Sharh Kitab al-Ibana min Usul al-Diyana
شرح كتاب الإبانة من أصول الديانة
Géneros
شرح كتاب الإبانة - مقدمة الكتاب
كتاب الإبانة للإمام ابن بطة العكبري من الكتب المصنفة في موضوع العقيدة، وقد بين فيه عقيدة أهل السنة والجماعة، وذكر مزاياها ومصادرها، وحذر من الفرق المذمومة، المخالفة لما كان عليه النبي ﷺ وسلف الأمة.
1 / 1
مزايا العقيدة السلفية وأول من صنف فيها
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فهذا أول درس مع كتاب جديد من كتب السنة المسندة.
السنة عند الإطلاق تعني: المخالفة للبدعة، أو مقابلة البدعة، فإذا قرأنا كتاب السنة لفلان، فمعنى ذلك أنه يذكر مسائل اعتقاد أهل السنة والجماعة بأدلتها المسندة، وكتاب الإبانة للإمام ابن بطة عليه رحمة الله هو من هذا الباب، بل هو من أوائل من صنف في عقيدة أهل السنة والجماعة، فهو العقيدة السلفية التي تمتاز عن غيرها من العقائد من أوجه عدة، منها: أن هذه العقيدة نبعها ومرتكزها هو الكتاب والسنة، أي: أن عقيدة السلف مردها ومرجعها إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله ﵌، وما أجمع عليه الصحابة ﵃، وسار على منوالهم ونهجهم بقية علماء الأمة ممن نحا نحوهم، فمن مزايا العقيدة السلفية أن مصادرها هي المصادر الأصيلة التي لم يختلف عليها أحد، ولن يختلف عليها أحد بإذن الله إلى قيام الساعة.
ومن مزايا العقيدة السلفية: أنها عقيدة رسخت بمفهوم النبوة لكتاب الله ﷿، ومفهوم الصحابة، وخاصة الخلفاء الراشدين الذين نقلوا إلينا معتقد النبي ﵊ في ربه وأسمائه وصفاته، وبقية مسائل الاعتقاد التي خالفوا فيها أهل الأهواء والزيغ والضلال، ولذلك: كل يدعي وصلًا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا الكل يقول: أنا سني أو أنا سلفي، أو نهجي قائم على الكتاب والسنة، وكم من صاحب بدعة إذا احتج احتج بقال الله وقال الرسول ﵊، وهل يتصور أن صاحب البدعة يخرج علينا ويقول: أنا مبتدع، أنا زائغ، أنا ضال؟ لا يكون هذا منه، وإنما يقول: أنا مرتكزي ومصدري فيما أقول هو كتاب الله وسنة الرسول ﵊، لكن هيهات هيهات أن تصح دعوى أو يستقيم طريق لأحد، إلا لمن أخذ طريقه عن السلف ﵃.
الكل يقول: أنا منهجي القرآن والسنة؛ لكن بفهم من؟ هذا هو مناط البحث، ليس مناط البحث أن تأتي بقول أو فكر أو فهم أو تأتي له بشاهد من الكتاب والسنة، ولكن مناط البحث أن تأتي من أقوال السلف بمن سبقك إلى هذا الفهم لهذه الآية أو لهذا الحديث، حتى تعلم أن القضية ليست بالدرجة الأولى الاعتماد على النص، بقدر ما هي الاعتماد على فهم السلف ﵃ لهذا النص.
وهذا أمر أردت بيانه حتى ينتبه الناس أن طريق السلف يعني مفهوم السلف للكتاب والسنة لا مفهوم الخلف، وسيأتي معنا الفرق بين السلف والخلف، إما من جهة الزمان وإما من جهة كيفية الاتباع.
ثم عقيدة السلف من أعظم ثمارها أنها السبب في توحيد صف المسلمين، فهذه العقيدة لا تدعو إلى التفرق، بل تدعو إلى الاجتماع ونبذ الفرقة، وفي ذلك روايات وأحاديث كثيرة.
وما تفرق المسلمون منذ الصدر الأول إلا بعد ظهور الفرق الضالة، كالقدرية والمعتزلة وغيرهم من أصحاب الأهواء والملل والنحل، فلما ظهرت هذه الفرق تفرق المسلمون إلى فرق وجماعات شتى، فعقيدة السلف إنما هي أصل الاعتقاد، بل لا يصح اعتقاد غيرها عند الله ﷿.
كما أن من مزايا عقيدة السلف أنها مرتبطة على مر أيامها وسنينها بآبائها وأجدادها من أهل القرون الخيرية الأولى المشهود لهم بالخير، والمشهود لهم بالفهم والعلم والبركة والاحتياط والورع؛ لقوله ﵊: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، فعقيدة السلف تعني أن تقتدي بآبائك أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وغيرهم من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين المشهود لهم بالكفاءة في الدين.
وفي التمسك بعقيدة سلف الأمة آثار كثيرة جدًا، ويكفينا وحسبنا في هذا المقام أن نقول: إن أهل العقيدة الصحيحة هم الناجون من النار نجاة أبدية، حتى لو عذب بعض المعتقدين بعقيدة السلف بسبب ذنوب قد اقترفوها، فإنه لابد خارج من النار ومخلد في الجنة بإذن الله ﷿، ولذلك لما عدد النبي ﵊ فرق النصارى واليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين قال: (ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين كلها في النار) ولم يستثن إلا واحدة، قيل: (يا رسول الله! من هم؟ قال: من كانوا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
وهم الذين على عقيدتنا اليوم التي لا خلاف عليها، وكيف يكون الخلاف والنبي ﵊ هو الذي أسسها وقعدها رجوعًا إلى كتاب الله ﷿ وإلى وحي السماء.
فهذه بعض مزايا العقيدة السلفية، وإن كانت كلها مزايا وفضائل وشمائل ومناقب؛ لكن ليس هذا عنوان بحثنا، إنما نتكلم اليوم عن الإمام ابن بطة وعن كتابه المعروف بالإبانة، وله كتابان: الإبانة الصغرى والإبانة الكبرى، وهذان الاثنان عرف بهما ما صنفه هذا
1 / 2
التعريف بمؤلف كتاب الإبانة
1 / 3
اسم ابن بطة ونسبه ومولده ومنشؤه
هو الإمام أبو عبد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن عمر بن عيسى بن إبراهيم بن سعد بن عتبة بن فرقد، وعتبة بن فرقد هو صاحب رسول الله ﷺ، فهذا الرجل عتبي فرقدي، أي: من نسل عتبة بن فرقد، ولقب المؤلف بـ ابن بطة وهو لقب لأحد أجداده حتى صار يلقب به كل واحد في الأسرة.
ولد ابن بطة سنة (٣٠٣هـ) في بلدة تسمى: عكبرى، لها باع طويل جدًا في تأصيل العلوم الشرعية واللغوية لهذه الأمة المباركة، فكم أنجبت من علماء، سواء في التاريخ أو في الحديث أو في الرجال أو في شروح اللغة العربية أو السيرة، وهي بلد معروف لدى طلاب العلم بأنها أنجبت علماء كثيرين.
قال ابن الجوزي في كتابه المنتظم: ولد ابن بطة يوم الإثنين ١٤ من شوال سنة (٣٠٤)، وهو إما أن يكون ولد في سنة (٣٠٣) أو (٣٠٤).
وعكبرى بلدة صغيرة على دجلة فوق بغداد من جهة الشمال بخمس فراسخ، والنسبة إليها عكبري، ولذلك هو معروف بـ ابن بطة العكبري.
وقد نشأ ابن بطة في حجر والده، وكان والده يحب العلم والعلماء فاعتنى بولده منذ الصغر، فأوفده إلى بغداد، يعني: أرسل به إلى بغداد ليتعلم العلم هناك، وأنتم تعلمون أن الخلافة في مطلع القرن الرابع كان مقرها بغداد، وأنه حيثما كانت الخلافة كانت رحلة أهل العلم وطلاب العلم إلى بلد الخلافة.
وإذا قرأنا في صحيحي البخاري ومسلم أو في أي كتاب من كتب السنة، وجدنا أن معظم الرواة إما كوفي أو بصري أو بغدادي، أو غير ذلك من بلدان العراق شواطئ وغيرها، وهذا الراوي إما أنه من أهل هذه البلاد، وإما أنه وفد إليها، وما وفد إليها إلا بعلمه، فهناك جملة عظيمة مستكثرة من أهل العلم استقروا في هذه البلاد بطلب الخليفة، أو رحمة بالأمة في اجتماعها حول الخليفة، واجتماع طلاب العلم من أنحائها في أي موطن يكون فيه الخلافة والخليفة.
1 / 4
رحلة ابن بطة في طلب العلم
رحل ابن بطة من عكبرى إلى بغداد قبل أن يتم العاشرة من عمره، وقد عقد ابن بطة ألوية السفر، وشد رحله من قطر إلى قطر، ومن مصر إلى مصر؛ ليأخذ العلم عن مشاهير العلماء في عصره.
يقول الخطيب البغدادي عن ابن بطة باعتباره من أهل بلاده: إنه سافر الكثير إلى البصرة والشام، وذكر ابن العماد الحنبلي عنه أنه سافر الكثير إلى مكة والثغور والبصرة وغير ذلك، والثغور: هي أماكن الجهاد.
وهذا يدل على أنه لم يقتصر على العلم بل كان يجاهد كثيرًا.
1 / 5
عزلة ابن بطة واشتغاله بالتدريس
وبعد عودة ابن بطة إلى موطنه من رحلاته المتكررة الكثيرة لازم بيته أربعين سنة، ولا يعني هذا أنه ترك العلم وترك الدعوة إلى الله ﷿، وإنما معنى ذلك أنه اعتذر عن قبول أي عمل في مهام السلطان من القضاء والإفتاء وغير ذلك، وإنما تصدر فقط للعلم والتدريس، كما جاء في الروايات أنه كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى قبضه الله ﷿، وليس معنى ذلك أنه مكث في بيته ولم ينشغل إلا بنفسه.
كما أن مفهوم العزلة عند ابن بطة هو عدم الخوض في الفتن أو الاشتراك في وظائف الحكم، وقد ذكر ابن أبي يعلى عنه أنه كان له مجلس للدرس يوم الجمعة في مسجد عكبرى، كما كان له درس في مسجد المنصور، وهو أعظم مسجد في بغداد، ومن هذه المجالس التي كان يعقدها للتدريس تمكن طلبة العلم من الرواية عنه والانتفاع به.
كما أجمعت كتب التراجم على أنه كان عابدًا كبيرًا وصالحًا شهيرًا، لم ير في سوق ولا رئي مفطرًا إلا في يوم عيد، وأنه مستجاب الدعوة وكان صوامًا قوامًا.
قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: كان صاحب أحوال وإجابة دعوة ﵁.
وقال ابن الجوزي: وكان له حظ وافر من العلم والعبادة.
1 / 6
مصنفات ابن بطة العكبري
1 / 7
المؤلفات المخطوطة
وكان له مؤلفات كثيرة تدل على سعة علمه واطلاعه، عرف منها تسعة عشر مؤلفًا يمكن إرجاع أفضلها إلى مواضيع فقهية، وهي: المناسك أي: في الحج والعمرة، وكتاب الإمام ضامن، وهو نص حديث النبي ﵊: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) أي: الإمام ضامن لأخطاء المأمومين، والمؤذن مؤتمن على الأذان، وأنه لا يؤذن إلا بعد علمه بدخول الوقت، وصنف الإمام ابن بطة في هذه المسألة رسالة فقهية.
وكذلك كتاب: الإنكار على من قضى بكتب الصحف الأولى، والإنكار على من أخذ القرآن من المصحف، وإنما يؤخذ العلم من أفواه المشايخ والعلماء.
وكتاب النهي عن صلاة النافلة بعد العصر وبعد الفجر.
وكتاب تحريم النميمة.
وكتاب صلاة الجماعة.
وكتاب منع الخروج بعد الأذان والإقامة لغير حاجة.
وكتاب إيجاب الصداق بالخلوة، والخلوة: هي الخلوة الشرعية، وهذا يعني أن رجلًا لو خلا بامرأته التي عقد عليها ثم طلقها فلها الصداق كاملًا، والخلوة: هي إرخاء الستر وإغلاق الباب وإن لم يقربها، أما إذا تنازلت أو تنازل وليها عن شيء من الصداق فهذا شيء آخر، إنما للمرأة الحق بأن تطالب بالصداق كاملًا عند تحقق الخلوة.
وفي هذه المسألة نزاع بين أهل العلم، والذي ترجح لدى ابن بطة -وهو الراجح من أقوال أهل العلم- أن المرأة لها الصداق كاملًا إذا خلا بها زوجها قبل الجماع.
وله كتاب فضل المؤمن.
وله كتاب الرد على من قال الطلاق الثلاث لا يقع.
وهذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، والراجح فيها أن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحدًا.
وله كتاب صلاة النافلة في شهر رمضان بعد المكتوبة، وله كتاب في ذم البخل، وكتاب في تحريم الخمر، وكتاب في ذم الغناء والاستماع إليه، وكتاب التفرد والعزلة.
وكل هذه الرسائل لا تزال محفوظة لم تخرج للوجود، وهكذا لو عددنا لكل إمام من أئمة الدين كتبه المخطوطة التي لم تطبع لوجدناها أكثر مما طبع له، ولذلك فإن الذي تأهل لاستخراج هذه الكنوز الدفينة عليه مسئولية كبيرة جدًا في إخراج تراث الأمة المهجور، لكنه للأسف الشديد اختلط الحابل بالنابل، وصار الطلاب يطلبون علم الحديث فحسب حتى يتمكنوا من التجارة، وإن شئت فقل: حتى يتمكنوا من أن يتاجروا بتراث البلد.
ولذلك تجد الكتاب الواحد له عدة طبعات ربما لا يصلح من هذه الطبعات طبعة واحدة، ولابد عند المقارنة أن تجد بين مجموع هذه الطبعات سقطًا وتحريفًا وتصحيفًا وإن شئت فقل: هزلًا؛ لأنه يريد أن يخرج الكتاب حتى يأخذ على الملزمة كيت وكيت، ويأخذ على الكتاب مبلغًا من المال، ثم لا يهمه بعد ذلك الكتاب أن يخرج مصحفًا أو غير مصحف، محرفًا أو غير محرف، المهم أنه أخرج الكتاب واستفاد أمرين: الأمر الأول: أنه وضع اسمه على صدر الكتاب، وفي هذا حق أدبي ومعنوي عظيم، وأنه يعرف بين الناس بأنه من أهل العلم وإن لم يكن في حقيقة الأمر كذلك.
ولذلك قال النبي ﵊: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، تجد الواحد لا علاقة له بالعلم، بل والله لا علاقة له بالصلاة، ولا عهدنا عليه مرة أنه حضر مجلس علم، ثم يأتي وبين يديه كتاب يريد أن تقرأه ثم تقرأه، أنت لا تعرفه ولا هو معروف بين أهل العلم، ثم تقول له: يا فلان! ما الذي دعاك لهذه العجلة، ألا يسعك أن تطلب العلم أولًا حتى يزكيك أهل العلم؟ فالاستعجال في هذا الأمر ليس أمرًا محمودًا، يقول: يا شيخ؛ ليس المهم هذا، إنما المهم أن تقرأ الكتاب، وإن كان فيه شيء فأرجو أن تنصحني.
ثم يدعي بعد ذلك أنه ما فعل هذا إلا لنفسه، وأن هذا الكتاب لا يخرج إلى الوجود قط، إنما هذا جهد وبحث في مسألة يريد أن يصل فيها إلى الحق، فإذا قرأت الكتاب وأثنيت عليه أو قلت له: هذا الكتاب جيد في بابه لكن يحتاج إلى تعديل في موطن كيت وكيت، ولا تتعد هذه الأماكن، ثم ما هي إلا أيام وترى الكتاب مطبوعًا مسبقًا.
عجبًا! فقديمًا سمعنا الشيخ الألباني عليه رحمة الله وهو من هواة العلم يقول: لو استقبلت من الأمر ما استدبرت لجمعت ما كتبت وأحرقت، مع أنه لو فعل ذلك لكان جديرًا بالأمة أن تحفر الأخاديد ثم توقد على نفسها النيران، ومعنى ذلك: أنه ندم ندمًا شديدًا مع رسوخه في العلم أن قلمه تجرأ بالكتابة، تجد طالب العلم ما يريد إلا الحديث فقط؛ لأنه يعرف أن الحديث هو مادته للتجارة.
لكن الأعمال بالنيات، لئن أفلحت في الدنيا فلن تفلح في الآخرة، وافعل ما بدا لك؛ فإنك معروض على الله ﷿.
1 / 8
المصنفات المطبوعة
قال: أما كتبه المطبوعة فهي: كتابه الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة.
وهو الكتاب المعروف بالإبانة الصغرى، وكتاب آخر في إبطال الحيل، وهو مطبوع كذلك.
وكان ابن بطة ﵀ من كبار علماء الحنابلة في زمنه، وكان له اختيارات فقهية في المذهب الحنبلي، ذكر بعضها المرداوي في كتابه الإنصاف.
ومعنى (اختيارات فقهية) أنه كان مجتهدًا في المذهب، مثل ما يقال: إن فلانًا هذا له حرف، يعني: أنه مجتهد في القراءة، وفي تأصيل وتقعيد الأصول والقواعد بكيفية التلاوة على الحرف الفلاني أو على قراءة فلان عن فلان.
كما تتلمذ عليه أشياخ وعلماء الحنابلة، ومنهم أبو حفص العكبري، وابن حامد وغيرهما.
1 / 9
شيوخ ابن بطة العكبري وتلاميذه ووفاته
وقد أخذ ابن بطة الفقه والحديث وغيرهما من العلوم عن كبار شيوخ عصره، منهم أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد الفقيه الحافظ شيخ الحنابلة بالعراق، وصاحب التصانيف الكثيرة، إمام كبير معروف مشهور.
ومن شيوخه أيضًا: أبو القاسم الخرقي، وأبو بكر النيسابوري وكان إمام الشافعية في عصره.
ومن شيوخه البغوي وابن الباغندي، والآجري وابن صاعد وكثيرون غير هؤلاء.
وكلهم معروفون بالإمامة في الدين.
كما أخذ العلم عن ابن بطة تلامذة كثيرون عرفوا بالعلم والتقوى والفضل، ومن أشهرهم: الحسن بن شهاب العكبري، وأبو حفص العكبري، وأبو إسحاق البرمكي، وابن حامد، والقطيعي، والروشاني وغيرهم.
وكانت وفاة ابن بطة يوم عاشوراء سنة (٣٨٧هـ)، أي أنه عاش حوالي (٨٥) سنة، وقد سجلت لنا كتب التراجم قصيدة قيلت فيه، رثاه بها تلميذه ابن شهاب العكبري ومطلعها: هيهات ليس إلى السلو سبيل فليكتنفك تفجع وعويل إلى آخر القصيدة.
1 / 10
التعريف بكتاب الإبانة
أما هذا الكتاب الذي نحن بصدده فاسمه الحقيقي: الإبانة عن شريعة الفرق الناجية ومجانبة الفرق المذمومة.
ومعنى (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية)، أي: الإظهار والوضوح عن عقيدة أهل السنة لما ظهرت عقيدة الفرق المذمومة، فأراد هذا أن يظهر وأن يبين عقيدة أهل السنة والفرقة الناجية، فسمى كتابه الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة.
1 / 11
توثيق نسبة الكتاب لابن بطة
أما من حيث توثيق إسناد هذا الكتاب إلى ابن بطة: فقد نسب هذا الكتاب إليه غير واحد ممن ترجم له، فـ الذهبي وغيره في ترجمتهم لـ ابن بطة يذكرون أن من مؤلفاته أن له كتابًا في أصول الديانة، وهذا الكتاب له أمارات وعلامات.
ومما يدل على نسبة هذا الكتاب إليه: السند المتصل إلى المؤلف، وهو من أقوى الأدلة في إثبات أن هذا الكتاب هو كتابه؛ والذي روى هذا الكتاب أثبت السند إلى ابن بطة.
الأمر الثاني الذي يدل على صحة إسناد هذا الكتاب إليه: ذكر هذا الكتاب العلماء القريبون من عصر ابن بطة وغيرهم من المتأخرين على أنه من مؤلفاته، ونقلوا عنه بهذا الاعتبار، يعني: كل من صنف في العقيدة بعد ابن بطة استفاد مما كتبه ابن بطة، فهذه النصوص عن علماء عصره ومن أتى بعدهم واعتمادهم على ما كتبه ابن بطة ونسبة ذلك إليه، تؤكد أنه كتب كتابًا في الاعتقاد، ومن هؤلاء أبو يعلى الحنبلي، وابنه أبو الحسين من المتقدمين، وكذلك ابن تيمية عليه رحمة الله، وابن القيم، والذهبي من المتأخرين.
الأمر الثالث: نقل بعض المحدثين لبعض المرويات عنه في هذا الكتاب، يعني: من أتى بعد ابن بطة وأراد أن يستدل بدليل في أصول الاعتقاد أورد هذا الدليل من طريق ابن بطة في هذا الكتاب، وهذا يدل على صحة النسبة إلى المؤلف.
الأمر الرابع: أن السماعات المثبتة على أجزاء النسخة الأصلية أو في نهايتها، تؤكد أن هذا الكتاب لـ ابن بطة، وقرأه عليه تلاميذه أو بعض تلاميذه، فأجازهم برواية هذا الكتاب، وكتب إجازته لهم في أول صفحة أو في آخر صفحة من كل نسخة من نسخ الكتاب.
وهذا كله يؤكد أن هذا الكتاب لـ ابن بطة بلا نزاع ولا خلاف.
الأمر الخامس: أن أحدًا لم يطعن في نسبة هذا الكتاب إلى مؤلفه، فهذه الخمس الشواهد تؤكد أن الكتاب لـ ابن بطة ولم يطعن أحد في ذلك.
1 / 12
موضوع كتاب الإبانة لابن بطة
أما موضوع الكتاب فهو: الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، وأنه في العقيدة أو في أصول الاعتقاد.
وهذا الكتاب ليس هو الكتاب الوحيد الذي صنف في هذا الباب بل كتب كثيرة جدًا على منواله صنفت في أصول الاعتقاد، وأحيانًا يطلق المصنف على ما صنف باسم السنة أو شرح السنة، مثل: كتاب السنة للإمام أحمد بن حنبل ولولده عبد الله، وكتاب السنة لـ ابن أبي عاصم، والسنة للأثرم، والسنة لـ محمد بن نصر المروزي، وشرح السنة لـ ابن شاهين، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، وشرح السنة للبغوي وغيرها.
والمقصود بالسنة هنا: مخالفة البدع، ويهدف مؤلفو هذه الكتب في السنة أو في عقيدة السلف إلى إبراز عقيدة السلف كما كانت، خالصة من شوائب الفرق الأخرى وشبهها؛ وذلك من خلال روايتهم للأحاديث والآثار الواردة في هذه العقيدة، وهذه الكتب جميعها يكاد أن يكون نهجها واحدًا، وهو ذكر عقائد السلف الصالح عن طريق رواية الأحاديث والآثار الواردة في جميع أبواب العقيدة السلفية، لاسيما ذكر من كان بارزًا ومشهورًا من السلف، حيث تذكر عقائدهم بالتفصيل مقرونة بأسمائهم.
فهذا باب عظيم جدًا تصدى له علماء السلف في إظهار مسائل الاعتقاد التي خالف فيها أهل البدع.
والصحابة ﵃ لم يؤلفوا كتابًا في أصول العقيدة، لأن الأمر كان على الفطرة في ذلك الوقت، فلم تكن الأمة في حاجة إلى تصنيف يحفظ عليها أمر عقيدتها؛ لأنها محفوظة والعلم منتشر، وأي إنسان يرفع عقيرته يضرب على رأسه بالنعال أو بالجريد.
إذًا: لا حاجة للسلف حينئذ أن يكتبوا وأن يحذروا الأمة من الجحد بالقرآن مثلًا؛ لأن الجاحد يؤخذ على رأسه، لكن لما انتشر هذا الفكر وتفشى وصار ظاهرة في الأمة صنف العلماء في هذه المسائل التي خالف فيها أهل الفرق، وفي كل عصر وفي كل مكان تظهر بدعة، فاضطر أهل السنة إلى الرد عليها من باب الرد على المخالفين أو المبتدعين، وهذا أمر ليس محدثًا، وإنما هو أمر قديم قد تطرق إليه سلف الأمة ﵃ أجمعين.
فعندما يخرج مبتدع ببدعة لا يردون عليه، حتى إذا انتشرت بدعته وصار خطرها عظيمًا على أغلب الأمة تصدى لها أهل العلم بالفضح والبيان والمخالفة وغير ذلك، ثم بينوا وجه الحق في المسألة من عقيدة السلف إلى يومنا هذا، فهذا النهج يسير عليه أهل السنة، لم يأت شخص بعد أن يتفشى المرض الفكري أو العقائدي في الأمة ويقول: يا أخي لا ترد عليهم، اتركهم، اجعل المسألة تمر.
أما الآن فالرجل في التلفزيون أو الصحف أو المجلات أو الجرائد يكتب ما يريد وما يحلو له، باسم الدين وباسم السنة، والأمة كلها تتناقل الأخبار، أنتم عارفون أن فلانًا قال كذا، وهذا فلان يقول هكذا وهذا مخالف لعقيدة المسلمين.
فحينئذ يجب وجوبًا شرعيًا محتمًا على أهل السنة المتصدرين لبيان الحق في الأمة أن يظهروا فساد هذا الرأي، وأنه مخالف لعقيدة السلف التي هي المنبع والأساس، ولا يسعهم أن يسكتوا عن هذا الضلال، حتى وإن خمد هذا الضلال بعد ذلك ونسي وعفى عليه الزمن فإنهم لا ينجون من الإثم إلا أن يشاء الله ﷿؛ لأن الله تعالى افترض عليهم إظهار دينه، ومكنهم من ذلك، وجعل لهم منزلة في قلوب الخلق فكان لابد عليهم أن يقوموا بهذا الواجب.
أما أن يتأخروا وأن يتقاعسوا وتقدم الأهواء والآراء المضلة الفاسدة على دين الله ﷿، فهذا ليس نهج السلف.
ثم يقول: ومن المعلوم أن هذا النمط من الكتب -أي: كتب السنة- لم يظهر إلا بعد أن انتشرت الفرق الإسلامية وأخذت شبهها بالظهور بين الكافة.
1 / 13
منهج ابن بطة في كتابه الإبانة
ومن الأجزاء الموجودة لدينا من هذا الكتاب نستطيع أن نقول: إن ابن بطة قد جمع بين رواياته للأحاديث والآثار الواردة في العقيدة، وبين الرد على الفرق المبتدعة، وقد سلك في كتابه مسلكًا عظيمًا في إثبات وجه الحق في القضية، وإثبات قول المبتدعة والرد عليهم، أو إثبات قول المبتدعة ثم ذكر الآثار الواردة عن السلف في حقيقة هذه المسألة.
وأظهر فساد ما عليه أهل البدع أصحاب الفرق الضالة، ثم بين الحق في هذه القضية، وذلك عن طريق رواية الأحاديث والآثار الواردة في إبراز وبيان حقيقة عقيدة السلف الصالح في هذه القضية، وهذا مسلك عظيم جدًا، فالرد العلمي هو إظهار فساد فكر المخالف ثم إثبات الحق بأدلته.
والفرق بين ضُلاَّل زمانهم وضُلاَّل زماننا كما بين السماء والأرض، ضُلاَّل زمانهم كانوا يتصورون أنهم أصحاب حق، فـ واصل بن عطاء، لما أتى رجل وسأل الحسن البصري وهو في المسجد الكبير في البصرة، فقال: يا إمام في مرتكب الكبيرة؟ وواصل بن عطاء تلميذ من تلاميذ الحسن البصري، لكن ليس من حقه أن يتكلم في حضرة الإمام، فتكلم قبل أن يتكلم الحسن البصري فقال: هو في منزلة بين المنزلتين، وهو في الدنيا لا مؤمن ولا كافر، وفي الآخرة من المخلدين في النار.
ولم يكتف بذلك، بل استند إلى ركن من أركان المسجد، وأفتى أصحاب الأهواء والأمراض الفتاكة، وجلسوا مع واصل في حلقة في نهاية المسجد، فقال الحسن البصري: لقد اعتزلنا واصل، فسموا من هذا الوجه المعتزلة، والعار ينتابهم إلى قيام الساعة، وأصل البدعة أن واصلًا تخلى عن الأدب بين يدي شيخه، ولو انتظر حتى يسمع الجواب فلربما هداه الله ﷿.
ولكنه تكلم بهذا الفقه بغير إذن فصار العار ينسب إليه إلى قيام الساعة؛ أنه أصل البلاء والاعتزال.
1 / 14
تقسيمات ابن بطة وترتيبه لكتاب الإبانة
والحقيقة أن كتاب الإمام مكون من ثلاثة أجزاء، وكل جزء يتكلم في قضية بعينها، الجزء الأول يتكلم عن الإيمان ومباحثه، وما هو الإيمان، ومن خالف من الفرق في مسائل الإيمان والرد عليه، وإثبات عقيدة السلف في أن الإيمان قول وعلم وعمل، وأنه يزيد وينقص، وأن الأعمال لها تأثير عظيم في زيادة الإيمان ونقصانه.
وكتاب الإبانة جاء في ستة مجلدات، المجلدان الأولان يتكلمان عن الإيمان، والآخران يتكلمان عن القدر، والأخيران يتكلمان عن الرد على الجهمية، فالمجلدان الثالث والرابع فيهما الرد على القدرية وإثبات النصوص السلفية التي توجب الإيمان بالقدر وما هو القدر وأحكامه ومراتبه وغير ذلك، ثم يتكلم في المجلدين الأخيرين عن الرد على الجهمية، وتلاه الرد على القدرية والرد على المرجئة وغير ذلك من الفرق الضالة.
أما تقسيم كتابه فقد جاء في أجزاء الجزء الأول: يتعلق بالخمسة الأبواب، وهي: باب ذكر الأخبار والآثار التي دعت إلى جمع هذا الكتاب وتأليفه، يعني: ما هي العلة وما هو السبب الذي جعل ابن بطة يؤلف هذا الكتاب، ثم باب ما افترض الله تعالى نصًا في التنزيل من طاعة رسوله ﷺ، ثم باب ذكر ما جاءت به السنة من طاعة رسول الله ﷺ والتحذير من طوائف يعارضون سنن رسول الله ﷺ بالقرآن.
ثم باب ذكر ما نطق به الكتاب نصًا في محكم التنزيل بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة، ثم باب ذكر ما أمر به النبي ﷺ من لزوم الجماعة والتحذير من الفرقة.
الجزء الثاني: ويتكون من ثلاثة أبواب: باب ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة والأخذ بها وفضل من لزمها، وباب ذكر افتراق الأمم في دينهم وعلى كم تفترق هذه الأمة وإخبار النبي ﷺ لنا بذلك، وباب ترك السؤال عما لا يعني والبحث عما لا يضر جهله، والتحذير من قوم يتعمقون في المسائل ويتعمدون إدخال الشكوك على المسلمين.
الجزء الثالث: ويتكون من باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان، ثم باب ذم المراء والخصومات في الدين والتحذير من أهل الجدل والكلام.
الجزء الرابع: ويتكون من: باب التحذير من استماع كلام قوم يريدون نقض الإسلام ومحو شرائعه فيكنون عن ذلك بالطعن على فقهاء المسلمين، وباب إعلام النبي ﵊ لأمته ركوب طريق الأمم قبلهم وتحذيره إياهم، وباب إعلام النبي ﷺ أمر الفتن الجارية وأمره بلزوم البيوت، وباب تحذير النبي ﷺ من قوم يتجادلون بمتشابه القرآن وما يجب على الناس من الحذر منهم، وباب النهي عن المراء في القرآن.
الجزء الخامس: وفيه: باب معرفة الإيمان وكيف نزل به القرآن وترتيب الفرائض وأن الإيمان قول وعمل، وباب معرفة اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣]، وباب معرفة الإسلام وعلى كم بني، وباب معرفة الإسلام والإيمان وسؤال جبريل النبي ﷺ عن ذلك، وباب فضائل الإيمان وعلى كم شعبة هو وأخلاق المؤمنين وصفاتهم، وباب كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة وإباحة قتالهم وقتلهم إذا فعلوا ذلك، وباب ذكر الأفعال والأقوال التي تورث النفاق وعلامات المنافقين، وباب ذكر الذنوب التي من ارتكبها فارقه الإيمان فإن تاب راجعه.
الجزء السادس: ويتكون من أربعة أبواب: باب ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به عن الملة، وباب أن الإيمان خوف ورجاء، وباب بيان وجوب الإيمان وفرضه وأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والحركات ولا يكون المؤمن مؤمنًا إلا بهذه الثلاث، وباب ذكر الآيات من كتاب الله ﷿ في ذلك.
الجزء السابع: ويتكون من أربعة أبواب: باب زيادة الإيمان ونقصانه وما دل على الفاضل فيه والمفضول، وباب الاستثناء في الإيمان، وباب سؤال الرجل لغيره أمؤمن أنت؟ وكيف الجواب له وكراهية العلماء لهذا السؤال وتبديع السائل عن ذلك، وباب القول في المرجئة وما روي فيهم وإنكار العلماء لسوء مذاهبهم.
وفي آخر الكتاب وهو آخر المجلدات وآخر النسخ الخطية ذكر فضل أبي بكر وعمر واستفاض في إثبات فضلهما.
كأنه بذلك يرد على الرافضة والخوارج في إثبات فضل الصحابة.
وصلى الله على نبينا محمد ورضي الله عن أصحابه أجمعين.
1 / 15
سبب تأليف ابن بطة لكتاب الإبانة
أما سبب تأليف الكتاب فيقول الإمام في مطلع نسخته: [أما بعد: يا إخواني! عصمنا الله وإياكم من غلبة الأهواء، ومشاحنة الآراء، وأعاذنا وإياكم من نصرة الخطأ وشماتة الأعداء، وأجارنا وإياكم من غير الزمان -أي: من تغيرات الأيام- وزخاريف الشيطان، فقد كثر المفترون بتمويهاتها، وكساها الزائفون والجاهلون حلتها، فأصبحنا وقد أصابنا ما أصاب الأمم قبلنا، وحل بنا الذي حذرناه نبينا ﷺ من الفرقة والاختلاف، وترك الجماعة والائتلاف، ووقع أكثرنا في الذي عنه نهينا -يعني: وقعنا فيما نهينا عنه- وترك الجمهور منا ما به أمرنا، فخلعت لبسة الإسلام، ونزعت حلة الإيمان، وانكشف الغطاء وبرح الخفاء، فعبدت الأهواء، واستعملت الآراء، وقامت سوق الفتنة، وانتشرت أعلامها، وظهرت الردة وانكشف قناعها، وقدحت زناد الزندقة -والزناد هي ذلك الرمح الذي يقلب به- فاضطرمت نيرانها، أي: كما أنك لو أوقدت نارًا ثم خمدت فإذا ضربت مادة هذه النار والوقود بعصا تأججت النار مرة أخرى، هكذا قال: وقدحت زناد الزندقة فاضطرمت نيرانها، أي: زادت.
[وخلف محمد ﷺ في أمته بأقبح الخلف -يعني: نحن شر خلف لخير سلف- وعظمت البلية، واشتدت الرزية، فظهر المبتدعون وتنطع المتنطعون، وانتشرت البدع، ومات الورع، وهتكت سجف المشاينة، وشهر سيف المشاحنة، بعد أن كان أمرهم هينًا، وحدهم لينًا، وذاك حتى كان أمر الأمة مجتمعًا، والقلوب متآلفة، والأئمة عادلة، والسلطان قاهرًا، والحق ظاهرًا، فانقلبت الأعيان، وانعكس الزمان، وانفرد كل قوم ببدعتهم، وحزب الأحزاب، وخولف الكتاب، واتخذ أهل الإلحاد رءوسًا أربابًا، وتحولت البدعة إلى أهل الاتفاق، وتهوك -أي: وأقحم نفسه- في العسرة العامة وأهل الأسواق، ونعق إبليس بأوليائه نعقة فاستجابوا له من كل ناحية، وأقبلوا إليه مسرعين من كل قاصية، فالبسوا شيعًا وميزوا قطعًا، وشمتت بهم أهل الأديان السالفة، والمذاهب المخالفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وما ذاك إلا عقوبة أصابت القوم عند تركهم أمر الله، وصدودهم عن الحق، وميلهم إلى الباطل، وإيثارهم أهواءهم، ولله ﷿ عقوبات في خلقه عند ترك أمره ومخالفة رسله، فاشتعلت نيران البدع في الدين، وصاروا إلى سبيل المخالفين، فأصابهم ما أصاب من قبلهم من الأمم الماضية، وصرنا في أهل العصر الذين وردت فيهم الأخبار، ورويت فيهم الآثار].
وهذا في القرن الرابع فما بالك لو رأى زماننا هذا.
نكتفي بهذا القدر من بيان حال المؤلِف والمؤلَف كذلك، ثم نقف عند أول أثر من آثار هذا الكتاب في الدرس القادم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.
1 / 16
شرح كتاب الإبانة - الآثار الواردة في افتراق الأمة وظهور البدع
وردت آثار كثيرة عن نبينا محمد ﵊ في افتراق هذه الأمة وظهور البدع فيها، وما ذاك إلا بسبب ركوبها سنن أهل الكتاب، ومتابعتهم في عقائدهم وأخلاقهم ومسالكهم ومشاربهم، ولا مخرج من هذا كله إلا أن يكون المسلم على ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه الكرام.
2 / 1
مقدمة المصنف رحمه الله تعالى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: فهذا هو الدرس الأول في صلب الكتاب، وما سبق كان تعريفًا بالمؤلِّف والمؤلَّف.
ذكر الإمام ابن بطة ﵀ في مقدمة هذا الكتاب كلامًا يستشعر القارئ أنه ينضح أسىً وحزنًا على ما بلغ إليه أهل زمانه من الفساد والانحراف وترك السنة وظهور البدعة، فكيف به لو ظهر في زماننا ورأى ما نحن عليه؟! قال المصنف رحمه الله تعالى: [الحمد لله المشكور على النعم بحق ما يطول به منها، وعند شكره بحق ما وفق له من شكره عليها، فالنعم منه والشكر له، والمزيد في نعمه بشكره، والشكر من نعمه لا شريك له، المحمود على السراء والضراء، والمتفرد بالعز والعظمة والكبرياء، العالم قبل وجود المعلومات، والباقي بعد فناء الموجودات، المبتدئ بالنعم قبل استحقاقها، والمتكفل للبرية بأرزاقها قبل خلقها، أحمده حمدًا يرضيه ويزكينا لديه، وصلى الله أولى صلواته على النبي الطاهر عبده ورسوله مفتاح الرحمة وخاتم النبوة، الأول منزلة، والآخر رسالة، الأمين فيما استودع، الصادق فيما بلغ.
أما بعد: يا إخواني! عصمنا الله وإياكم من غلبة الأهواء ومشاحنة الآراء، وأعاذنا وإياكم من نصرة الخطأ وشماتة الأعداء، وأجارنا وإياكم من غير الزمان -أي: من تغيرات الزمان ومحدثاته- وزخاريف الشيطان، فقد كثر المغترون -وفي رواية: فقد كثر المفترون- بتمويهاتها، وتباهى الزائغون والجاهلون بلبسة حلتها، فأصبحنا وقد أصابنا ما أصاب الأمم قبلنا، وحل الذي حذرناه نبينا ﷺ، من الفرقة والاختلاف، وترك الجماعة والائتلاف، وواقع أكثرنا الذي عنه نهينا، وترك الجمهور منا ما به أمرنا، فخلعت لبسة الإسلام، ونزعت حلية الإيمان، وانكشف الغطا وبرح الخفاء، فعبدت الأهواء واستعملت الآراء، وقامت سوق الفتنة وانتشرت أعلامها، وظهرت الردة وانكشف قناعها، وقدحت زناد الزندقة فاضطرمت نيرانها، وخلف محمد ﷺ في أمته بأقبح الخلف، وعظمت البلية واشتدت الرزية، وظهر المبتدعون، وتنطع المتنطعون، وانتشرت البدع، ومات الورع، وهتكت سجف المشاينة، وشهر سيف المشاحة بعد أن كان أمرهم هينًا وحدهم لينًا، وذاك حتى كان أمر الأمة مجتمعًا، والقلوب متآلفة، والأئمة عادلة، والسلطان قاهرًا، والحق ظاهرًا، فانقلبت الأعيان، وانعكس الزمان، وانفرد كل قوم ببدعتهم، وحزب الأحزاب، وخولف الكتاب، واتخذ أهل الإلحاد رءوسًا أربابًا، وتحولت البدعة إلى أهل الاتفاق، وتهوك في العسرة العامة وأهل الأسواق، ونعق إبليس بأوليائه نعقة فاستجابوا له من كل ناحية، وأقبلوا نحوه مسرعين من كل قاصية، فألبسوا شيعًا، وميزوا قطعًا، وشمتت بهم أهل الأديان السالفة والمذاهب المخالفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وما ذاك إلا عقوبة أصابت القوم عند تركهم أمر الله ﷿، وصدفهم عن الحق، وميلهم إلى الباطل، وإيثارهم أهواءهم، ولله ﷿ عقوبات في خلقه عند ترك أمره ومخالفة رسله، فأشعلت نيران البدع في الدين، وصاروا إلى سبيل المخالفين، فأصابهم ما أصاب من قبلهم من الأمم الماضين، وصرنا في أهل العصر الذين وردت فيهم الأخبار ورويت فيهم الآثار].
2 / 2
الآثار الواردة في افتراق الأمة وظهور البدع
ثم يروي ﵀ بعد ذلك بسنده آثارًا كثيرة للدلالة على صحة ما قدم لهذا الكتاب، وأن البلاء الذي وقعت فيه الأمة -ولا تزال تغط فيه غطًا- إنما هو بسبب ترك أمر الله ﷿، وترك سنة النبي ﵊، وإقبالها على البدع، وشربها للأهواء شربًا كما تشرب الماء البارد في اليوم الحار.
وهذه النصوص ما كان منها مرفوعًا شددنا فيه، وما كان منها موقوفًا أو أقل من ذلك تساهلنا فيه، وذكرنا بالعبرة منها.
2 / 3
حديث عبد الله بن عمرو (سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل)
وقد أورد ﵀ حديث الافتراق من طرق، وهو حديث يكاد أن يكون متواترًا، فقد رواه الجمع الغفير، وربما وجد في بعض طرقه ضعف، لكن هذا الضعف لا يؤثر؛ لثبوت الحديث اتفاقًا وشهرته كذلك.
قال: [عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: (سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلًا بمثل، حذو النعل بالنعل، وإنهم تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة)]، ولم يذكر اليهود؛ لأن اليهود افترقت إلى واحد وسبعين، والنصارى إلى اثنتين وسبعين، لكن النبي ﵊ في هذه الرواية إنما تكلم عن بني إسرائيل، وهم اليهود والنصارى.
قال: [(وإنهم تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، تزيد عليهم واحدة)]، أي: أن هذه الأمة في تفرقها واختلافها، وعدم ائتلافها واتفاقها، أنها تزيد في تفرقها وتشرذمها وابتعادها عن نهجه السليم القويم عن عدد الاختلاف الواقع في بني إسرائيل، لكن النبي ﵊ لما علم يقينًا من ربه أن اليهود والنصارى بعد بعثته جميعًا في النار ما لم يؤمنوا ويدخلوا في الإسلام إنما اهتم وعني ببيان الفرق الإسلامية التي ستدخل النار.
فقال: [(تزيد عليهم واحدة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! وما تلك الواحدة قال: هو ما نحن عليه اليوم أنا وأصحابي)].
فالنبي ﵊ كان على المحجة البيضاء، وقد تركنا عليها، ليلها كنهارها، ليس فيها زيغ ولا خفاء ولا لبس، ولا شيء من هذا مما يعذر به المرء بين يدي الله ﷿.
فكانت الأمور واضحة والسنة ظاهرة حتى نهاية العصر الأول من عصر النبوة، حين ظهرت القدرية والخوارج والشيعة، وهذه الفرق هي أُولى الفرق ظهورًا في الإسلام، وكلها ظهرت في أواخر القرن الأول من القرون الخيرة.
فالنبي ﵊ بين أن الافتراق لا بد أنه واقع في هذه الأمة، وبين أن هذه الفرق ثلاث وسبعون فرقة، ثم بين أن مجموع هذه الفرق في النار إلا واحدة فقط، وهي التي يطلق عليها أهل العلم: الفرقة الناجية، وبعض الناس يخطئ إذا تصور أنها الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة إجماعًا، لذا فإن كل من تمسك بالسنة واستمسك بها، وتمسك بالجماعة ولم يفارقها قيد شبر، فهو من أهل السنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية.
أما الطائفة المنصورة فشيء آخر، إذ إنهم خاصة الفرقة الناجية، ولذلك قال النبي ﵊: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
قال الإمام أحمد عن الطائفة المنصورة: إن لم يكونوا هم أهل الحديث فلا أدري من هم؟! والظن بالإمام أحمد أنه عنى: أهل العلم المتخصصين المعروفين به، سواء كانوا من أهل الحديث أو من غيره من بقية فروع العلم الشرعي.
قال النبي ﵊: (كلها في النار إلا واحدة)، والسؤال هنا: هل هؤلاء دخلوا النار ردة؟ وإذا دخلوها -إن لم يكونوا قد ارتدوا- فهل سيخلدون فيها؟ اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إن هذه الفرق كفرت وارتدت، وهي في الآخرة مخلدة في النار، لكن جمهور أهل السنة والجماعة أن الحكم بالنار لهذه الفرق ليس على سبيل التأبيد، وإنما على سبيل جزاء الانحراف وعلى قدر الانحراف، فيعذبون ثم يخرجون بشفاعة الشافعين بعد ذلك.
مع أنهم يستثنون الغلاة، وإن شئت فقل: هم يقسمون الفرق إلى عامة وغلاة، فالغلاة منهم لا بأس بتكفيرهم؛ لأنهم من أهل العلم، وقد ظهرت لهم حجج أهل السنة والجماعة، وهي حجج شرعية نقلية، ومتفقة مع العقل السليم تمام الاتفاق.
وهذا الرأي من أعجب الآراء إلي، إذ إن غلاة كل فرقة كفار إذا أتوا ما يستوجب كفرهم، وهم مخلدون في النار بالتأكيد إلا فرقة واحدة وهم أهل السنة والجماعة.
وسموا بأهل السنة لاتباعهم للسنة، وسموا الجماعة لأنهم لا يخالفون الإمام ولا يخرجون عليه، وأعني بالإمام: الإمام العادل المسلم وإن كان فاجرًا؛ لأن أهل السنة متفقون على عدم جواز الخروج على الإمام المسلم وإن جار، لكن بشرط أن لا يكون جوره مؤديًا إلى كفره كفرًا بواحًا، فلو كان مؤديًا إلى كفره كفرًا بواحًا، واستتيب ولم يتب وجب على الأمة أن تجتمع لخلعه ولا بد، قال: (كلهم في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! وما تلك الواحدة قال: هو ما نحن عليه اليوم أنا وأصحابي) وهذا يدل على أن الصحابة وخاصة الخلفاء الراشدين على الستر والسلامة والأمن والإيمان، وأن البدع من أبعد الأشياء عنهم أجمعين، فضلًا عن الخلفاء الراشدين.
2 / 4