وخاضَ من العلوم في بحارٍ عميقة، وراضَ النفسَ في دَفْعِ أهلِ البِدَع وسُلوك الطريقة. أما الكلامُ فكلٌّ ساكتٌ خَلْفَه، وكيف لا وهو الإمام رَدَّ على طوائفِ المُبْتدِعة، وهَدَّ قَواعِدَهم حين رفض النفس للرفض، وشاع دَمارُ الشيعة، وجاء إلى المعتزلة فاغْتال الغَيلانيَّة، وأوْصَل الوَاصِلِيَّة النَّقَماتِ الوَاصِبِيَّة، وجعَل العُمَرِيَّةَ أعْبُدًا لطَلْحةَ والزُّبَير، وقالت الهُذَليَّة: لا تنْتهِي قدرةُ الله على خيرٍ وصَبْر، وأيقَنت النَّظَّاميَّة بأنه أذاق بعضَهم بَأْسَ بعض، وفَرَّق شَمْلَهم وصَيَّرهم قِطَعًا، وعبَست البِشْرِيَّة لما جعل مُعتزلَهم سبعًا، وهَشَم الهِشاميَّة والبَهْشَميَّة بالحُجَّة المُوَضِّحة، وقَصَم الكَعْبِيَّة فصارت تحتَ الأرْجُل مُجرَّحة، وعلمت الجبائية مُذ قطعها أن الإسلام يجُبُّ ما قبله، وانهزم جيش الأحيدية فما عاد منهم إلَّا مَن عاد إلى القِبْلة، وعَرَّج على الخَوارِج فدخلُوا تحت الطاعة، وعَلِمت الأزارِقَةُ منهم أن فَتَكاتِ أبْيَضِه المحمديَّة، ونارَ أسْمَرِه الأحْمديَّة، لا قِبَلَ لهم بها ولا اسْتِطاعة، وقالت المَيمُونيَّة: اليُمْنُ من الله والشَّرّ، وخنَست الأخْنَسِيَّة وما فيهم إلَّا مَن تَحَيَّز إلى فِئَةٍ وفَرَّ، والْتفَت إلى الرَّوافِض، فقالت الزَّيدِيَّة: ضرب عمروٌ وخالدٌ وبكرٌ زيدًا، وقالت الإماميَّة: هذا الإمام ومَن حاد عنه فقد جاء شَيئًا إدًّا، وأيقَنَت السُّلَيمانيَّة أن جِنَّها حُبَّسٌ في القَنانِي، وقالت الأزَلِيَّة: هذا الذي قدَّر الله في الأزَل أن يكون فَرْدًا وعَوَّذَه بالسَّبْع المَثانِي، وقال المنتظِرون: هذا الإمام وهذا اليوم الموعود، وجُعِلت الكَيسَانِيَّة في ظلال كَيسِه وسجَّل عليهم بالطاعة في يومٍ مَشْهود، ونظَر إلى الجَبْريَّة شَزْرًا، فمشى كلٌّ منهم على كُرْهِ الهُوَينا كأنه جاء جَبْرًا، وعلمت النَّجَّارِيَّة أن صُنْعَها لا يُقابِل هذا العظيم النَّجار، ونادَت الضَّرارِيَّة: لا ضَرَر في الإِسْلام ولا ضِرار، وتطلَّع على القَدَرِيَّة فعبَس كلٌّ منهم وبَسَر، ثم أقْبَل واسْتَصْغَر، وكان من الذُّباب أقَلَّ وأحْقَر، فقُتِل كيف قَدَّر، وانْعَطَف إلى المُرْجِئة وما أرْجأهم، وجعل العدميَّة منه خَالِديَّةً في الهُون وساءَهم بنارهم، ودعا الحُلولِيَّة فحَلَّ عليهم ما هو أشَدُّ من المَنِيَّة، وأصبحت الباطِنِيَّةُ تأخُذ أقواله ولا تتعدَّى مذهبَ الظَّاهِريَّة، وأما الحَشْويَّة قَبَّحَ المَنِيَّة صُنْعهم وفضَح على رُءوس الأشْهاد جَمْعَهم، فشربوا كأسًا قطَّع أمعاءَهم، وهربوا فِرارًا إلى حَسِيِّ الأماكن حتى عدم الناس مَحْشاهم، وصار القائلُ بِالجِهَةِ في أحسَن الجهات وعُرِض عَليه كل جسم وهو يضرب بسَيف الله الأشْعَرِيِّ ويقول: (هَلْ مِنْ مَزِيد)، هات، حتى نادَوا بالثُّبُور، وزال عن الناس افْتراؤُهم ومَكْرُهم (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُو يَبُور)، وأما النَّصارى واليهود فأصبحوا جميعًا وقلوبُهم شَتَّى، ونفوسُهم حَيارَى ورأيت الفريقين (سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكارَى)، وما مِن نَصْرانِيٍّ رآه إلَّا وقال: أيها الفَرْد لا نقول بالتَّثْليث بين يديك، ولا يهُودِيٌّ إلَّا سلَّم، وقال: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيك).
1 / 116