Sharh al-Wasiyya al-Kubra by Ibn Taymiyyah - Al-Rajhi
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية - الراجحي
Géneros
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [١]
كان شيخ الإسلام ابن تيمية كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، وقد جعل الله في كتاباته البركة في وقته ومن بعده، ومن ذلك وصيته الكبرى للمنتسبين إلى عدي بن مسافر، ففيها نصائح كافية ووصايا شافية تكتب بماء الذهب، فينبغي تأملها والاستفادة منها.
1 / 1
وصية الإمام ابن تيمية إلى أهل السنة والجماعة
1 / 2
نصيحة لطلاب العلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [من أحمد بن تيمية عفا الله عنه إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي ﵀ ومن نحا نحوهم وفقهم الله لسلوك سبيله وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله ﷺ، وجعلهم معتصمين بحبله المتين مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج، الخارجين عما بعث الله به رسوله ﷺ من الشرعة والمنهاج، حتى يكونوا ممن أعظم عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإنا نحمد الله إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم ﷺ وأكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه زلفى، وأعظمهم عندهم درجة محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن الله بعث محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأنزل عليه الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله، وجعلهم أمة وسطًا أي: عدلًا وخيارًا، ولذلك جعلهم شهداء على الناس، وهداهم لما بعث به رسله جميعهم من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم بعد ذلك بما ميزهم به وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم].
أحمد الله ﷾ أن وفقنا لدراسة هذه الرسالة القيمة للإمام العلامة شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني وأسأله ﷾ أن يجعل مجلسنا هذا مجلس علم وخير تنزل عليه السكينة وتغشاه الرحمة وتحفه الملائكة ويذكره الله فيمن عنده، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده).
وإني أبشركم أيها الإخوان! وأهنئكم بهذا الخير العظيم، حيث وفقكم الله ﷾ بسلوك سبيل العلم، فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة)، وقال ربنا ﷾: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [الزمر:٩]، وقال سبحانه: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:١١].
فهنيئًا لكم حيث سلكتم سبيل العلم وأسأل الله ﷾ أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وصوابًا على هدي نبيه محمد ﷺ، فإن طلب العلم وسلوك سبيل العلم من أفضل القربات وأجل الطاعات، ولهذا فإنه يجب على العبد أن يخلص في طلبه للعلم، وأن يكون قصده بذلك وجه الله والدار الآخرة لا رياء ولا سمعة ولا مالًا ولا جاهًا ولا منصبًا.
بأن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم، ولهذا قيل للإمام أحمد ﵀: كيف يخلص طلبه للعلم؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم، قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل:٧٨]، فطالب العلم إذا أخلص عمله لله فهو على خير عظيم، ولهذا قال العلماء: إن طلب العلم أفضل من نوافل العبادة، أي: أنه لو تعارض طلب العلم مع أداء النوافل كنوافل الصلاة مثل: صلاة الليل أو صلاة الضحى أو الصيام مثل صيام الإثنين والخميس وأيام البيض فإنه يقدم طلب العلم؛ لأنه أفضل منها.
وما ذاك إلا لأن المسلم حينما يطلب العلم فإنه يتبصر ويتفقه في دينه فيعلم الحلال والحرام، وإذا تعلم صار ذلك طريقًا إلى العمل فينقذ نفسه وغيره من الجهل، وهذا من علامة إرادة الله بعبده خيرًا، كونه يوجهه إلى طلب العلم ويفقهه في الدين كما ثبت في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان ﵁ أن النبي ﷺ قال: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وأنا قاسم والله المعطي).
فهذا الحديث الشريف الذي رواه الشيخان له منطوق ومفهوم، منطوقه: أن من فقهه الله في الدين فقد أراد الله به خيرًا، ومفهومه: أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرًا.
وقد تكاثرت النصوص في فضل العلم وطلبه، فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري ﵁ أن النبي ﷺ قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها طائفة أجادب أمسكت الماء فنفع الله به الناس فسقوا وزرعوا، وكان منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله فنفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).
وثبت في الأحاديث الصحيحة: (أن الملائكة يتتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوها قالوا: هذه طلبتكم فيحفونهم)، وثبت أيضًا: أن الله تعالى يغفر لأهل الذكر وأهل العلم في مقدمة أهل الذكر، وأنه يأتي إليهم من ليس منهم فتشمله الرحمة فيقول الرب سبحانه: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
وثبت أيضًا: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، فهنيئًا لكم حيث وجهكم الله هذه الوجهة الشريفة فأقبلتم على طلب العلم.
وإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله ﷿، وإخلاص العمل لله والصدق مع الله في إخلاصكم لله في طلبكم للعلم، وعلى طالب العلم أن يحرص كل الحرص في طلب العلم، فيتعلم ويسلك المسالك المتنوعة لطلب العلم من حضور الحلقات في المساجد والدروس العلمية، والالتحاق بالجامعات والكليات والمدارس والمعاهد العلمية، وحضور المحاضرات والندوات، وسماع البرامج المفيدة في إذاعة القرآن وغيرها، وسماع الأشرطة المفيدة النافعة، والقراءة في كتب أهل العلم القديمة والحديثة.
وعلى طالب العلم أن يتحرى قراءة كتب أهل العلم الذين هم على عقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة، وليحذر من القراءة في كتب أهل البدع والضلال.
ومن سبل العلم أيضًا سؤال العلماء والاتصال بهم والأخذ عنهم، وعلى طالب العلم أن يعمل بعلمه، فإن عمله بالعلم يجعله من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم، فمن الله عليهم بالعلم والعمل، وكذلك يكون سببًا لحفظه وبقائه كما قيل: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل فعلى طالب العلم أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة أخلاق أهل العلم، ويحذر من الانحراف والزيغ في معتقده أو في عمله أو مشابهة أهل البدع والضلال، وأن يكون قدوة حسنة في اعتقاده، وفي عمله، وفي أخلاقه، وفي معاملته مع الناس، وأن يقتدي بالعلماء الربانيين كالصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة الأعلام كشيخ الإسلام أحمد بن تيمية صاحب هذه الرسالة العظيمة، وغيره من أهل العلم كالشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب.
1 / 3
التعريف بالإمام ابن تيمية
وهذه الرسالة ألفها شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني المولود سنة إحدى وستين وستمائة من الهجرة، والمتوفى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ﵀ رحمة واسعة، هذا الإمام المجاهد الصابر الذي أظهر معتقد أهل السنة والجماعة بعد اندثاره، وأظهر الله به الحق، وقمع به أهل الشرك والبدع والضلال، وتتلمذ على يديه أئمة فحول من أبرزهم تلميذه العلامة ابن القيم الجوزية رحمة الله عليه.
فهذا الإمام الذي أحيا الله به السنة، والذي قارع أهل البدع وأبطل شبههم، فقد قال في كتابه بيان موافقة الصريح المعقول للصحيح المنقول: أنا كفيل بأن أجعل كل دليل يستدل به أهل الباطل حجة عليهم، أي: أبين لهم أن هذا الدليل الذي يستدلون به دليل عليهم، رحمة الله عليه.
1 / 4
اقتداء ابن تيمية بالنبي ﷺ في كتابة الرسائل
هذه الرسالة سميت بالوصية الكبرى، وذلك لتوسعه في بيان ما تشمله العقائد والأعمال والأحوال، وله رسالة أخرى تسمى الوصية الصغرى، فوجه الإمام ﵀ هذه الرسالة إلى عموم المسلمين، فقال رحمة الله عليه: قوله رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم).
الشيخ الإمام ﵀ افتتح كتابه بالبسملة تأسيًا بالكتاب العزيز، فإن الله ﷾ افتتح كتابه بالبسملة ثم ابتدأه بالحمد والثناء على الله ثم قال: (من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين) اقتدى بالنبي ﷺ في كتابته ورسائله إلى الملوك ورؤساء القبائل والعشائر وغيرهم، فإنه ﵊ لما كتب الكتاب إلى هرقل عظيم الروم قال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:٦٤])، فإن النبي ﷺ بدأ بذكر اسمه فقال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم)، وشيخ الإسلام اقتدى بالنبي ﷺ فقال: (من أحمد بن تيمية إلى من أرسل إليه هذا الكتاب).
فكان هذا الإمام يتأسى بالنبي ﷺ في كل شيء.
إذًا: هذه الوصية لعموم المسلمين وسميت بالوصية الكبرى لتوسعه ﵀ فيها، وتفصيله في بيان ما تشتمل عليه، كأصول الإيمان وأصول الدين ثم توسع فيها فقال: (من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة)، ثم خصص فقال: (المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي ﵀ ومن نحا نحوهم).
فكأنه وجه هذه الرسالة إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي، لأنهم طلبوا منه أن يكتب لهم هذه الرسالة، أو لأنه رأى أن يوجه الخطاب إليهم لعنايته بهم، وكونه يريد أن يخصهم بهذه الوصية؛ لأنه ﵀ رأى أنهم على معتقد أهل السنة والجماعة فأراد أن يزودهم، ولم يقدر لي أن أطلع على ترجمة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي حتى يتبين معتقده هل عليه مؤاخذات في العقيدة أو لا؟ والمؤلف ﵀ وجه الخطاب إلى عموم المسلمين، ثم خص بعد التعميم، فوجه الخطاب إلى جماعة أبي البركات عدي بن مسافر ﵀ ودعا لهم، وهذا من نصحه ﵀، أنه يعلم ويدعو، وكذلك الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ﵀ فإنه يعلم ويدعو، يقول في رسائله: (اعلم -أرشدك الله لطاعته- أن الحنفية ملة إبراهيم أن تعبد الله مخلصًا له الدين).
ويقول: (أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة وأن يجعلك مباركًا حيثما كنت، وأن يجعلك ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر) فهؤلاء العلماء الربانيون يعلمون الناس ويدعون لهم وهذا من نصحهم، فالشيخ الإمام أحمد بن تيمية ﵀ وجه هذه الوصية العظيمة لعموم المسلمين ودعا لهم بالتوفيق فقال: (وفقهم الله لسلوك سبيله)، لأن الله إذا وفق العبد، فإنه يسلك سبيل الحق، وإذا لم يوفقه بأن يخذله فإنه يكله إلى نفسه، ولا يكله إليه، فالتوفيق من الله.
1 / 5
خصوصية المؤمن
لله تعالى نعمة دينية خص بها المؤمن دون الكافر قال الله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾ [الحجرات:٧ - ٨]، خلافًا للمعتزلة والقدرية الذين يقولون: إن الله تعالى بين طريق الخير وطريق الشر لأهل الإيمان ولأهل الكفر على حد سواء، وليس للمؤمن خصوصية، وهذا من أبطل الباطل، وأهل الإيمان قد وفقهم الله لسلوك سبيله، وهو الصراط المستقيم، أي: العمل بالكتاب والسنة، وهو ما جاء من الرسول ﵊، وهو اتباع شرع الله ودينه، والعمل بكتابه وسنة نبيه محمد ﷺ.
وقوله ﵀: (وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله ﷺ، هذا دعاء آخر فيه بيان أن الإعانة من الله، وأن من لم يعنه الله فإنه لا يتمكن من طاعة الله وطاعة رسوله.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يعين المؤمن، بخلاف المعتزلة والقدرية فلا يقولون بذلك بل يقولون: ليس لله إعانة لأحد، فالمؤمن يختار الخير بنفسه من دون إعانة، والكافر يختار الشر بنفسه من دون خذلان، وهذا من أبطل الباطل، فالله تعالى يعين المؤمن، ويخذل الكافر.
وقوله رحمه الله تعالى: (وجعلهم معتصمين بحبله المتين).
هذا دعاء ثالث، وحبل الله المتين هو دين الله وشرعه، كما قال سبحانه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران:١٠٣].
ومن اعتصم بحبل الله فهو من الناجين.
وقوله ﵀: (مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) هذا وصف، يعني: جعلهم مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا هو طريق المنعم عليهم بالعلم والعمل، فصاروا معتصمين بحبل الله مهتدين لصراطه المستقيم.
قال الله تعالى في كتابه المبين: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء:٦٩].
1 / 6
طوائف أهل الضلال والاعوجاج
قوله رحمه الله تعالى: (وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج، الخارجين عما بعث الله به رسوله ﷺ من الشرعة والمنهاج).
جنبهم أي: جعلهم في جانب، وأهل الضلال في جانب آخر، والمعنى: جعلهم بعيدين متجنبين لطريق أهل الضلال والاعوجاج، الخارجين عما بعث الله به رسوله من الشريعة والمنهاج، وأهل الضلال والاعوجاج طائفتان: الطائفة الأولى: المغضوب عليهم الذين علموا ولكنهم لم يعملوا بعلمهم، ويدخل في ذلك اليهود دخولًا أوليًا، وكل من فسد من علماء هذه الأمة.
الطائفة الثانية: الضالون وهم الذين لم يتعلموا، وإنما عملوا على جهل وضلال، وليس على بصيرة، كالصوفية والزهاد الذين يتخبطون في الظلمات من دون بصيرة ولا علم.
وقد أمرنا ربنا ﷾ أن ندعو في كل ركعة من ركعات الصلاة بأن يهدينا صراط المنعم عليهم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، وذلك في سورة الفاتحة التي هي ركن في كل ركعة من ركعات الصلاة قال تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:٦ - ٧].
هذا الدعاء أنفع دعاء وأعظمه وأجمعه، وحاجة العبد إلى هذا الدعاء أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أعظم من حاجته إلى النفس الذي يتردد بين جنبيه؛ لأنه إذا فقد الطعام والشراب والنفس مات، والموت لابد منه، ولا يضر الإنسان كونه يموت إذا كان مستقيمًا على صراط الله ودينه، لكن إذا فقد الهداية مات قلبه وروحه فصار إلى النار والعياذ بالله، فأيهما أشد موت القلب أو موت البدن؟ وقد قسم الله تعالى الناس إلى ثلاثة أقسام: منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالون.
وقوله ﵀: (حتى يكونوا ممن أعظم الله عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة) هذا دعاء لهم أن يوفقهم الله لسلوك سبيله، وأن يعينهم على طاعته، وأن يجعلهم معتصمين بحبله، مهتدين لصراطه، وأن يجنبهم طريق أهل الضلال حتى يكونوا بذلك ممن أعظم الله عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة، وهذا فيه دليل على أن من اتبع الكتاب والسنة فإن الله تعالى قد أعظم عليه المنة، كما قال ﷾ في المؤمنين: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾ [الحجرات:٧ - ٨]، فهي منة من الله ليس لك حول ولا قوة، فلست أنت الذي هديت نفسك كما تزعمه الجبرية والقدرية والمعتزلة فإنهم يقولون: الإنسان هو الذي هدى نفسه، وهو الذي أضل نفسه، وهذا من أبطل الباطل فمن اتبع الكتاب والسنة فإن الله قد أعظم عليه المنة، وأنعم عليه بنعمة دينية خصه بها دون غيره ممن خذله.
إذًا: متابعة الكتاب والسنة ليست بحولك ولا بقوتك، ولكنها منة من الله ونعمة.
1 / 7
الفرق بين قوله تعالى: (فقالوا سلامًا) و(قال سلامٌ)
قوله ﵀: (سلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
السلام موجه إلى جميع المسلمين، يقال: سلام بالتنكير، ويقال: السلام بالتعريف، كما قال الله تعالى عن إبراهيم لما سلمت عليه الملائكة: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ﴾ [الذاريات:٢٥]، قال العلماء: إن سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة، لأن سلام الملائكة جملة فعلية، والتقدير: نسلم عليك سلامًا، والجملة الفعلية تفيد الحدوث والتجدد، أما سلام إبراهيم فهو جملة اسمية والتقدير: عليكم سلام والجملة الاسمية تفيد الدوام والاستمرار والثبوت، فالجملة الاسمية أبلغ من الجملة الفعلية؛ فكان سلام الملائكة بذلك أقل.
وقوله: (سلام عليكم) جملة مكونة من مبتدأ وخبر، ويجوز في السلام التنكير والتعريف، تقول: سلام عليكم، والسلام عليكم.
1 / 8
فائدة كلمة (أما بعد)
قوله رحمه الله تعالى: (وبعد).
الغالب على شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ أنه يقول: أما بعد، وهذه الكلمة يؤتى بها للفصل للدخول في صلب الموضوع بعد الإتيان بخطبة الكتاب ويقال: وبعد، وكان النبي ﷺ كثيرًا ما يأتي بها في خطبته في يوم الجمعة ﵊ فيقول: (أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) فكان شيخ الإسلام يقتدي بالنبي ﷺ، أما قوله: وبعد فإنه اختصرها.
واختلف في أول من قال: أما بعد، قيل: أول من قالها داود ﵊، وقيل: أول من قالها قس بن ساعدة الإيادي، والنبي ﷺ كان يستعملها في خطبه.
1 / 9
تعريف الحمد، والفرق بينه وبين المدح
قوله ﵀: (فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير).
الحمد: هو الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية، مع حبه وإجلاله وتعظيمه، فإن خلا عن الحب والإجلال صار مدحًا، فالمدح والحمد يشتركان في الثناء بالصفات والأفعال، فإذا كان مع الثناء حب وإرادة وإجلال فهو الحمد، وإن خلا عن الإرادة والحب والإجلال فهو المدح، فأنت تثني على الأسد بأنه قوي العضلات، وقوي الهجوم، وهو ملك الحيوانات، لكنك لا تحبه فيسمى هذا مدحًا، ولا يسمى حمدًا، فإن كان معه إرادة ومحبة صار حمدًا، ولهذا جاء الثناء على الرب بالحمد، قال سبحانه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:٢]، والله لفظ الجلالة وهو الله أعرف المعارف: علم على ربنا ﷾، وهو مشتمل على الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.
1 / 10
اشتقاق أسماء الله ﷿
كل أسماء الله مشتقة ومشتملة على صفات، فالرحمن مشتمل على صفة الرحمة، والعليم مشتمل على صفة العلم، والقدير مشتمل على صفة القدرة، وهكذا، فجميع الصفات مشتملة على الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.
1 / 11
إعراب كلمة لا إله إلا الله ومعناها
إعراب كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) على النحو التالي: لا: نافية للجنس من أخوات إن تنصب الاسم وترفع الخبر، وإله اسمها، والخبر محذوف تقديره حق، والإله: هو المعبود، والمعنى: لا معبود حق إلا الله، وهذا خلاف ما عليه أهل البدع من الأشاعرة الذين يفسرون الإله بأنه القادر على الاختراع، فيقولون: معنى لا إله إلا الله: لا خالق إلا الله، أو لا قادر إلا الله، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنه لو كان معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله): لا خالق إلا الله، لما حصل نزاع بين النبي ﷺ وبين المشركين، فإن المشركين يقولون: لا خالق إلا الله، لا قادر على الاختراع إلا الله، فهم يقرون بذلك، فلو كان معنى: لا إله الله كما يقوله أهل البدع: لا خالق إلا الله؛ لصالح النبي ﷺ المشركين ولصار بينه وبينهم موافقة، لأنهم مقرون بأنه لا خالق إلا الله، لكنهم يأبون أشد الإباء أن يفردوا الله بالعبادة، ولا يتبين عظمة هذه الكلمة التي تنفي الشرك وتبطل عبادة جميع الآلهة إلا إذا فسر الله بالمعبود، وقدر الخبر بأنه حق، أي: لا معبود حق إلا الله، والآلهة الموجودة التي عبدت من دون الله كثيرة، فالشمس إله لبعض الناس وقد عبدت، والقمر إله لبعض الناس، والنجم إله لبعض الناس، والبشر والحجر والنجوم والكواكب والجن والملائكة كلها عبدت من دون الله، وهذه العبادات كلها باطلة، والعبادة بالحق هي عبادة الله، قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [الحج:٦٢].
وقال سبحانه: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [هود:١٠١]؛ لأنها آلهة باطلة، قال سبحانه: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون:١ - ٦]، إذًا: الكفار يعبدون معبودات لكنها باطلة، ولهم دين، لكنه باطل: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ».
وقال سبحانه عن أهل الكتاب: ﴿وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ [آل عمران:٧٣]، إذًا: هم على دين، لكنه باطل، ولهم عبادة وآلهة لكنها آلهة باطلة، فكلمة لا إله إلا الله تبطل جميع الآلهة المعبودة من دون الله، وتثبت الإلهية لله ﷿، وهي مشتملة على نفي وإثبات، مشتملة على البراءة من كل معبود سوى الله وهذا هو الكفر بالطاغوت، ومشتملة على الإيمان بالله وتوحيد الله، فكلمة التوحيد فيها كفر وإيمان، كفر بالطاغوت في قولك: لا إله، وإيمان بالله في قولك: إلا الله، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:٢٥٦].
ومعنى الكفر بالطاغوت هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله، واعتقاد بطلانها ونفيها وإنكارها.
1 / 12
مذهب المعتزلة والقدرية في المشيئة
وقوله ﵀: (هو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير).
أي: الله ﷾ للحمد أهل؛ لأنه هو الذي أوجدنا من عدم، وهو الذي خلقنا ولم نك شيئًا مذكورًا، ومن علينا بالنعم العظيمة وهدانا للإسلام، وأعطانا السمع والبصر والفؤاد، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، فهو أهل الحمد ﷾، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة، وهو على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، كل شيء هو داخل تحت قدرة الله تعالى، بخلاف المعتزلة فإنهم لا يقولون: وهو على كل شيء قدير، بل يقولون: وهو على ما يشاء قدير، فإذا وجدت في بعض الكتب وهو على ما يشاء قدير، فاعلم أن هذا يتمشى مع مذهب المعتزلة والقدرية؛ لأنهم يقولون: إن الله يقدر على ما يشاء، أما الذي لا يشاؤه فلا يقدر عليه، وهي الأفعال فأفعال العباد يخرجونها من قدرة الله ومشيئته.
ويقولون: إن العباد أرادوا أفعالهم من الكفر والإيمان والطاعة والمعصية وخلقوها استقلالًا من دون الله، والله ما أراد أفعال العباد، ولا شاءها ولا خلقها، بل العباد هم الذين أوجدوها بأنفسهم استقلالًا، وقصدهم من ذلك أن يفروا بزعمهم من القول بأن الله خلق المعاصي وعذب عليها فلا يكون ظالمًا؛ لأنهم قالوا: لو قلنا: إن الله خلق المعاصي وعذب عليها كان ظالمًا، وشرًا من ذلك قولهم: إن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم من طاعات ومعاصي مستقلين، وهذا من أبطل الباطل، ولذلك قال تعالى: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة:١٢٠] فكل ما يسمى شيئًا فالله عليه قدير، ولا يقال: ممتنع ومستحيل كالجمع بين النقيضين فيقال: هل يقدر الله على الجمع بين النقيضين، وهو كون الشيء موجودًا معدومًا في نفس الوقت أو لا؟ فهذا ليس بشيء؛ لأنه في نفسه متناقض، بعضه ينقض بعض فالممتنع والمستحيل لذاته لا يسمى شيئًا، فلا يقال: إنه داخل تحت القدرة أو ليس داخلًا؛ لأنه لا يسمى شيئًا.
1 / 13
معنى صلاة الله على نبيه محمد ﷺ
قوله ﵀: (ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم ﷺ.
ونسأل الله ﷿ أن يصلي على خاتم النبيين، محمد رسول الله ﷺ، الذي ليس بعده نبي، قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب:٤٠]، فمن اعتقد أن بعده نبي فهو كافر بإجماع المسلمين، وكذلك من زعم أن رسالته خاصة بالعرب، أو أنه ليس برسول إلى العرب والعجم، أو أنه ليس رسولًا إلى الجن، بل هو رسول الله إلى العرب والعجم والجن والإنس، قال ﷾: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ:٢٨]، وقال سبحانه: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان:١] وهذا عام، وقال سبحانه: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام:١٩].
فرسالة نبينا محمد ﷺ رسالة عامة لجميع الثقلين الجن والإنس، العرب والعجم، وأصح ما قيل في صلاة الله على نبيه، ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي العالية أنه قال: صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.
ومنهم من قال: الصلاة بمعنى الرحمة، ومنهم من قال: إنها تشمل الرحمة والثناء جميعًا، ورسول الله ﷺ هو سيد ولد آدم، وآدم أبو البشر خلقه الله من طين، وخلق ذريته من ماء مهين، وهو النطفة المكونة من ماء الرجل وماء المرأة عندما يلتقيان في الرحم، وماء الرجل يخرج من الصلب، وماء المرأة يخرج من الترائب وهي: عظام الصدر، فيجتمعان فيخلق الله منه الولد، قال الله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ [الطارق:٧] وسائر بني آدم مخلوقون من ماء الرجل وماء المرأة إلا عيسى ﵇ فإنه خلق من أم بلا أب، فقد أمر الله جبريل أن ينفخ في جيب درع مريم، فولجت النفخة إلى فرجها فحملت بإذن الله، قال الله ﷾: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾ [التحريم:١٢] أي: النفخ كان في الفرج.
وقال سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ [مريم:١٦ - ١٩]، وآدم مخلوق من تراب خلط بالماء فصار طينًا، ثم يبس فصار صلصالًا كالفخار له صلصلة وصوت، وسيد ولد آدم هو رسول الله ﷺ، كما قال ﵊ في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وهذا إخبار عن مكانته ومنزلته عند الله؛ لأنه ليس بعده نبي يخبرنا، وقوله ﷺ: (ولا فخر) تواضع منه ﵊.
1 / 14
معنى سلام الله على رسول الله ﷺ
قوله رحمه الله تعالى: (وسلم).
هذا دعاء له بالسلامة من النقائص والعيوب.
وفي هذا دليل على أنه ﵊ ليس ربًا وليس إلهًا؛ لأنه يدعى له بالسلامة فهو محتاج إلى ربه، ومن يدعى له بالسلامة لا يدعى من دون الله، بخلاف الرب والإله فلا يدعى له بالسلامة، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود ﵁ أنه قال: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله من عباده، السلام على جبريل وميكائيل، فقال النبي ﷺ: لا تقولوا هكذا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام ومنه السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته).
فكان الصحابة يقولون: السلام على الله، فنهاهم النبي ﷺ عن ذلك، فليس فوقه أحد ﷾ حتى يسلم عليه، والذي يدعى له بالسلامة ناقص، والله كامل لا يحتاج إلى أحد، وليس فوقه أحد حتى يدعى له بالسلامة، بخلاف النبي ﷺ فإنه مخلوق محتاج للدعاء، فهو نبي كريم، يطاع ويتبع ويعظم، وتصدق أوامره، وأخباره، وتجتنب نواهيه، لكنه لا يعبد، فالعبادة حق الله ﷿.
1 / 15
أعلى درجة في الجنة
قوله رحمه الله تعالى: (وأكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه زلفى).
نبينا محمد ﷺ أكرم الخلق على الله، وأقربهم إليه قربى، وأعظمهم عنده درجة، فأعلى درجة في الجنة هي درجة نبينا محمد ﷺ، وهي الوسيلة كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك هو، فمن سأل الله لي الوسيلة فقد حلت له شفاعتي يوم القيامة)، ولهذا يشرع للمسلم أن يقول مثل ما يقول المؤذن، ثم يصلي على النبي ﷺ، ثم يقول: (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته).
وبعض العامة يزيد في الدعاء فيقول: آت محمدًا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وهذا غلط؛ لأن الدرجة الرفيعة هي الوسيلة، فهذا تكرار، وكذلك بعضهم يزيد يزيد في دعاء الاستفتاح: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، فيقول: ولا معبود سواك، وهي بمعنى: لا إله غيرك، فهذا تكرار وزيادة! فالعامة ليس عندهم بصيرة.
1 / 16
معنى (محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا)
قوله رحمه الله تعالى: (وأعظمهم عنده درجة محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا).
ألهم الله أهل محمد ﷺ أن يسموه محمدًا، لكثرة خصاله الحميدة التي يحمد عليها، وهو عبد الله ورسوله، وأشرف مقامات النبي ﷺ العبودية الخاصة والرسالة، والعبودية تنقسم إلى قسمين: عبودية عامة، وعبودية خاصة، فالعبودية العامة تشمل جميع المخلوقات أي: أنها مربوبة مسيرة، تنفذ فيها قدرة الله ومشيئته وإرادته، فجميع المخلوقات في السماوات والأرض عبيد لله، قال الله سبحانه: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم:٩٣].
أما العبودية الخاصة فهي خاصة بالمؤمنين الموحدين الذين يعبدون الله طوعًا باختيارهم فيصلون ويصومون ويحجون ويزكون فالعبودية الخاصة تقتصر على الطوع والاختيار، أما العبودية العامة فليس فيها اختيار، فالعبد فيها مربوب شاء ذلك أم أبى، وتنفذ فيه قدرة الله، فإذا نزل به المرض أو الموت أو الفقر فإنه لا يستطيع دفع ذلك.
قوله رحمه الله تعالى: (وعلى آله).
اختلف العلماء في معنى الآل، وأصح ما قيل فيه: إن المراد بآله أتباعه على دينه، فيدخل في ذلك دخولًا أوليًا أهل بيته وذريتهم المؤمنون، وزوجاته وصحابته.
وقوله رحمه الله تعالى: (وصحبه).
هذا تخصيص لهم، فكأنه سأل الله أن يصلي على الصحابة مرتين: مرة بالعموم لدخولهم في الآل، ومرة بالخصوص، والصحابي: هو الذي لقي النبي ﷺ مؤمنًا ومات على الإسلام، ولو تخللت ردة على الأصح، فلو ارتد ثم أسلم، ومات على الإسلام فلا يضر الصحبة، وتثبت له أعماله فلا تحبط بخلاف ما إذا ارتد والعياذ بالله، ثم مات على الردة فإنه تبطل صحبته وتحبط جميع أعماله، قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة:٢١٧].
وقوله ﵀: (وسلم تسليمًا كثيرًا) هذا مصدر للتأكيد، ثم وصف بقوله: كثيرًا.
وقوله ﵀: (أما بعد) هذه الكلمة قالها المؤلف ﵀ لأنه دخل في صلب الموضوع، بخلاف الكلمة الأولى فإنه قال: وبعد.
1 / 17
أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق
قوله رحمه الله تعالى: (فإن الله بعث محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا).
هذا اقتباس من قوله ﷿ في سورة الفتح: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح:٢٨].
ومحمد هو رسول الله ﷿، بعثه الله إلى الخلق كافة.
الهدى هو العلم النافع الذي جاء به ﵊ من الوحي الذي أنزله الله عليه، وهو القرآن بواسطة جبرائيل، قال سبحانه: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ [الشعراء:١٩٣ - ١٩٤].
وكذلك السنة، فإنها وحي ثانٍ، كما قال ﷾: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٣ - ٤]، والقرآن كلام الله باللفظ والمعنى، والسنة تنقسم إلى قسمين: أحاديث قدسية، وأحاديث غير قدسية.
فالأحاديث القدسية لفظها ومعناها من الله فهي مثل القرآن، ولهذا يرويه النبي ﷺ عن ربه، كما في حديث أبي ذر عن رسول الله ﷺ فيما يرويه عن ربه ﷿ أن الله تعالى قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم)، إلى آخر الحديث.
وكذلك حديث: (من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه).
وهنالك أحكام خاصة يختلف فيها الحديث القدسي عن القرآن: فالقرآن متعبد بتلاوته، والحديث القدسي غير متعبد بتلاوته، القرآن لا يمسه إلا المتوضئ، والحديث القدسي يمسه غير المتوضئ، القرآن معجز بلفظه، والحديث القدسي غير معجز بلفظه، والقرآن يتفاضل بعضه أفضل عن بعض، مثل سورة الإخلاص: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:١] فإنها تعدل ثلث القرآن.
أما الأحاديث غير القدسية فهي من الله معنى، ومن الرسول ﷺ لفظًا.
وفي بعض كتب أصول التفسير كالإتقان للسيوطي وغيره ذكر أن الحديث القدسي لفظه من النبي ﷺ؛ وهذا يتمشى مع مذهب الأشاعرة الذين يرون أن كلام الله معنى قائم بنفسه ليس بحرف ولا صوت، ولم يسمع جبريل منه شيء، ولكن الله اضطر جبريل، ففهم المعنى القائم بنفسه، فعبر بهذا القرآن، فهو كلام جبريل، أما الله فلم يتكلم بحرف ولا صوت، ومن الأشاعرة من يقول: إن الذي عبر به هو محمد وليس جبريل، ومنهم من يقول: إن جبريل أخذ القرآن من اللوح، فهذه ثلاثة أقوال للأشاعرة وكلها أقوال باطلة، والصواب: أن القرآن كلام الله لفظًا ومعنىً، وأن الله تكلم به، فسمعه جبرائيل من الله، ثم أنزله على قلبه ﷺ.
وقوله ﵀: (ودين الحق) هو العمل الصالح، فالله تعالى بعث محمدًا بالعلم النافع والعمل الصالح.
وقوله رحمه الله تعالى: (ليظهره على الدين كله).
أي: ليجعله عاليًا مرتفعًا منصورًا على جميع الأديان.
وقوله رحمه الله تعالى: (وكفى بالله شهيدًا): وكفى به ﷾ شهيدًا وحاضرًا وكفيلًا بأن يظهر دين الإسلام على جميع الأديان ويجعله عاليًا ظاهرًا منصورًا.
1 / 18
أنزل الله الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه
قوله ﵀: (وأنزل عليه الكتاب بالحق).
أنزل عليه الكتاب وهو القرآن العزيز، وهو أفضل الكتب وخاتمها وآخرها والمهيمن عليها، أنزله بالحق لا بالباطل، لهداية الناس وإرشادهم وتبصيرهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، كما قال سبحانه: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم:١].
وهو شفاء لما في الصدور، قال ﷾: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:٥٧].
وقال سبحانه: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت:٤٤].
وقوله رحمه الله تعالى: (مصدقًا لما بين يديه من الكتاب) أي: مصدقًا لما تقدمه من الكتب السابقة، فالكتاب جنس يشمل جميع الكتب السابقة، كالتوراة والإنجيل والزبور، وكل كتاب أنزله الله فالقرآن يصدقها وكتب الله متضامنة يصدق بعضها بعضًا ويوافق بعضها بعضًا.
وقوله رحمه الله تعالى: (ومهيمنًا عليه) يعني: هذا القرآن مهيمن على الكتب السابقة، وناسخ لها، وحاكم عليها.
1 / 19
إكمال الدين وإتمام النعمة
قوله ﵀: (وأكمل له ولأمته الدين).
أي: أكمل الله لهذا النبي الكريم وهو محمد ﷺ له ولأمته الدين، فالدين كامل ليس فيه نقص، ولا يحتاج إلى زيادة، كما قال سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة:٣].
وقوله رحمه الله تعالى: (وأتم عليهم النعمة) أي: أتم الله عليهم النعمة بهدايتهم إلى الصراط المستقيم حيث أنزل عليهم هذا الكتاب العظيم، وأرسل إليهم هذا الرسول العظيم.
ولهذا أنزل الله ﷾ على نبيه الكريم هذه الآية يوم عرفة في حجة الوداع: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣].
وقد ثبت أن يهوديًا قال لـ عمر بن الخطاب ﵁: آية في كتابكم لو أنها أنزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا يومها عيدًا، قال عمر: أي آية هذه؟ فقال اليهودي: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣]، فقال عمر: (إني لأعلم المكان الذي نزلت فيه، واليوم الذي نزلت فيه؛ نزلت على النبي ﷺ في حجة الوداع في مكة في يوم عرفة وكان يوم جمعة) فيوم الجمعة عيد لنا، ويوم عرفة عيد لنا، والمكان مكان شريف، والآية عيد لنا بحمد الله.
1 / 20