بن قحطان. وقيل: قس بن ساعدة. وقال بعض المفسرين: أو كثير منهم أنه فصل الخطاب الذي أوتيه داود. وقال المحققون: فصل الخطاب الفصل بين الحق والباطل انتهى. وفي الكشاف: ويدخل فيه، يعني في فصل الخطاب. أما بعد فإن المتكلم إذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه فصل بينه وبين ذكر الله تعالى بقوله: أما بعد، انتهى. وفي غريب مالك للدارقطني بسند ضعيف أن يعقوب ﵊ لما جاءه ملك الموت قال من جملة كلامه: أما بعد.. فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء وهذا يدل على أن أول من تكلم به يعقوب لا داود عليهما الصلاة والسلام، ونظير فصل الخطاب كلمة هذا فإنه يفصل بها بين الكلامين كقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر أو خذ هذا أو هذا المعد للمتقين وأما تنظير المحشي بقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ فغفلة عن لفظة التنزيل وهو قوله تعالى هذا ذِكْرٌ وهو ليس من هذا الباب نعم نظيره ما قال الشاعر:
هذا وكم لي بالحبيبة سكرة ... أنا من بقايا خمرها مخمور
1 / 15
فإنه أشار بهذا إلى الكلام تقدم ثم استأنف كلاما ثانيا والله تعالى أعلم. ثم اعلم أن قس بن ساعدة الإيادي بضم القاف وتشديد المهملة بليغ حكيم ومنه الحديث يرحم الله قسا إني لأرجو يوم القيامة أن يبعث أمة واحدة قيل هو أول من كتب من فلان إلى فلان وفيه نظر لقوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وأول من خطب بعصا وأول من أقر بالبعث من غير سماع قيل إنه عاش ستمائة سنة وقد رآه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بسوق عكاظ وهو راكب جملا له أحمر وورد رحم الله قسا إنه كان على دين أبي إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. رواه الطبراني عن غالب بن ابجر. وفي رواية: رحم الله قسا كأني انظر إليه على جمل أورق تكلم بكلام له حلاوة ولا احفظه، رواه الأزدي في الضعفاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ومن قوله: أيها الناس اسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت ثم هو من أهل الفترة وأما يعرب بن قحطان فهو أبو اليمن. وقيل: هو أول من تكلم بالعربية وههنا قولان آخران في أول من قال: أما بعد. فقيل: كعب بن لؤي. وقيل:
سحبان، وهو بليغ يضرب به المثل. لكن هذا القول غير صحيح لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقولها في خطبته وهو قبل سحبان اجماعا لأنه كان في زمن معاوية وما أجيب عنه بأنه أول من قالها بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الإسلام لا يخفى بعده لأني ما أظن أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يتركونها في خطبهم بعد ما سمعوها منه صلى الله تعالى عليه وسلم في خطبته والله أعلم. (أشرق الله) أي أضاء ونّور (قلبي وقلبك بأنوار اليقين) أي بأنواع أنواره من علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين على قدر مراتب العارفين في ميادين الدين والأصل في النور الظهور. واعلم أن مقتضى القواعد العربية واستعمال الفضلاء الأدبية إيراد الفاء بعد: أما بعد، بل بعد بعد أيضا. إما لتقدير أما وإما لتوهم أما مع رفع توهم الإضافة وإفادة الدلالة التعقيبية. وقد قال سيبويه: إن معنى أما بعد مهما يكن من شيء بعد فتعين اتيان الفاء الجزائية وسيأتي في قوله فإنك فالجمل المذكورة دعائية اعتراضية وأما قول التلمساني في قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فكانت لمساكين يعملون فليس في محله لأن أما هذه تفصيلية لا شرطية (ولطف لي ولك) باللام فيهما على الأصول المصححة لا بالباء الموحدة (بما) أي بمثل ما وفي نسخة كما (لطف بأوليائه) فما مصدرية.
وفي نسخة صحيحة بما لطف لأولياء فما موصولة. وفي نسخة: بعباده (المتقين) بالباء جمعا بين اللغتين وتفننا في العبارتين. فمن الأولى قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ، ومن الثانية اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ولطف بفتح الطاء من اللطف وهو على ما في المجمل بمعنى الرفق والرأفة، وعلى ما في الصحاح بمعنى التوفيق والعصمة. وقيل: بمعنى الهداية. وأما بالضم فمعناه دق وصغر والألطف ما قال بعضهم من أن اللطف في اللغة الرقة وهو من الله تعالى زيادة بره للأنام بأمور تدق عن الأفهام منها هدايتهم للإيمان والإسلام وتوفيقهم لطاعاته ومراعاة الأحكام وكفهم عن المعاصي والآثام وتيسير أسباب الراحات
1 / 16
الدنيوية والأخروية عليهم ودفع المضار المانعة عنهم وجلب المنافع اليهم ثم التقوى هو التوقي عن مخالفة المولى (الّذين، شرّفهم) أي الله تعالى كما في نسخة (الله بنزل قدسه) بضمتين ويسكن الثاني فيهما إلا أن السكون في الثاني أقل وفي الأول أكثر ثم النزل ما يهيأ للضيف من الكرامة لأنسه، وقيل: النزل المنزل وبه فسر قوله تعالى: جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، وقد جزم المحشي بأنه مراد المصنف هنا والظاهر أنه لا منع من الجمع كما أشار إليه صاحب القاموس النزل بضمتين المنزل وما هيىء للضيف أن ينزل عليه كالنزل، والمعنى بالنزل الحال المقدس عن الدنس، وفي نسخة بنور قدسه وهو أظهر معنى، لأن المراد به وبما بعده مقامات العارفين في الدنيا، وان كانت سبب درجات في العقبى فلا يلائم تفسير نزل قدسه بالجنة لنزاهتها عن الكدورات الدنيوية كما اختاره الدلجي، ثم قال: ويجوز أن يريد به ما يهيأ لهم من الطعام إذا دخلوها الوارد به نزل أهل الجنة زيادة كبد الحوت، وأما ما هو في وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلًا
فحال من ضمير تدعون تلويحا بأن ما يتمنونه بدعائهم بالنسبة إلى عطائهم مما لا يخطر ببالهم كالنزل للضيف (وأوحشهم) من الوحشة ضد الأنسية.
يقال: أوحشه فاستوحش أي جعلهم ذوي وحشة (من الخليقة) وفي نسخة من بين الخليقة (بأنسه) لأن الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس، ولا يمكن دفع العوائق إلا بقطع العلائق، فالمعنى أبعدهم الله تعالى عن الخليقة وقرّبهم منه على مراعاة الشريعة والطريقة والحقيقة فيكونون كائنين بائنين قريبين غريبين عرشيين فرشيين مع الخلق في الصورة ومع الحق في السريرة كما هو دأب الأنبياء وعادة الأولياء به آنسون ومن غيره آيسون (وخصّهم من معرفته) أي جعلهم أهل الخصوص من أجل معرفته، وفي نسخة بمعرفته أي جعلهم مخصوصين بها بحيث لا يلتفتون إلى معرفة غيره أصلا (ومشاهدة عجائب ملكوته) فعلوت من الملك بزيادة الواو والتاء للمبالغة وفرق بين الملك والملكوت إذا اجتمعا بأن يخص الأول بظاهر الملك والثاني بباطنه أو الأول بالعالم السفلي والآخر بالعالم العلوي، قال الله تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وقال ﷿: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ومعنى المشاهدة المعاينة، وأغرب التلمساني حيث فسرها بالحضور مع قوله مصدر شاهد بمعنى رأى ثم العجائب جمع عجيب وهو ما يتعجب فيه من الأمر الغريب (وآثار قدرته) أي من مطالعة مصنوعاته (بما ملأ قلوبهم حبرة) بفتح المهملة وسكون الموحدة أي مسرة من الحبور وهو السرور، وقيل معناها النعم والكرامة ومنه قوله تعالى: فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ أي ينعمون ويسرون ويكرمون، ثم الجار متعلق بخص أو بالمشاهدة، وما مصدرية أو موصولة وقلوبهم مفعول به وحبرة مفعول ثان كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حق الكفار يوم الأحزاب ملأ الله قبورهم نارا أو منصوب بنزع الخافض وإيصال الفعل كقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ. وقيل: منصوب على التمييز. وأما ما ذكره التلمساني من أنه يقال بفتح الباء الموحدة وتسكينها فوهم لأن الفتح إنما جاء بدون التاء على
1 / 17
ما في القاموس نعم الحبرة هي سرور ظهر حبره أي أثره على وجوههم فكساها بهاء وجمالا. ففي الحديث: «يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره بكسرهما وقد يفتحان أي بهاؤه وجماله (وولّه) بالتشديد (عقولهم) أي جعلها والهة بتدبرها وتفكرها (في عظمته) وفي نسخة من عظمته (حيرة) أي ذوات تحير بما غشاها من ضياء جمال وبهاء كمال. وفي نسخة ووذر عقولهم أي تركها متحيرة ولا يخفي صنعة التجنيس بين حبرة وحيرة (فجعلوا همّهم به) أي بالله ودينه قائمين بحقوق ألوهيته ووظائف عبوديته (واحدا) أي هما واحدا إشارة إلى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم من جعل الهموم هما واحدا كفاه الله تعالى هم الدنيا والآخرة. والمراد بالهم هنا القصد والهمة والعزم والجزم التام ولا يبعد أن يكون بمعنى الحزن الموجب للاهتمام في سبيل الله أو بسبب دينه، فالضمير له سبحانه وأبعد التلمساني في جعل الضمير للوله المفهوم من وله (ولم يروا) أي لم يعتقدوا أو لم يبصروا (في الدارين غيره مشاهدا) بضم الميم وفتح الهاء أي مشهودا لأنه كما قال بعض العارفين من أرباب الأسرار ليس في الدار غيره ديار وقال آخر من أصحاب الشهود سوى الله والله ما في الوجود وزاد أبو يزيد على من سواه. وقال: ليس في جبتي غير الله ومن هذا المقام المحقق الحسين ابن منصور الحلاج نطق وقال: أنا الحق، وقال مجنون بني عامر في هذا المعنى:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
فهذا مقام وحال لأرباب الكمال بلا حلول ولا اتحاد ولا اتصال ولا انفصال، ويؤيد هذا المقال قول الملك المتعال كل شيء هالك إلا وجهه ويقويه ما ورد عن النبي النبيه ﵊ أصدق كلمة قالها لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وفي نسخة بكسرة الهاء وهو لطيف جدا موافق للفظ واحدا فإنه يفيد بانضمام الفتح لأرباب الفتوح انه شاهد ومشهود كما أنه حامد ومحمود قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ
وفهم كل طائفة مذهبهم كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ لعل بعض أرباب النسخ استنكر لفظ مشاهدا فأسقطه مع انه لم يتم بدونه التسجيع بقوله واحدا وكأنهم اكتفوا بلفظ غيره حالة وقفه (فهم بمشاهدة جماله وجلاله يتنعّمون) وفي أصل التلمساني يتمتعون أي يتعيشون والمعنى انهم بمطالعة صفات انعام ولائه ونعوت بلائه وابتلائه يتلذذون فاستوى عندهم المنحة والمحنة في ثبوت كمال المحبة خلافا للناقصين في المودة على ما أخبر الله تعالى في حقهم من الحرف بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ وفي هذا الحال قال بعض أرباب الكمال:
وليس لي في سواك حظ ... فكيف ما شئت فاختبرني
وفي القضية إشارة خفية إلى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم إن قلوب بني آدم بين
1 / 18
اصبعين من أصابع الرحمن أي بين صفتي الجمال والجلال ونعتي البسط والقبض المعبر عنهما بالبقاء والفناء والتفرقة والجمع وأمثال ذلك من اصطلاحات الصوفية والسادات السنية وفي كثير من النسخ المصححة كماله بدل جماله وهو غير ملائم لمقابله لأن الكمال هو الجمع بين الجمال والجلال وقد يوجه بإتيان الأخص بعد الأعم والله تعالى أعلم. ثم لما ترقى إلى أعلى المقامات وهو مشاهدة الذات تنزل إلى ملاحظة الصفات فإن تلك الحالة العالية قد تكون لحظة ولمحة لا تستمر في الأزمنة الماضية فقال (وبين آثار قدرته) أي من صفات الأفعال (وعجائب عظمته) أي من صفات الذات، ولو قال وأنوار عظمته لكان له وجه حسن في بلاغته (يتردّدون) أي تارة إلى هذا ينظرون وأخرى بهذا ينتظرون بخلاف أهل الحجب والغفلة فهم في ريبهم يتحيرون (وبالانقطاع إليه) لقوله تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (والتّوكّل عليه) لقوله عز وعلا: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (يتعزّزون) وفيه إشارة لطيفة إلى أنهم إلى غيره ما يتذللون لأنهم بما آتاهم الله تعالى يرضون ويقنعون (لهجين) بفتح فكسر أي حال كونهم مولعين ملازمين ومواظبين مداومين متمسكين (بصادق قوله) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي وبقوله الصادق المطابق (قُلِ اللَّهُ) أي موجودا ومعبودا ومشهودا وقل الله وليس في الكون سواه (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام: ٩٢] . أي اترك أهل الغفلة واللعب والاشتغال بما لا يعنيهم في دينهم وما لا يحملهم على الحضور مع ربهم حال كونهم في شروعهم في الباطل وهو ما سوى الحق يضيعون أعمارهم ويخربون آثارهم عبثا بلا فائدة عائدة في أمر أوليهم، وفي حال أخراهم، وهذا المعنى الذي أومى إليه الشيخ من الاشارات الصوفية لا ينافي ما ذكره المفسرون وأرباب العربية من أن لفظ الجلالة فاعل لفعل مقدر أو مبتدأ خبره محذوف لما يدل عليه السياق والسباق بالاتفاق لانه جواب عن سؤال تقدم في قوله تعالى في حق اليهود: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه حق عظمته أو ما عرفوه حق معرفته إذ قالوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُورًا وَهُدىً لِلنَّاسِ إلى أن قال: قُلِ اللَّهُ أي امتنعوا عن الجواب وعجزوا عن الكلام الصواب قُلِ اللَّهُ أي أنزل الكتاب. وفي هذا كفاية لأولي الألباب (فإنّك) سبق انه جواب أما والجملة الدعائية معترضة بينهما (كرّرت عليّ السّؤال) أي راجعته وأكثرته (في مجموع) أي في مصنف جمع فيه صنف من الشمائل النبوية ومؤلف اجتمع فيه نوع من الفضائل المصطفوية (يتضمّن التّعريف) أي يحتوي الاعلام (بقدر المصطفى ﵊ أي بتعظيمه كقوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وتوهم الحلبي بأن المراد بالقدر هو المقدار، فقال: لو قال ببعض قدره لكان أحسن والمراد بالمصطفى المختار المجتبى والمرتضى لحديث أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بني هاشم وهذا بحسب النسب، وأما بطريق الحسب فلقوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ولقوله
1 / 19
تعالى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ ولا شك انه الفرد الأكمل في هذا المعنى (وما يجب له من توقير) أي ويتضمن بيان ما يجب له من تعظيم واحترام (وإكرام، وما) أي وبيان أي شيء (حكم من لم يوفّ) بالتخفيف ويجوز التشديد أي من يكمل ولم يوفر (واجب عظيم ذلك القدر) الإضافة بيانية أي القدر الواجب من تعظيم ذلك القدر العظيم (أو قصّر) أي أو ما حكم من فرط (في حقّ منصبه) بفتح الميم وكسر الصاد أي مقامه (الجليل) بالجيم وهو الشريف المنيف (قلامة ظفر) بضم فسكون اختير للسجع وإلا فبضمتين هو الأفصح ويجوز بكسر الظاء وسكون الفاء أيضا وقد قرىء بهن في الآية لكن السكون مطلقا شاذ والقلامة بالضم ما يسقط من الظفر وهو كناية عن الشيء الحقير والأمر اليسير (وأن أجمع لك ما لأسلافنا) أي لعلمائنا المتقدمين (وأئمّتنا) أي لمشايخنا المتأخرين (في ذلك من مقال) أي فيما ذكر من وجوب تعظيم قدره والحكم فيمن صدر عنه بخلافه من الأقوال (وأبيّنه) أي المقال (بتنزيل صور، وأمثال) أي بتصوير صور وأمثال وتقرير محامل يزول به الاشكال إيضاحا للمعنى وإيصالا إلى الذهن في المبنى (فاعلم) أي ايقن وتنبه أيها المخاطب (أكرمك الله تعالى) أي كما قصدت إكرام النبي المكرم (أنّك حمّلتني) بتشديد الميم أي كلفتني بالحمل (من ذلك) أي الأمر الذي سألتني (أمرا، إمرا) بفتح الهمزة في الأول وكسرها في الثاني أي أمرا شاقا أو شيئا عظيما. وأما قوله تعالى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا أي عجبا أو منكرا (وأرهقتني) أي أوقعتني (فيما ندبتني) أي دعوتني (إليه عسرا) بضم فسكون وقد يضم أي أمرا عسيرا لا أقدر عليه من التحفظ عن السهو اليسير كما قيل في قوله تعالى حكاية عن موسى ﵇ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (وأرقيتني) أي أصعدتني وأطلعتني من الترقي بمعنى الصعود وهو يائي. وفي القاموس رقى إليه كرضى رقيا صعد كارتقى وترقى أو مهموز حيث قال رقا في الدرجة صعد لكن النسخ المصححة بالمركز تؤيد الأول فتأمل، والحاصل انهما لغتان والأول هو الأشهر في البيان، وأما قول التلمساني بهمزة ويسهل والهمزة أفصح، وقيل: التسهيل فيتوهم منه أن الأصل هو الهمزة وهو غير صحيح لأن التسهيل بمعنى الابدال غير مطابق لقواعد الاعلال فإنه إنما يكون على طبق ما قبله من الحركة كما لا يخفى على أرباب الكمال والله تعالى أعلم بالحال (بما كلّفتني مرتقى) بضم الميم مصدرا أي ارتقاء (صعبا) أي شديدا وليس كما توهم التلمساني بقوله وكان المعنى أرقيتني فارتقيت مرتقى صعبا أي محلا عسيرا حيث جعل المرتقى اسم مكان فاحتاج إلى تقدير فارتقيت والله تعالى أعلم (ملأ قلبي رعبا) بضم فسكون وقد يضم أي خوفا وفزعا ووقع في أصل التلمساني خوفا ورعبا، فقال معناهما واحد لكنه مخالف لسائر الأصول من النسخ المصححة، ثم الضمير في ملأ راجع إلى ما أو المرتقى، والثاني أقرب لكن يؤيد الأول قوله (فإنّ الكلام في ذلك) أي المكلف (يستدعي تقدير أصول) أي تمهيد قواعد مقررة (وتحرير فصول) أي تشييد فروع محررة مما يجب له صلى الله تعالى
1 / 20
عليه وسلم ويجوز ويمتنع كما سيأتي (والكشف) أي ويستدعي البيان (عن غوامض) جمع غامضة وهي ما لا يدرك إلا بعد روية (ودقائق) جمع دقيقة وهي أدق مما قبلها مما يدق فهمه في كل قضية (من علم الحقائق) بيان لما قبلها وهي جمع الحقيقة وهي الأمور الثابتة من الأدلة النقلية والعقلية وقد أبعد الحلبي والتلمساني في عطف الكشف على الكلام مع عدم ظهور خبره في المقام (ممّا يجب) أي اثباته (للنّبيّ ويضاف إليه) أي وجوبا (أو يمتنع أو يجوز) أي اطلاقه (عليه ومعرفة النّبيّ والرّسول) أي بالحدود الفارقة بينهما ومعرفة مجرورة معطوفة على مدخول عن أو من أو منصوبة على انها معمولة ليستدعي أيضا (والرّسالة والنّبوّة) بالجر لا غير والمراد بهما الحالان فهما مغايران لما قبلهما (والمحبّة، والخلّة) بضم الخاء وهما نعمتان كاملتان ما اجتمعتا في غير نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم (وخصائص هذه الدّرجة العليّة) بالجر جمع خصيصة وهي ما يختص به الشخص والدرجة المنزلة والمرتبة والرفعة ودرجات الجنة أرفع منازلها والدرجات ضد الدركات وقد سومح في التسجيع بين العلية وما قبلها فإنه من الأمور الرسمية، ثم رأيت ابن السكيت قال العلية بفتح العين وكسر اللام وكسر العين وسكون اللام فتعين الثاني لموافقة المرام (وههنا) أي وفي هذه المواضع المذكورة فها للتنبيه وهنا اسم اشارة للمكان القريب (مهامه فيح) أي مفازات واسعة ومهامة بفتح الميم الأول وكسر الثانية جمع مهمة بفتحتين مفازة بعيدة وخلاء ليس فيه ماء والفيح بكسر الفاء جمع فيحاء بفتح ومد لا جمع أفيح كما توهمه التلمساني أي الأرض الواسعة (تحار) بفتح التاء أي تتحير (فيها) أي في سبيل معرفتها إفهام ذوي النهى كما قد تحار في سير المفازة المحسومة إذا سلكتها (القطا) وهو بفتح القاف مقصورا طير يضرب به المثل في كمال الهداية فيقال هو أهدى من القطا سمي بصوته، وقد قيل انه يترك فراخه ويطلب الماء مسيرة عشرة أيام وأكثر فيرده ويرجع فيما بين طلوع الفجر وظهور الشمس ولا يخطىء صادرا ولا واردا وهو اسم جنس وقول الجوهري على ما نقله الحلبي وغيره انه جمع قطاة فيه تجوز والحاصل أن القطا يعرف في المجاهل مظان المياه فلا يكاد يخطئها فإذا رأت الماء قالت قطا قطا فتعرف العرب دنو الماء ولهذا يقال فلان أصدق من القطا (وتقصر) بضم الصاد (بها) وفي نسخة فيها (الخطى) بضم ففتح جمع الخطوة بضم وفتح أي تعجز في تلك المفازة أو سيرها الخطوات من الاعياء (ومجاهل) بفتح الميم وكسر الهاء عطفا على مهامها وهو جمع مجهل للمكان الذي لا علم فيه يهتدي به (تضلّ) بفتح فكسر أي تضيع وتهلك (فيها الأحلام) بالفتح جمع الحلم بالكسر أي العقول (إن لم تهتد) أي الأحلام (بعلم علم) بفتح العين واللام في الأول وبكسر فسكون في الثاني أي بعلامة يعلم بها فالعلم بمعنى العلوم أو المراد به نوع من العلوم وأغرب الحلبي بقوله الظاهر أن المراد بالعلم الجبل وأبعد محش آخر بقوله المراد به الراية ولعل محمل كلامهما قصد الاستعارة بهما. وقال الدلجي من اضافة المشبه به إلى المشبه من التشبيه المؤكد أي بعلم
1 / 21
كالعلم (ونظر سديد) بين مهملة أي وبتأمل على صوب صواب (ومداحض) بالرفع أي مزالق (تزلّ) بفتح فكسر فتشديد (بها) أي بسببها أو فيها (الأقدام، إن لم تعتمد) أي الاقدام مجازا أو أصحابها (على توفيق من الله وتأييد) بياءين أي تقوية وإعانة على نيل المراد من التحقيق (لكنّي) أي مع هذا كله من صعوبة الحال ومزلة أقدام الرجال بحيث كاد قبولها أن يكون من المحال تحملت المقال وقبلت السؤال (لما رجوته) بكسر اللام وتخفيف الميم على أن اللام للعلة وما موصوفة أو موصولة وهو بصيغة المتكلم وفي نسخة بالخطاب وهو بعيد ولا يبعد أن يضبط لما بفتح اللام وتشديد الميم على الظرفية كما عليه جمهور القراء في قوله تعالى:
لَمَّا صَبَرُوا إلا أنه يمنعه وجود من البيانية بعده والحاصل أن خبر لكن مقدر كما أشرنا إليه وقوله (لي ولك) متعلق برجوته (في هذا السّؤال، والجواب) أي بسببهما لف ونشر غير مرتب وقدم نفسه في الدعاء لأنه الأدب المستحب وقدم السؤال لأن وجوده مقدم على الجواب وشهوده (من نوال) بيان لما أي حصول حسن منال وطيب حال ومآل في الدنيا (وثواب) أي تحصيل جزاء وعطاء في العقبى (بتعريف قدره الجسيم، وخلقه العظيم) بضمتين ويسكن الثاني أي بسبب تبيينهما (وبيان خصائصه) أي فضائله المختصة (التي لم تجتمع قبل) أي قبل خلقه (في مخلوق) ومن المعلوم استحالة وجود مثله بعده (وما يدان) أي وبيان ما يطاع (الله تعالى به) أي ويتخذ دينا (فِي مَخْلُوقٍ، وَمَا يُدَانُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ من حقّه الذي هو أرفع الحقوق) أي بعد حق الحق (لِيَسْتَيْقِنَ) متعلق بتعريف أي ليثبت أو يتيقن (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي نبوته إيقانا يريد العلماء به (وَيَزْدادَ) أي بذلك (الَّذِينَ آمَنُوا إِيمانًا) [المدثر: ٣١] . يريد العوام أو الأعم والله أعلم ثم قوله ليستيقن علة لقوله بتعريف قدره وبيان خصائصه. وأما قول التلمساني أي لكني أفعل لما رجوته وليستيقن فمخالف للنسخ المصححة حيث لم يوجد فيها الواو العاطفة (ولما) عطف على لما رجوته أي ولأجل ما (أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) أي من الميثاق. وفي نسخة مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي من العلماء (لَتُبَيِّنُنَّهُ) بفتح اللام على انه جواب للقسم الذي ناب عنه قوله أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أي استخلفهم والمعنى ليظهرن أمر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جميعه (لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) أي شيئا منه وهو المناسب للمقام أو الضمير للكتاب وهو مشتمل على المرام. وفي بعض النسخ بالخطاب فيهما وهو صحيح وقد قرأ بهما السبعة في الكتاب فالياء لغيبتهم والتاء حكاية لمخاطبتهم وتتمة الآية المقتبس منها فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا (ولما) أي وللحديث الذي (حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ الفقيه ﵀ بقراءتي عليه) وهو هشام بن أحمد بن هشام بن خالد الأندلسي الوقشي بفتح الواو والقاف وبالشين المعجمة نسبة إلى وقش قرية من قرى طليطلة بالأندلس الكناني الفقيه الحافظ ولد سنة ثمان
1 / 22