ما جاء في علماء السوء قوله: «يخرج فيكم ... الخ»: انظر ما الوجه في ذكر هذا الحديث والذي بعده في هذا الباب، ولعله أشار بذكر هؤلاء إلى أنهم من جملة علماء السوء وإن اختصوا بالعبادة، وذكر في البخاري سبب هذا الحديث أن أبا سعيد الخدري قال: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله أعدل، فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر يا رسول الله إئذن لي فيه فأضرب عنقه، فقال: دعه فان له أصحابا يحقر أحدكم صلاتهم مع صلاتهم"، ثم ساق الحديث مع زيادة في آخره واختلاف في بعض الألفاظ، وذكر في آخره "أن آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ومثل البضعة تدردر ويخرجون على حين فرقة من الناس، قال أبو سعيد: فاشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل <01/57> فالتمس، فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبيء صلى الله عليه وسلم الذي نعته"، وهذه الزيادة لم يروها جابر بن زيد، وهو قد سمع الحديث من أبي سعيد أيضا، أتراه يأخذ عن أبي سعيد ويسمع منه ذلك ثم يتولى من كان هذا وصفه؟ كلا، بل هو أورع من ذلك، وقد أدرك عصر الصحابة وسمع من كثير منهم، وإنى لأنزه البخاري عن الكذب لكنه يأخذ عن أهل الأهواء كالشيعة والمرجئة ثقة بهم وإن لهم أهواء لا يؤمنون معها على نقل يخالف ما هم فيه، وكيف يصح ذلك، وهذا الحسن بن علي تلقا أباه حين دخل الكوفة، فقال: يا أبتي أقتلت القوم؟ قال: نعم قال لا يرى قاتلهم الجنة، قال: ليت أنى أدخلها ولو حبوا، ولما فقد على تلك الأصوات بالليل كأنها دوي النحل، قال: أين أسود النهار ورهبان الليل؟ قالوا: له قتلناهم يوم النهر، وفي السير من كتاب النهروان حدثني مسعود بن الحكم الهمداني: أن ابن عباس قال للحسن إنكم لأحق بيت في العرب أن تتيهوا كما تاهت بنو إسرائيل، قمتم بكتاب الله وبسنة نبيئه عليه السلام فجاهدتم بها ثم جعلتم حكما على كتاب ربكم ثم خيار المسلمين وفقهائهم، وقد أفنوا المخ واللحم وأجهدوا الجلد والعظم من العبادة، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وفي السير أيضا عن الحصين بن نوفل عن ابن عباس قال: أصاب أهل النهر السبيل أصاب أبو بلال السبيل، وفي السير أيضا من كتاب النهروان وحدثني مسعود بن عبد الله بن شداد أنه قدم المدينة فأرسلت إليه عائشة فقالت: يا عبد الله لم قتل علي أصحابه؟ فحدثها بالقصة كلها، فقالت: ظلمهم، قالت: هل تسمي أحدا ممن قتل؟ قال: نعم حرقوص بن زهير السعدي، فاسترجعت، وقالت: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في منزلي قال: يا عائشة أول رجل يدخل من هذا الباب من أهل الجنة فدخل حرقوص ولحيته تقطر ماء، وقال ذلك في اليوم الثاني، فدخل وكذلك في اليوم الثالث، قالت: ومن؟ قلت: زيد بن حصن الطائي، فبكت وقالت: والله لو اجتمعت الأمة على الرمح الذي طعن به زيد لكان حقا على الله أن يكبهم جميعا في النار، ولما التحم القتال في النهروان من الغداة إلى الأصيل وعلي واقف ومعه أبو العقيصة فسمعه يقول: والله إن كنتم لأصحاب الدار يوم الدار وأصحاب الجمل يوم الجمل وأصحاب صفين يوم صفين وأصحاب القرآن إذا تلي القرآن، فقال: <01/58> له ففيم نحن إذا؟ فضرب فرسه فلحق بهم وقتل فيها، وعن ابن عباس قال: حدثني قنبر مولى علي، قال: تحولت أنا وعلي إلى النهر بعد القتال فانكب طويلا يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: ويحك صرعنا هاهنا خيار هذه الأمة وقراءها، فقلت: أي والله، فأبكى وبكى طويلا ثم قال: جذعت أنفي وشفيت نفسي، فأظهر الندامة على قتله إياهم، وقال له رجل: هؤلاء الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا، قال: ويحك أولئك أهل التوراة والإنجيل، وقال له آخر: والله ما بين الطريقين طريق إن كان أمر الحكمين هدى فقد ضللت بنقضك عهدك وبراءتك منهما، وإن كان ضلالة لقد ضللت بقتلك أهل النهر إذ نهوك عن الضلالة، وفي السير أيضا من كتاب النهروان عن جابر بن زيد أن عليا لما أظهر الندامة للناس قيل له: قتلت قوما وأظهرت الندامة عليهم وطفقت تمدحهم وتزين أمرهم لتخلعن أو لتقتلن، فلما أصبح قال: ابتغوا في القتلى رجلا فوجدوا نافعا مولى ترملة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صالحا مجتهدا قطع الفحل يده، فقال: هذا هو، فقال له الحسن: هذا نافع مولى ترملة، قال: له أسكت الحرب خدعة، وهذا الرجل هو التبس به على القوم أمر دينهم وظنوا أنه علامة للباطل، فهذه بعض الآثار الموجودة في أهل النهر رضوان الله عليهم والكلام في استقصائها طويل، وللقوم في ذلك أهوية حملت بعضهم على وضع أحاديث في القضية وبعضهم على تأويل الصحيح على غير وجهه فالله المستعان، قال القطب: وترى المخالفين يروون أحاديث لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يصح الحديث ويزيدون فيه وقد يصح الحديث ويؤولونه فينا وليس فينا، ثم ذكر تأول علي بن أبى طالب للحديث في أهل النهر وكذا تأول أبي أمامة حديثا رواه أيضا وتأوله في من أنكر التحكيم وهذا تأويل لم يقم عليه دليل، وكيف لا يحمل الحديث في عباد قومنا مع ما ترى من اجتهادهم، فإن أصحابهم يؤثرون عنهم أشياء من التلاوة والعبادة نحقر صلاتنا مع صلاتهم وصيامنا مع صيامهم، فلعل الحديث فيهم، فيكون لكل تأويله وهذا إلزام للخصم بنظير قوله، وأما الحديث فهو عندنا في علماء السوء وفي كل من خالف عمله كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث عبادة بن الصامت الآتي في باب الإمارة وفيه: "ستكون عليكم أمراء يقرؤون كما <01/59> تقرؤون ويعملون ما تنكرون"، ويمكن أن يحمل على غلاة الخوارج من الأزارقة والصفرية القائلين بشرك أهل الكبائر فإنهم يجتهدون في التحرز والعبادة لئلا يقعوا في الشرك ويؤيده ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول وهوى بيده إلى العراق، يخرج منه قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية"، وحمله على كل من خالف الحق في عبادته أظهر، كما يدل عليه ظاهر قوله السلام يخرج فيكم قوم ... الخ، فإن لفظ "في" تدل على أن الخروج بمعنى الوجود بعد العدم، والمعنى: يوجد فيكم قوم هذا وصفهم، واعلم أن اسم "الخوارج" كان في الزمان الأول مدحا لأنه جمع "خارجة"، وهي الطائفة التي تخرج للغزو في سبيل الله تعالى، قال عز وجل: {ولو ارادوا الخروج لأعدوا له عدة}[التوبة: 46]، ثم صار ذما لكثرة تأويل المخالفين أحاديث الذم في من اتصف بذلك آخر الزمان، ثم زاد استقباحه حين استبد به الأزارقة والصفرية فهو من الأسماء التي اختفى سببها وقبحت لغيرها، فمن ثم ترى أصحابنا لا يتسمون بذلك وإنما يتسمون بأهل الاستقامة لاستقامتهم في الديانة وعكس هذا الاسم تسمية أهل السنة، فإنه كان في الزمن الأول قبيحا لكون المراد بالسنة التي سنها معاوية في سب علي وشتمه على المنابر، فصار ذلك سنة ينشأ عليها الصغير ويموت عليها الكبير، حتى غيرها عمر بن عبد العزيز في خلافته، فأهل ذلك الحال هم أهل السنة في ذلك الزمان ثم اندرس هذا السبب واختفى وظنوا أن السنة سنة النبيء صلى الله عليه وسلم فتمدحوا بذلك وجمعوا بين المتضادين في الولاية وهم يعلمون أن الحق مع فريق منهم وخالفوا سنتهم الأولى حين صارت الدولة لبني العباس من بني هاشم.
قوله: «تحقرون»: بكسر القاف: أي: تستصغرون.
Página 62