لا يحكم على أحد بأنه صوفي بمجرد انتسابه إلى الصوفية
إذًا: التصوف قسم عام، والأسماء الحادثة أو التاريخية لا يجوز أن يصنف أصحابها الذين ينتسبون إليها بسبب أنهم كتبوا إلى فلان من الناس، ولنفرض أن زيدًا من الناس -حتى نبتعد عن الدخول في أسماء معينة- له كتاب في التصوف، فصل فيه كلامًا غاليًا، ثم توفي وصار رجلًا مشهود الحال في مصر من الأمصار، فصار كثير من العامة فيما بعد ينتسبون إلى زيد هذا، فهل يلزم بالضرورة أن من انتسب إليه يكون على معتقده وعلى حكمه؟
الجواب: لا يلزم، وحينما نقول: لا يلزم، ليس معناه أنه لا يمكن أن يوجد، بل قد يوجد، فبعض الأتباع قد يكونون أضل من بعض الشيوخ، وهذا موجود؛ فإن بعض المتأخرين أبعد من بعض متقدميهم، وهذا مثاله في أتباع عدي بن مسافر الأموي، فإنه كما يشير المصنف في كلامه أن عدي بن مسافر في جمهور أمره على السنة، وإن كان عليه بعض الأخطاء في مسائل من العلم أو العمل.
لكن لما جاء من بعده وهو من أهل بيته بعد وفاته، وتولوا خلافته في دعامة هذه الطائفة وهذه الرتبة، جاء من بعده من المقتصدين، ثم جاء من بعده مقتصدًا، ثم جاء الثالث فغلا في مذهب عدي بن مسافر غلوًا زائدًا، وانحرف به إلى بدع مغلظة، ودخل عليه شيء من الكلام في وحدة الوجود، وغلا في يزيد بن معاوية حتى وصل بـ يزيد بن معاوية إلى مقامات غالية نقلت فيه أحوال منكرة مستغربة، فهؤلاء الذين تأخروا من المنظرين لطريقته زادوا عليه، فالعامة الذين ينتسبون إلى المسافرية أو إلى عدي بن مسافر أو ما إلى ذلك، لا يلزم بالضرورة أنهم بهذا اللاحق الذي غلا ولا بـ عدي بن مسافر الذي كان من المقتصدين في الجملة.
إذًا: النسبة إلى الأسماء الحادثة وحدها لا تكفي في درجة الحكم، لكن قد تكفي في إعطاء حكم عام، كأن تقول: الانتساب إلى هذا الاسم بدعة، فهذا نسميه حكمًا عامًا، لكن أن نصل إلى حكم مفصل أو تطابق الحكم على الغالي مع غير الغالي، فإن هذا ليس وجهًا من العدل الذي جاءت به الشريعة.
وتوضيح ذلك: أن الباطنية في التاريخ انتسب إليهم كثير من العامة، ومن المعلوم أن العامة في نظام الباطنية لا يكشف لهم الباطن، وقد يكشف شيء من الباطن بقدر يسمونه بما تحتمله النفوس، ولا يكشف لهم سائر ما في الباطن، فهؤلاء وإن كان انتسابهم مذمومًا، لكنهم لا يصلون إلى درجة أئمة القائمين بهذا الغلو من البدعة.
فالتصوف اسم ظهر في أثناء المائة الثانية، وانتسب إليه قوم صالحون مقتصدون هم في الجملة على السنة والجماعة، وانتسب إليه قوم دون ذلك عندهم بدع كثيرة في مسائل العمل، وانتسب إليه قوم أدخلوا عليه شيئًا من الأصول العلمية المولدة في الإسلام كعلم الكلام ومقدماته، وإن كان أثره ليس مباشرًا، أو كالفلسفة الصوفية التي نقلوها عن بعض فلاسفة الفرس ونحوهم، وإن كانوا لم ينقلوها نقلًا مطلقًا في سائر مواردها، ولكنهم تأثروا بتلك النظريات الغابرة في التاريخ التي كان عليها بعض الفلاسفة، وهذا ما مثله باطنية المتصوفة المتفلسفة، وإن كان لفظ الباطنية ليس مطابقًا بالضرورة للفظ المتفلسفة، فإن الباطنية انتسب إليها من الصوفية من ليس فلسفيًا، فالمتفلسفة من الصوفية هم أضيق الدرجات وأشكالها.
3 / 11