شرح لمعة الاعتقاد - يوسف الغفيص
شرح لمعة الاعتقاد - يوسف الغفيص
Géneros
وجوب الكف عن مساوئ الصحابة
قال الموفق ﵀: [والكف عن ذكر مساويهم].
من هدي أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة ﵃ زمن الفتنة والقتال هو الكف عن ذلك، وقد كان الإمام أحمد ﵀ يجيب في بعض جواباته إذا سئل عن ذلك: بقوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة:١٣٤] وهذه قاعدة شريفة يجب على طالب العلم وعلى المسلمين عامة أن يتقلدوها، وهي من قواعد القرآن في الحكم بين الناس ومعرفة أحوالهم، فإن الله لم يكلف العباد أن يعرف بعضهم حال بعض أو شأن بعض، لا من جهة البر ولا من جهة الإثم والشر والعدوان.
ولهذا فإن الصحابة في الجملة لم يكونوا على معرفة بتفاصيل أحوال المنافقين، وحتى ظاهر القرآن يبين أن النبي ﷺ نفسه لم يعلم جميع المنافقين من حوله وفي زمنه، كما في قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ [التوبة:١٠١] هذا صريح القرآن.
إذًا: ما يقصد إليه البعض من تتبع أعيان الناس في الشرق والغرب، وفي اليسير والقليل من الكلام، ويأخذ الكلام المجمل فيجعله مفصلًا، ويقول: إنه قصد كذا وكذا ..
وهذا أصله من كذا وكذا ..
ويفرع تفريعات، ويرمي الناس بالألقاب والأوصاف التي هي أوصاف ذم أو طعن! ويرى أن هذا من التحقيق والضبط للأمور ..
هذا فيه تكلف ولا شك.
لا شك أن من أظهر البدعة وعرف بها فإنه يطعن فيه، ويسمى مبتدعًا ببدعته، وهذا الذي درج عليه السلف؛ ولهذا من يقول: إن السلف ذموا أهل البدع.
نقول: نعم، هذه سنة من سنن السلف لا ينكرها إلا جاهل أو مخالف للسلف، ولكن السلف إنما ذموا أهل البدع الذين أظهروا البدع وفارقوا السنة والجماعة، فكل من أظهر البدعة وفارق السنة والجماعة فإنه يذم، أما أن يتكلف إخراج الناس من السنة والجماعة ويحتكر اسم السنة والجماعة أو السلفية على أعداد يسيرة من الناس، فهذا ليس عدلًا ولا شرعًا ولا هدىً ولا أثرًا سلفيًا.
فهذا حماد بن أبي سليمان أخرج العمل عن مسمى الإيمان، وعد السلف قوله بدعة وهو من أعيان أهل السنة، وابن خزيمة فسر حديث الصورة بتفسير كان الإمام أحمد يقول فيه: "هذا تفسير الجهمية"، ومع ذلك ما قال أحد: إن ابن خزيمة من الجهمية، والإمام أحمد في مسألة اللفظ بالقرآن في رواية أبي طالب، وهي رواية صحيحة معتبرة، ومن أنكرها فقد غلط، وهي معروفة عند محققي الحنابلة وغيرهم، يقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: القرآن غير مخلوق فهو مبتدع، ومع ذلك جاء محمد بن يحيى الذهلي وهو من كبار المحدثين وشيخ البخاري وأمثاله فقال: "إن اللفظ بالقرآن ليس مخلوقًا"، وأراد الذهلي أن القرآن ليس مخلوقًا، فكان مراد الذهلي صحيحًا، وحرفه ينكره الإمام أحمد ويقول: هذا حرف أهل البدع.
وجاء البخاري وجماعة من كبار أئمة السنة والمحدثين فقالوا: "اللفظ بالقرآن مخلوق"، وكان مراد البخاري وأمثاله: أن أفعال العباد مخلوقة، فأرادوا باللفظ هنا فعل العبد، فمراد البخاري وأمثاله صحيح، وإن كان حرفه حرفًا مجملًا، فهل يقال: إن البخاري يسمى جهميًا لأن الإمام أحمد يقول: من قال: اللفظ بالقرآن مخلوق فهو جهمي؟!
وأما ما تكلف فيه بعض المتأخرين أنها نسبة خاطئة إلى البخاري ولم يصح عنه؛ بلى فهذا غير صحيح، بل هذه أمور منضبطة وصحيحة عن البخاري وغيره، لكن المقصود أن الكلمات تفهم على مقاصدها، فمنهج أهل السنة الكف عما شجر بين الصحابة.
وهذا لا يعني عدم العلم بما جاءت به السنة، كالقول بأن عليًا أولى بالحق من معاوية، فهذا ليس من الطعن في معاوية، بل هذه سنن ثابتة حدث بها الرسول ﵊ كما في قوله: (تقتلهم أولى الطائفتين بالحق).
وكذلك القول عن الطائفة المعارضة لـ علي: إنها طائفة باغية هذا لا بأس به؛ فإن النبي ﵊ كما ثبت عنه في الصحيح قال: (تقتل عمارًا الفئة الباغية)
إلى غير ذلك.
فمثل هذه الأمور التي انضبطت سننًا وآثارًا عن النبي ﵊ تقال، وأما التفاصيل والدخول في المقاصد وأمثال ذلك فهذا ليس من الهدي.
قال الموفق ﵀: [قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًاّ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحشر:١٠]، وقال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح:٢٩] وقال النبي ﷺ: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)].
لا يصل أحد إلى قدر الصحابة ومكانتهم أيًا كان قدره ومقامه، فإن الصحابة لهم اختصاص الصحبة، وقد فضلهم الله تعالى بذلك، ومن هنا نهى النبي ﷺ عن سبهم والتقديم عليهم.
19 / 3