قال أرسطاطاليس : « ويظهر أنا عندما نفقد جسا من حواسنا أنه يلزم بذلك من الاضطرار أن نفقد علما من علومنا ولا يمكننا إدراكه ، من قبل أن جميع ما نعلمه ليس يخلو أن يكون إما بالاستقراء ، وإما بالبرهان . والبرهان إنما يتم من مقدمات كلية *[81b] وأما الاستقراء فإنما يكون من الجزئى . والمقدمات الكلية لا طريق لنا إلى إظهارها . والعلم بها إلا بالاستقراء . وذلك أن المقدمات المأخوذة فى الذهن معراة من المادة إذا رام الانسان تبيين أنها صادقة بأن يعريها من مادة مادة أن يبينها بالاستقراء ، سواء أخذتها بأن تقربها نحو مادة ، أو أخذتها معراة من المادة . ولا طريق إلى الاستقراء متى فقدنا الحس من قبل أن الحس هو المباشر للأشياء الجزئية . فلا طريق إذن إلى أن نعلم الكل إلا بالاستقراء ، والاستقراء فلا طريق أن نعلمه إلا بالحس . » التفسير هذا فصل آخر غير الفصول التى تقدمت . وهو من النظر فى أحوال المقدمات المعروفة بنفسها . وغرضه أن يبين أن العلم بالعقل إنما يكون من قبل العلم بالحس ، وأن من فقد حاسة من الحواس منذ الولادة ، مثل أن يولد أعمى أو أصم ، أنه ليس يمكنه أن يدرك المعقولات التى فى ذلك الحس . فالأكمه لا يمكنه أن يدرك معقولات الألوان ، ولا الأصم يدرك معقولات الألحان ، ولا معقولات دلالات الألفاظ . فقوله : « ويظهر أنا عندما نفقد حسا من حواسنا أنه يلزم لذلك من الاضطرار أن نفقد علما من علومنا » - يعنى أنه يظهر < أن > من يفقد من أول الأمر حسا من الحواس أنه يفقد معقولات ذلك الحس من المحسوسات ، إذ كان لكل حس محسوسات خاصة . وأما العامة فليس يفقدها إلا بفقد جميع الحواس . وذلك أنه قد تبين فى علم النفس أن المحسوسات منها خاصة بحاسة حاسة ، مثل الألوان : بالعين ، والأصوات : بالسمع ، والذوق : فى الطعوم ، والروائح : بالشم ، والملموسات : باللمس ؛ - ومنها عامة ، مثل الشكل والعدد والحركة ولما ذكر أنه يجب أن يكون [ ٩٢ ب ] من نقصته حاسة أن تنقصه المقدمات الأول التى فى محسوسات تلك الحاسة ، أخذ يبين ذلك ، فقال : « من قبل أن جميع ما نعلمه ليس يخلو أن يكون إما الاستقراء ، وإما بالبرهان » إلى آخر ما كتبناه . وقوله فى ذلك مفهوم بنفسه . وتلخيصه - أن كل معلوم لنا إما أن يكون علمه حاصلا لنا من قبل البرهان ، وإما من قبل بالاستقراء . والبرهان إنما يكون بالمقدمات الكلية . والمقدمات الكلية يحصل علمها لنا بالاستقراء . فإذن كل علمنا إنما يكون من قبل الاستقراء . والاستقراء لما كان للجزئيات ، والجزئيات عنها يوجد الكلى ، وكل علم إنما هو للكلى ، وجب أن يكون كل علم أصله الحواس . فمن فقد ضرورة - حاسة من حواسه ، فقد فقد إدارك الجزئيات التي تخص تلك الحاسة . وإذا فقد إدراك جزئيات ذلك الحس ، فقد فقد مقدماته الأول. وإذا فقد المقدمات الأول في حس ما فقد فقد البرهان في ذلك الحس وإذا كان كل علم تكون في حس ما إنما يكون إما من المعروف بنفسه ،وإما من قبل المعروف بنفسه من قبل الحس - فإذن واجب أن يكون من فقد حاسة من حواسه أن يفقد محسوسات تلك الحاسة . وإذا فقد محسوسات تلك الحاسة ، فقد معقولاتها . وهذا الذى قاله ليس فى شىء منه شك ، إلا ما قال من أن كل مقدمة كلية فإنها تحصل بالاستقراء . فإن المقدمات الأول قد قيل إنها صنفان : صنف يحصل بالاستقراء ، وصنف يحصل لنا بالطبع من غير أن ندرى متى حصل لنا ، ولا من أين حصل . فهذه المقدمات قد يظن بها أنها لا تحتاج إلى الاستقراء . وإذا لم تحتج إلى الاستقراء ، لم تحتج إلى الحس . لكن قد يظهر من أمر هذه المقدمات أنها إنما تكون فى المحسوسات المشتركة ، مثل أن الكل أعظم من الجزء ، وأن المساوية لشىء واحد ( أنها ) متساوية ولهذا السبب كانت حاصلة لنا من أول الأمر لوجود المحسوسات المشتركة فى كل ما تقع عليه حواسنا . ولما كانت حاصلة لنا منذ الصبا ، لم نذكر متى حصلت لنا ، ولا كيف حصلت . وهى لا شك ، حاصلة لنا عن المحسوسات . وليس يتعرى عن هذا الجنس من المقدمات أحد ، لأنه لا يمكن أن يوجد حتى يفقد حس اللمس . وهذه المقدمات تحصل بحس اللمس . وليس كلام أرسطو فى هذه المقدمات . وإنما كلامه فى المقدمات التى تكون فى المحسوسات الخاصة بحاسة حاسة . وقد يدل على هذا أن المقدمات العامة حاصلة عن الحس - أما متى أردنا تصحيحها عند من نازعنا فيها من السفسطائيين ، أو من بهم نقص عن قبولها ، أومن لا يعترف بها من قبل أنه لا يفهم ما تدل عليه أسماؤها - أنا إنما [٩٣ أ] نصححها عنده باستقرائها فى المحسوسات . وليس يعرض هذا فى هذه المقدمات العامة ، بل وفى الخاصة . ولهذا المعنى احتج أرسطو فى الصنفين من المقدمات مفتقرة إلى الحس فى قوله : « وذلك أن المقدمات المأخوذة فى الذهن معراة من المادة إذا رام الإنسان أن يبين أنها صادقة بأن يعريها من مادة مادة إنما يبينها بالاستقراء ، سواء أخذتها بان تقربها من مادة مادة ، أو أخذتها معراة من المادة » - يريد أن الدليل على أن المقدمات الكلية التى تحصل فى الذهن معراة من المادة مفتقرة إلى الحواس أن الإنسان إذا أراد أن يبين أنها صادقة عند من لم يعترف بها - إنما يبين ذلك بالاستقراء بأن يعريها من مادة مادة من المواد الداخلة تحت ذلك الأمر الكلى . يعنى بالمواد : الأمور الجزئية . وقوله : « سواء أخذتها بأن تعريها من مادة مادة أو أخذتها معراة من المادة » - يحتمل أن يريد أن الاستقراء يفتقر إليه فى الصنفين من المقدمات ، أعنى المأخوذة فى مادة ، وهى المقدمات الطبيعية ، والمأخوذة فى غير مادة وهى < المقدمات > التعاليمية ، وهذه هى فى الأكثر المقدمات العامية التى لا ندرى متى حصلت ولا من أين حصلت . وهذه الحجة على هذا هى عامة للصنفين من المقدمات ، أعنى أنها تحتاج إلى الحس . ولخفاء الأمر فى المقدمات العامة ظن المتكلمون من أهل ملتنا أن العقل ليس يحتاج فى إدراكه إلى الحس . والذى عرض لهم فى ذلك ضد ما عرض للقدماء الأول ، فإنهم كانوا يعتقدون أن الحس هو العقل نفسه ، وأنه لا فرق بين مدركيهما .
١٩ - < هل مبادئ البرهان متناهية ، أو لا متناهية ؟ >
Página 417