شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية
Géneros
أوجه ترجيح شيخ الإسلام للمعنى المراد للربيين
قال رحمه الله تعالى: [والأول أصح من وجوه].
يقصد الشيخ بالأول هنا: الأول القريب وليس الأول البعيد، يعني: أنهم العلماء -يدل عليه ما سيأتي- وهو أصح من وجوه.
قال رحمه الله تعالى: [أحدها: أن الربانيين عين الأحبار، وهم الذين يربون الناس، وهم أئمتهم في دينهم، ولا يكون هؤلاء إلا قليلًا].
هذا فيه تضمين للمعاني السابقة، ولا يزال الشيخ في استصحاب قضية حقيقة العبودية، وأن أعظم مباني العبودية التوكل، فهو يميل إلى أن الربيين بمعنى العلماء؛ لأنهم أقوى الناس توكلًا وتحقيقًا للعبودية لله ﷿، وقيمة هذا الاستطراد من الشيخ ﵀ استكمال معنى العبودية والتوكل في الربيين، وأن أخص معانيها وأقواها أنهم العلماء والفقهاء، أعني: أهل الأمر المطاعين، والذين لهم اهتمام بتربية الأمة على عبودية الله ﷿ وإلهيته والتوكل عليه.
قال رحمه الله تعالى: [الثاني: أن الأمر بالجهاد والصبر لا يختص بهم، وأصحاب الأنبياء لم يكونوا كلهم ربانيين، وإن كانوا قد أعطوا علمًا ومعهم الخوف من الله ﷿.
الثالث: أن استعمال لفظ الرباني في هذا ليس معروفًا في اللغة.
الرابع: أن استعمال لفظ الربي في هذا ليس معروفًا في اللغة، بل المعروف فيها هو الأول، والذين قالوه قالوا: هو نسبة للرب بلا نون والقراءة المشهورة: (ربي) بالكسر، وما قالوه إنما يتوجه على من قرأه بنصب الراء، وقد قُرئ بالضم، فعُلم أنها لغات].
قوله: (بلا نون) يعني: يقال: ربي، ولا يقال: رباني.
قال رحمه الله تعالى: [الخامس: أن الله تعالى يأمر بالصبر والثبات كل من يأمره بالجهاد، سواء كان من الربانيين أو لم يكن.
السادس: أنه لا مناسبة في تخصيص هؤلاء بالذكر، وإنما المناسب ذكرهم في مثل قوله: ﴿لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ﴾ [المائدة:٦٣] الآية، وفي قوله: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ [آل عمران:٧٩] فهناك ذكرهم به مناسبًا.
السابع: قيل: إن الرباني منسوب إلى الرب، فزيادة الألف والنون كاللحياني، وقيل: إلى تربيته الناس، وقيل: إلى ربان السفينة، وهذا أصح].
قوله: (ربان السفينة)، أي: قائدها ومدبرها، الآمر والناهي فيها، وكأن الشيخ لا يزال يؤيد أن الربيين بمعنى: العلماء والفقهاء، فهم أهل الأمر والنهي، وأهل القدوة، ونلاحظ أن الشيخ كلما أتت دلالة اصطلاحية أو لغوية تؤيد هذا التفسير نجد أنه يميل إليه.
قال رحمه الله تعالى: [لأن الأصل عدم الزيادة في النسبة، لأنهم منسوبون إلى التربية، وهذه تختص بهم، وأما نسبتهم إلى الرب فلا اختصاص لهم بذلك، بل كل عبد له فهو منسوب إليه، إما نسبة عموم أو خصوص، ولم يسم الله أولياءه المتقين ربانيين، ولا سمى به رسله وأنبياءه، فإن الرباني من يربي الناس كما يربي الرباني السفينة، ولهذا كان الربانيون يُذمون تارة ويُمدحون أخرى، ولو كانوا منسوبين إلى الرب لم يُذموا قط، وهذا هو الوجه.
الثامن: أنها إن جُعلت مدحًا فقد ذُموا في مواضع، وإن لم تكن مدحًا لم يكن لهم خاصة يمتازون بها من جهة المدح، وإذا كان منسوبًا إلى رباني السفينة بطل قول من يجعل الرباني منسوبًا إلى الرب، فنسبة الربيون إلى الرب أولى بالبطلان.
التاسع: أنه إذا قُدِّر أنهم منسوبون إلى الرب فلا تدل النسبة على أنهم علماء، نعم تدل على إيمان وعبادة وتأله، وهذا يعم جميع المؤمنين، فكل من عبد الله وحده لا يشرك به شيئًا فهو متأله عارف بالله، والصحابة كلهم كذلك، ولم يُسموا ربانيين ولا ربيون، وإنما جاء أن ابن الحنفية قال لما مات ابن عباس ﵃: اليوم مات رباني هذه الأمة، وذلك لكونه يؤدبهم بما آتاه الله من العلم، والخلفاء أفضل منه ولم يُسموا ربانيين، وإن كانوا هم الربانيين.
وقال إبراهيم: كان علقمة من الربانيين.
ولهذا قال مجاهد: هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره.
فهم أهل الأمر والنهي، والأخبار يدخل فيه من أخبر بالعلم ورواه عن غيره وحدث به وإن لم يأمر أو ينه.
وذلك هو المنقول عن السلف في الرباني، نُقل عن علي أنه قال: هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها، وعن ابن عباس قال: هم الفقهاء المعلمون.
قلت: أهل الأمر والنهي هم الفقهاء المعلمون.
وقال قتادة وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء.
وقال ابن قتيبة: واحدهم رباني، وهم العلماء المعلمون.
قال أبو عبيد: أحسب الكلمة عبرانية أو سريانية، وذلك أن أبا عبيد زعم أن العرب لا تعرف الربانيين.
قلت: اللفظة عربية منسوبة إلى ربان السفينة الذي ينزلها ويقوم لمصلحتها، ولكن العرب في جاهليتهم لم يكن لهم ربانيون؛ لأنهم لم يكونوا على شريعة منزلة من الله ﷿].
نخرج من هذا الكلام بخلاصة تتكون من شقين: الشق الأول: أن شيخ الإسلام يرى أن معنى الرب
6 / 3