شرح حديث: (هذا خير من ملك الأرض من مثل هذا)
وفي إحدى الروايات يقول سهل بن سعد: مر رجل على رسول الله ﷺ فقال لرجل عنده: ما رأيك في هذا؟ وكان مع النبي مجموعة من الناس من ضمنهم أبو ذر رضي الله ﵎ عنه، فسأله النبي ﷺ عن هذا الرجل، وهنا قال: (فقال لرجل عنده).
فقال: رجل من الأشراف أو من أشراف الناس، وفي رواية أخرى قال له النبي ﷺ: (انظر إلى أرفع رجل في المسجد في عينيك)، وكأنه يقول له: من أحسن رجل في عينيك تنظره في المسجد؟ وفي روايات أخرى: أن النبي ﷺ كان يقسم أموالًا بين الناس، فيقول له: انظر أرفع الناس في عينيك؟ فنظر فرأى عيينة بن حصن أو الأقرع بن حابس، فقال له النبي ﷺ: (ما رأيك في هذا؟) فكان جواب أبي ذر ﵁: (رجل من أشراف الناس: هذا والله حري إن خطب أن ينكح)، لأنه كبير جدًا في قومه، فهو من ملوك العرب، أو من كبراء العرب، ورئيس قبيلة من أعظم قبائل العرب فضروري إن أراد أن يتزوج أن يجد من يتمناه لابنته.
ثم قال أبو ذر: (وإن شفع أن يشفع)، يعني: عندما يشفع عند فلان من الناس تقبل شفاعته لمنزلته في قومه.
قال: (فسكت رسول الله ﷺ، وفي رواية أنه قال: (وإذا قال أن يستمع)، فذكر فيه ثلاثة أشياء: أنه ذو شرف، وكبير في قومه، ولو استشفع عند أحد قبلوا منه شفاعته، ولو ذهب يخطب من الناس سيقبل ويزوجونه، وعندما يتكلم يسكت الناس ليسمعوه لأنه كبير في قومه.
ثم قال له رسول الله ﷺ: (ما رأيك في هذا؟) لرجل آخر، وذكروا أن اسم هذا الرجل جعيل وكان من فقراء المسلمين ﵁.
(قال: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين)، أي: أن هذا لا شيء في جانب من سبقه، فهذا رجل فقير.
(هذا حري إن خطب ألا ينكح وإن شفع ألا يشفع)، إن طلب الزواج لا يزوج، وإن شفع لا تقبل شفاعته.
(وإن قال ألا يسمع لقوله)، عندما يتكلم لا يسمع.
فكان جواب النبي ﷺ: (هذا خير من ملء الأرض من هذا).
وعندما وزع ﷺ المال على هؤلاء لم يعط هذا الفقير شيئًا، وأعطى لهؤلاء الكبار أموالًا كثيرة، فإذا بـ أبي ذر يتعجب من ذلك، ويسأل النبي ﷺ فقال: (أفلا يعطى هذا كما يعطى الآخر؟) يعني: إن كان مثلما تقول وأنه أفضل من ملء الأرض من هذا فلم لا تعطيه مثل هذا؟ فقال ﷺ: (إذا أعطي خيرًا فهو أهله، وإذا صرف عنه فقد أعطي حسنة)، يعني: له الحسنة عند الله تعالى بذلك.
وفي رواية أخرى: أن النبي ﷺ ذكر لهم: (جعيل خير من ملء الأرض مثل هذا.
قال: فقلت: يا رسول الله! ففلان هكذا وتصنع به ما تصنع) يعني: الفقير الذي هو خير من ملء الأرض من هذا الغني لم تعطه وأعطيت للأغنياء الكثير؟ فقال: (إنه رأس قومه) يعني: عيينة بن حصن أو الأقرع بن حابس أتألفهم على الإسلام، والله قال في توزيع الزكوات: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ [التوبة:٦٠]، وهؤلاء من المؤلفة قلوبهم، فكان يتألفهم ليثبتوا على الإسلام، وقومهم سيكونون على الإسلام، فإذا مات هؤلاء بقي القوم على الإسلام، فكانت المصلحة في تألف هؤلاء، فأعطاهم النبي صلوات الله وسلامه عليه الدنيا، ولكن الآخرة لهؤلاء الفقراء، وإن كان هؤلاء أسلموا ثم ارتدوا بعد وفاة النبي ﷺ إلى الكفر، ثم رجعوا إلى الإسلام بعد ذلك.
الغرض: أن الإنسان لا يقيم الناس على الغنى والفقر، فإن كان فقيرًا فلا قيمة له، وإن كان غنيًا وله المركز والعشيرة فهو أفضل من غيره، فهذه ليست النظرة التي ينظر بها الله ﷿ لعباده، وإنما يفضل أهل الفضل بتقواهم وبسبقهم إلى دين الله ﷿، وبدفاعهم عن دينهم وبصبرهم وثباتهم على دينهم، فلذلك كان جعيل وأمثاله خيرًا من ملء الأرض من ذاك وأمثاله، وفي رواية: (من طلاع الأرض من مثل هؤلاء).
نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
9 / 7