Sharh Al-Ajrumiyyah by Al-Asmarī
شرح الأجرومية للأسمري
Géneros
الحمد لله الذي رفع السماء بغير عماد، وخفض الأرض وقدر فيها أقواتها لنفع العباد، وثبَّتها بنصْب الرواسي والأوتاد، وجَزَمَ بوحدانيته أهل البغي والإلحاد، والصلاة والسلام على أفصح من نطق بالضاد، وعلى آله وصحبه السالكين سبيل الرشاد، وعلى من ورد مشرعهم، وترسّم خطاهم إِلى يوم المعاد. أما بعد ... (فإن العلم فخرٌ يبقى على مرور الأحقاب، وذكرٌ يتوارثه الأعقاب بعد الأعقاب، وأول المجد وآخره، وباطن الشرف وظاهره، به يُترقى على كل المراتب، وبه يتوصل إِلى المآرب والمطالب، وهو الأربح مرعاه، وهو الأرفع مسعاه، يملأ العيون نورًا، القلوب سرورًا، ويزيد الصدور انشراحًا، ويفيد الأمور انفساحًا،، وهو الغُنْم الأكبر، والحظ الأوفر، والبغية العظمى، والمنية الكبرى) (١) .
ألا وإن من أجلّ العلوم وأعظمها، وأشرفها وأهمها: علم العربية إِذْ هي (خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة؛ إِذْ هي أداة العلم، ومفتاح التفقه في الدين) (٢) .
كما أن (معرفتها ضرورية على أهل الشريعة؛ إِذْ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب، ونَقَلَتُها من الصحابة والتابعين عرب، وشرحُ مشكلاتها من لغاتهم، فلابد من معرفة العلوم المتعلِّقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة) (٣) .
قال عمر ﵁: ''تعلَّموا العربية فإنها تزيد في المروءة'' (٤) .
_________
(١) اقتباس من مقدمة الكفوي في [الكليات] .
(٢) تضمين من مقدمة الثعالبي في: [فقه اللغة] .
(٣) من كلام ابن خلدون في [مقدمته: ٥٤٥] .
(٤) الجامع للخطيب (٢/ ٢٢٥) .
1 / 7
ولقد كان الصدر الأول من الأمة المحمدية أهل سليقة عربية، وأصحاب مَلَكة لسانية (فكان اللسان العربي عندهم صحيحًا مَحْروسًا لا يتَداخَلُه الخلل، ولا يتطرَّق إِلَيْهِ الزلل، إِلى أن فُتِحَت الأمصار، وخالط العربُ غير جنسهم من الروم والفرس والحبش والنَّبط، وغيرهم من أنواع الأمم الذين فتح الله على المسلمين بلادهم، وأفاء عليهم أموالهم ورقابهم، فاختلطت الفرق، وامتزجت الألسن، وتداخلت اللغات، ونشأ بينهم الأولاد، فتعلّموا من اللسان العربي ما لابدّ لهم في الخطاب منه، وحفظوا من اللغة ما لا غنىً لهم في المجاورة عنه، وتركوا ما عداه لعدم الحاجة إِلَيْهِ وأهملوه لقلة الرغبة في الباحث عليه، فصار بعد كونه من أهم المعارف مطّرحًا مهجورًا، وبعد فرضيته اللازمة كأن لم يكن شيئًا مذكورًا، وعادت الأيام والحالة هذه على ما فيها من التماسك والثبات، واستمرت على سنَنٍ من الاستقامة والصلاح، إِلى أن انقرض عصر الصحابة والشأن قريب، والقائم بواجب هذا الأمر لقلته غريب، وجاء التابعون له بإحسان فسلكوا سبيلهم لكنهم قلّوا في الإتقان عددًا واقتفوا هديهم وإن كان مدّوا في البيان يدًا، فما انقضى زمانُهم على إحسانهم إلاّ واللسان العربي قد استحال أعجميًّا أَوْ كاد، فلا ترى المستقِلّ به والمحافظ عليه إلا الآحاد.
1 / 8
هذا والعصرُ ذلك العصرُ القديم، والعهدُ ذلك العهدُ الكريم، فجَهِل الناس من هذا المهمّ ما كان يلزمهم معرفتَهُ، وأخّروا منه ما كان يجب عليهم تَقْدِمَتُهُ، واتخذوه وراءهم ظِهْريًّا فصار نَسْيًا منْسِيًا، والمشتغل به عندهم بعيدًا قصِيًّا، فلما أعضل الداء وعزَّ الدواء، ألهم الله ﷿ جماعة من أولى المعارف والنُّهى، وذوي البصائر والحِجى، أن صرفوا إِلى هذا الشأن طرَفًا من عنايتهم، وجانبًا من رعايتهم، فشرَّعوا فيه للناس مواردًا، ومهّدوا فيه لهم معاهدًا، حراسةً لهذا العلم الشريف من الضياع، وحفظًا لهذا المهم العزيز من الاختلال) (١) .
ولقد كان النحو والإعراب أهم علوم اللغة، إِذْ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة.
يقول العلامة ابن خلدون ﵀ ‘‘أن الأهم المقدّم منها هو النحو، إِذْ به تبيّنت أصول المقاصد بالدلالة، فيُعَرَّف الفاعل من المفعول، والمبتدأ من الخبر، ولولاه لَجُهِل أصل الإفادة’’ (٢) .
تعالى به قد طلابه
وقوف خضوع على بابه.
يا حبَّذا النحو من مطلب
كأن العلوم له عسكر.
ولما للنحو من أهميّة، ومكانة عظيمة عليّة، صنعت فيه التصانيف، وأُلِّفت فيه التآليف، فمن مُكثرٍ جعل كتابه أسفارًا، ومن متوسط غيْثُ فوائده أصبح مدرارًا، ومن موجزٍ كان كتابه أوراقًا.
وكان من بين تلك المتون المختصرة، والكتب المحرّرة المشتهرة، كتاب: (الْمُقَدِّمَة الآجرُّومِيَّة) .
_________
(١) اقتباس من [النهاية] لابن الأثير: (١/٥) .
(٢) مقدمة ابن خلدون: (٥٤٥) .
1 / 9
ومِن ثَمَّ طفِق العلماء إِلى شرحها وتدريسها، وكان من أنفس شروحاتها شرح شيخنا المفضل: صالح بن محمد بن حسن الأسمري - حفظه الله -، فلقد كان شرحًا كافيًا وافيًا في بابه، وموردًا صافيًا لطلاّبه، غير مختصر اختصارًا يؤدي إِلى الإخلال، ولا مطنبًا إطنابًا يفضي إِلى الإملال، مشتملًا على الدرر الفرائد، والغرر من الفوائد الشوارد، يَحِلّ مبانيها، ويُوَضّح معانيها، ويُقَرّر قواعدها، ويُحرّر مقاصدها، ويؤيّد ذلك بالأدلة، ويسهِّله بالشواهد والأمثلة، ينتفع به المبتدئ، ولا يستغني عنه المنتهي، وهو مرحلة وسطى، تعقبه مرحلة علمية أخرى.
وثَمَّ أمورٌ يجب التنبيه عليها، ولا مندوحة للراغب عنها (١)
أولها: في اسم هذا العلم، إِذْ إِنَّه يُسَمَّى باسمين اثنين.
أما الأول: فهو النحو.
وسبب التسمية هو ما اشتهر عند الإخباريين من أن الإمام عليًا ﵁ قال لأبي الأسود الدؤلي: ‘‘ نعم النحو الذي نحوت ’’ وذلك عندما كتب شيئًا في النحو بأمرٍ منه.
وأما الثاني: فالإعراب.
ومن معانيه التغير، يُقَال: أعربت الإبل إذا تغيرت بطونها بمرض، وكذلك الحال مع أواخر الكلمات العربية المعربة فإنها تتغير بحسب مواقعها.
ثانيها: أن الدارس لعلم النحو يدرس شيئين اثنين.
أما الأول: فالإعراب:
وهو تغير أواخر الكلم باختلاف العوامل الداخلة عليها لفظًا أو تقديرًا. وهذا هو الأصل؛ ولأجله صنع النحو ضبطًا له حتى لا يلحن فيه.
وأما الثاني: فهو البناء:
وهو لزوم أواخر الكلمة حركة لا تتغير باختلاف العوامل الداخلية عليها.
ثالثها:
هو أن علم النحو يبحث في حركة الأخير من الكلم سواء أظهرت أم قُدِّرت، وأكثر اللحن حصل في ذلك عند العرب ولذا كانت العناية به آكد.
رابعها:
لكي يتفهَّم دارس النحو مسائله ويعرف مفرداته لابد أن يراعي أمورًا:
أولها:
_________
(١) ذكرها الشيخ في أحد دروسه.
1 / 10
حفظ التعاريف واستحضارها عند محاولة الإعراب لكلمة أو جملة لما لها من أثر.
ثانيها:
الاشتغال بمعاني الكلام وجمله، والنظر في مدى انطباقه على القواعد المعروفة.
مثال ذلك:
هو أن المفعول به يُعَرَّف بأنه: اسم منصوب وقع عليه فعل الفاعل، فلو قال قائل: (ضرب الأب ابنه تأديبًا له) لَحُكم على كلمة (ابن) بأنها مفعول به؛ لأنه هو الذي وقع عليه فعل الفاعل.
ثالثها:
هو استحضار التقاسيم والشروط المتعلقة بكل مسألةٍ وباب.
مثاله: ما قيل في الأسماء الخمسة، فإنها لا تأخذ إعرابها المشهور من الرفع بالواو، والنصْب بالألف، والخفض بالياء إلا بشروط؛ ككونها مكبرة، وعدم إضافتها لياء الْمُتَكَلِّم وما إلى ذلك. فإذا قال قائل: (إن أبي ذو نسب شريف) لَعُلِم أن كلمة (أبي) لا تُعرَب إعراب الأسماء الستة أو الخمسة؛ لأنها مضافة إلى ياء الْمُتَكَلِّم.
خامسها:
هو أن الدارس للنحو لن يستطيع أن يعرب الجمل كلها إلا إذا انتهى من دراسة كتب النحو كلها في مرحلة التأصيل، والمعتاد أن آخرها دراسة ألفية ابن مالك، فمن درس الآجرومية لا يتحصَّل على جميع أبواب النحو فضلًا عن جميع مسائله، فلابد من استكمال ذلك، وإنما ابتدئ بالآجرومية فغيرها إلى دراسة ألفية ابن مالك، مراعاةً للتدرج في التعلّم والبدء بالأولويات، والبعد عن وقوع قولة السلف: (من أراد العلم جملة ضيَّعه جملة) فيدرس طالب النحو أول ما يدرس: كبرى أبوابه ومسائله، وذلك من خلال [الآجرومية] ثُمَّ يدرس مجمل أبواب النحو ومسائله دون تعرض للخلاف في الجملة، وذلك من خلال كتاب [شرح قطر الندى] لابن هشام، ثُمَّ يدرس جميع مسائل النحو وتفصيلاته مع الاطلاع على المخالف وبعض الأعاريب وما إلى ذلك، وذلك من خلال [شرح الألفية]، (شرح ابن عقيل) عليها ولَيْسَ بوافٍ، أو شرح ابن هشام الْمُسَمَّى بـ[أوضح المسالك] .
سادسها:
1 / 11
أن إدراك علم النحو يكون من خلال فقه علومٍ لابد من اجتماعها.
أولها:
مسائل النحو ومفرداته وهي الموجودة في [الآجرومية] و[شرح قطر الندى وبل الصدى] و[ألفية ابن مالك] .
ثانيها:
دراسة علم أصول النحو وهو كعلم أصول الفقه مع الفقه لابد منه، وفيه القواعد التي روعيت في الإعراب، وأدلة النحويين وأوجه الدلالة وما إلى ذلك، وفي ذلك كتاب يتيم ألَّفه الإمام السيوطي اسمه (أصول النحو) وعليه شروحات منها [شرح الأزهري] .
ثالثها:
دراسة علم تاريخ النحو ويشمل معرفة مذاهبه ونشأتها وأئمته وكتبه وما إلى ذلك، وفيه كتب أحسنها: ما صنَّفه محمد طنطاوي من علماء الأزهر واسمه [نشأة النحو] فقد حقق بأخَره.
ولقد كان أصل هذا الشرح المبارك دروسًا ألقاها فضيلة شيخنا - حفظه الله - بجامع ابن عواض بالطائف عام ١٤١٩هـ، ثُمَّ كُتِبَت وعُرِضَ مواضع منها على الشيخ نفسه فاستحسنها، وأذن بطباعتها وإخراجها.
كما لا يفوتني أن أتقدَّم بالشكر أولًا وآخرًا للمولى جلَّ وعلا على أن وفقنا لهذا العمل، وأعاننا على إخراجه، ثُمَّ أتوجّه بالشكر إِلى فضيلة شيخنا على ما أسداه إِلَيْنَا من علمه ونصحه، فجزاه الله عنّا خير الجزاء وأطال في عمره على طاعته ونفعنا بعلمه.
كما أتوجّه بالشكر إِلى كل من أعان على إخراج هذا الشرح فجزاهم الله خير الجزاء.
والله أسأل أن ينفع به، وأن يجزل الأجر والمثوبة لشيخنا، والله من وراء القصد وهو الهادي إِلى سواء السبيل.
وكتبه: متعب بن مسعود الجعيد
ببسم
أما بعد حمد الله ذي الآلاء، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء، وآله وصحبه الأصفياء ...
فإن علم العربية يقع من نافع العلوم: موقع الرأس من الإنسان، واليتيمة من قلائد العِقْيان، فليس أحد من أرباب الحجى والعلم يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسبب، وضاربًا فيه بسهم.
1 / 12
وكان واسطة عقد العربية: علم النحو والإعراب، الذي ينبغي أن يتحلى به طالب العلم ومريده، بل قال العلامة: خالد الأزهري ﵀: ‘‘إن معرفة الإعراب من الواجبات التي لابد لكل طالب علم منها، ومن المهمات التي لا يستغني الفقيه عنها ’’.
ومن متونه المقدَّمة وأركانه المختصرة؛ متن موسوم بـ (مقدمة ابن آجرُّوم)، عكف على ضبطه وفهمه الدارسون؛ لظهور نفعه، يقول العلامة ابن الحاج ﵀ (صار غالب الناس أول ما يقرأ بعد القرآن العظيم؛ هذه المقدِّمة، فيحصل به النفع في أقرب مُدَّة) .
ومِنْ ثَمَّ انعقد العزم على مدارسة تلك المقدِّمة الآجرومية؛ بحلّ مبانيها، وإيضاح معانيها، وتقرير قواعدها، وتحرير مسائلها، على وجه توسط وجِدَّة. مقدِّمًا بين يدي ذلك مقدَّمة ذات باب، وهذا أوان الشروع، ومن الله التوفيق والتسديد، وهو المستعان.
مُقَدِّمَةٌ
وفيها فصلان:
الأول:
في تعريف موجز بابن آجروم ﵀، وذلك في مقاصد عدة:
الأول: في اسمه ونسبه:
هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن داود الصِّنهاجي، المعروف بـ (ابن آجروم)، وهنا فائدتان:
الأولى:
أنه يُقَال لابن آجروم: (الصِّنْهاجي) نسبة إلى قبيلة صِنْهاجة بالمغرب. قاله الحامدي ﵀ في حاشية له على: [شرح الكفراوي للآجرومية] .
الثانية:
أن كلمة: (آجروم) لها معنى، وضبط.
فأما المعنى:
فهو: الفقير الصوفي، وذلك بلغة البَرْبَر. قال ابن عنقاء ‘‘هي كلمة أعجمية، بلغة البربر، معناها: الفقير الصوفي، على ما قيل. لكني لم أجد البرابرة يعرفون ذلك’’ انتهى. غير أن السيوطي وابن الحاج جزما بالمعنى السابق.
وأما الضبط:
فعلى أوجه:
الأول: بفتح الهمزة مع مدّ، وجيم مضمومة مُخَفَّفة، وراء مهملة مضمومة مع تشديد وتثقيل، هكذا: (آجُرُّوم) قاله ابن عنقاء، وبه قطع السيوطي في: [بغية الوعاة] .
1 / 13
الثاني: كالأول، غير أن الجيم تكون مفتوحة، هكذا: (آجَرُّوم) وهذا هو المنقول عن الجمال المطيب.
الثالث: بفتح الهمزة دون مَدٍّ، وجيم ساكنة، وراء مهملة مضمومة دون تشديد، هكذا (أَجْرُوم) وهو منقول عن ابن أجروم نفسه، قاله ابن الحاج في: [العقد الجوهري] .
الرابع: ما حكاه السيوطي في [البغية] بقوله: ‘‘رأيت بخط ابن مكتوم في [تذكرته]، قال: (محمد بن الصنهاجي أبو عبد الله، من أهل فاس، يعرف بـ أكروم ...’’.
الخامس: ما حكاه ابن عنقاء بقوله: ‘‘وقد كثر حذف همزته - يعني آجروم - فلا أدري أهي لغة أم هي من تلعب الناس’’.
لطيفة:
قال ابن عنقاء: ‘‘في قبيلة البربر قبيلة تُسَمَّى بني آجروم ’’.
الثاني: في مولده ووفاته.
فأما مولده:
فيقول ابن الحاج: ‘‘ولد سنة اثنتين وسبعين وستمائة بمدينة فاس في السنة التي توفي فيها ابن مالك’’. وبذلك جزم ابن العماد في [شذرات الذهب] .
وأما وفاته:
فيقول ابن الحاج: ‘‘توفي يوم الاثنين بعد الزوال لعشرة بقيت من صفر، سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة’’. وبه قال الحلاوي وابن العماد وغيرها.
لطيفة:
قال ابن الحاج: ‘‘توفي ابن آجروم وله إحدى وخمسون سنة، ودفن بباب الجيزيين، ويعرف الآن بباب الحمراء بفاس ’’.
الثالث: في مكانته العلمية.
قال السيوطي ﵀: ‘‘وصفه شرَّاح مقدمته كالمكودي والراعي وغيرهما، بالإمامة في النحو والبركة والصلاح، ويشهد بصلاحه عموم نفع المبتدئين بمقدمته’’.
وقال ابن مكتوم عنه: ‘‘نحوي مقرئ، وله معلومات من فرائض وحساب وأدب بارع ’’.
الرابع: في مصنفاته:
كان له ﵀ مصنفات أشار إليها ابن مكتوم في: [تذكرته] بقوله: ‘‘وله مصنفات وأُجيز في القراءات وغيرها ’’، والمعروف من كتبه كتابان: الأول: هو مقدمته النحوية. الثاني: هو فرائد المعاني في شرح حرز الأماني.
الثاني:
في تعريف موجز بـ (المقدمة)، وذلك حسب المقاصد التالية:
1 / 14
الأول: في اسمها
لم يسمِّ الْمُصَنِّف ﵀ كتابه هذا باسمٍ، إنما سُمِّيَ به فقيل: (الآجرومية)، أو: (الجرّومية) وهذا من باب النسبة؛ لأن المركب الإضافي كالمبدوء بـ (ابن)، وهو هنا كذلك، عند النسبة يُحذف صدره (ابن) وينسب إِلى عجزه (آجروم) وفيه يقول ابن مالك:
رُكِّبَ مَزْجًا ولثانٍ تَمَّمَا
أوْ ما لَهُ التَّعْريفُ بِالثَّاني وَجَبْ.
وانسُبْ لصدْرِ جُمْلةٍ وصدْرِ ما
إضافةً مبْدوءةً بِابْنٍ أَوْ أبْ.
وربما قيل في التسمية: (مقدمة ابن آجروم) أو: (المقدمة الآجرومية) . ودال (المقدمة) فيهما تفتح وتكسر، والكسر أولى لما فيه من إشعار بتقدمها استحقاقًا أَوْ حقيقة؛ ولأن الفتح لغة قليلة.
قال بعض الشراح: ‘‘إنما سُمِّيَت الآجرومية بـ (المقدمة)؛ لأنها توصل المشتغل بها إِلى المطولات من كتب النحو والإعراب، كمقدمة الجيش التي تتقدم أَمَامَه، لتهيئ له في المحل الذي ينْزله ما يحتاج إليه’’. وهو معنى لطيف متَّجه.
الثاني: في وقت تصنيفها
لم يذكر ابن آجروم ولا غيره من المترجمين والشراح زمن تصنيف الآجرومية، غير أن ابن مكتوم في: [تذكرته]- وهو عصري ابن آجروم - قال: ‘‘وهو إِلى الآن حي، وذلك في سنة تسع عشرة وسبعمائة’’، وذلك بعد أن أشار إِلى مصنفاته وكونه نحويًا مقرئًا.
الثالث: في مكان كتابتها
ذكر الراعي وابن الحاج في [شرح الآجرومية] أن ابن آجروم ألَّف هذا المتن تجاه الكعبة الشريفة، وقال الحامدي في [حاشيته على شرح الكفراوي للآجرومية]: ‘‘حكي أنه ألَّفَ هذا المتن تجاه البيت الشريف’’.
الرابع: في منهج صاحبها فيها
كان له في ذلك طريقة حَيْثُ:
اقتصر فيها على كبرى أبواب النحو وأصوله، وقد أشار إِلى ذلك غير واحد ومنهم الأزهري في أول شرحه على الآجرومية.
1 / 15
واتبع الكوفيين في عباراتهم، يقول السيوطي في [بغية الوعاة]: ‘‘وهنا شيء آخر، وهو أنَّا استفدنا من مقدمته أنه كان على مذهب الكوفيين في النحو؛ لأنه عَبَّرَ بالخفض، وهو عبارتهم، وقال: الأمر مجزوم، وهو ظاهر في أنه معرب وهو رأيهم. وذكر في الجوازم: كيفما، والجزم بها رأيهم، وأنكره البصريون، فتفطّن’’.
وأورد فيها الأبواب بإيجاز وترتيب بديع؛ حَيْثُ قدَّم الكلام وحقيقته على أقسامه، والأقسام على علامات كل قسم، وهَلُمَّ جرًا، مما يأتي في الشرح التنويه إِلَيْهِ - إن شاء الله -.
الخامس: في عناية الناس بها
لقد اشتهرت الآجرومية بين الطلاب قديمًا وحديثًا، وانتفع بها الدارسون. يقول السيوطي: ‘‘يشهد بصلاحه - أَيْ: ابن آجروم - عموم نفع المبتدئين بمقدمته’’، ويقول ابن الحاج: ‘‘ويدُلُّكَ على صلاحه أن الله جعل الإقبال على كتابه؛ فصار غالب الناس أول ما يقرأ بعد القرآن العظيم هذه المقدمة؛ فيحصل له النفع في اقرب مُدَّة’’.
وقد تنوعت العناية بالآجرومية، فمنهم من نظمها كعبد السلام النبراوي، وإبراهيم الرياحي وعلاء الدين الآلوسي والعمريطي وغيرهم. ومنهم من تَمَّمها كالحطاب، ومنهم من شرحها - وهم كثير، عَدَّ صاحب [كشف الظنون] منهم أكثر من عشرة - كالمكودي والراعي والأزهري والرَّمْلي.
لطيفة:
قال الحامدي في حاشية له: ‘‘حُكي أَيْضًا أنه لما ألفه - يعني: ابن آجروم ومقدمته - ألقاه في البحر، وقال: إن كان خالصًا لله تعالى فلا يبل، فكان الأمر كذلك’’.
قال الْمُصَنِّف ﵀: (ببسم)
بدأ الْمُصَنِّف ﵀ هذا المتن النحوي بـ (البسملة)؛ وذلك منه اقتداء بكتاب الله؛ إِذْ هي أول آية على الصحيح، حَيْثُ افتتح الصحابة المصحف العثماني بها وتلوها وتَبِعَهم جميعُ من كتب المصحف بعدهم في جميع الأمصار، قاله الحافظ ابن حجر ﵀ في [فتح الباري] .
1 / 16
وكذلك اتباعًا لهدي النبي- ﷺ في مكاتباته ومراسلاته، ككتابته إِلى هرقل عظيم الروم كما جاء ذلك في حديث أبي سفيان في أول صحيح البخاري.
ولما استقرَّ عليه عمل الأئمة الْمُصَنِّفين، فقد قال الحافظ في [الفتح]: ‘‘وقد استقر عمل الأئمة الْمُصَنِّفين على افتتاح كتب العلم بالبسملة، وكذا معظم كتب الرسائل’’.
ولعل الْمُصَنِّف - يرحمه الله - حَمِدَ وتَشهَّد نطقًا عند وضع الكتاب، ولم يكتب ذلك اقتصارًا على البسملة؛ لأن القدر الذي يَجْمع الأمور الثلاثة: ذِكْر الله، وقد حَصَل بها.
قوله: (بسم)
جار ومجرور، وهما متعلقان بمحذوف تقديره (أؤلف) أَوْ نحوه من المعاني الصحيحة السائغة. والاسم من السُّمُو لغة على الصحيح، وهو ما كان لْمُسَمَّى، وسيأتي - بإذن الله - الكلام عنه في موضعه.
قوله: (الله)
مخفوض على الإضافة، وهو مشتق من (أَلَهَ) ومنه قول رؤبة:
لِلَّهِ دَرُّ الغانِيَات الْمُدَّهِ سبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلُّهِي
والتَّأَلُّه هو: التعبُّد.
قوله: (الرحمن الرحيم)
نعت بعد نعت، هذا هو المشهور؛ لكن قال في [المغني]: ‘‘الرحمن: بدل لا نعت، والرحيم بعده: نعت له’’. وهما اسمان لله يتضمنان صفة الرحمة، واخْتُلِفَ في التفريق بينهما، وأحسن ما قيل: إن الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة بالذات، والرحيم دال على تعلُّقها بالمرحوم.
لطيفة:
كثيرًا ما يعزو الشراح بدء الْمُصَنِّف بالبسملة إِلى حديث: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) فهو أقطع)، والحديث أخرجه عبد القادر الرُّهَاوِي في كتابه [الأربعين]؛ لكنه ضعيف لا يصح، وبذلك قطع أئمة، ومنهم: الحافظ ابن حجر، والسخاوي وآخرون، رحمة الله على الجميع.
قال الْمُصَنِّف ﵀ (الكلام هو: اللفظ المركب المفيد بالوضع)
فيه مباحث على ما يلي:
الأول:
1 / 17
بدأ الْمُصَنِّف - يرحمه الله -بتعريف الكلام؛ لأنه موضوع النحو ومادته والتي يعمل فيها، وبه يقع التفاهم والتخاطب.
ومِنْ ثَمَّ يَبِينْ عناية الْمُصَنِّف - يرحمه الله - بتقديم ما حقه التقديم على غيره، وهذا هو حقيقة التدرّج المحمود في التعليم.
الثاني:
قوله: (الكلام) أَيْ في اصطلاح النحويين؛ لأن (ال) في (الكلام) إما أن تكون عوضًا عن مضاف إِلَيْهِ، أَوْ للعهد الذهني.
فعلى الأول إما أن يكون المضاف إِلَيْهِ المحذوف ضميرًا أَوْ لا، فإن كان ضميرًا يكون التقدير: كلامنا؛ أَيْ معشر النحاة. وإن كان اسمًا مظهرًا فيكون التقدير: كلام النحويين، والْمُصَنِّف - يرحمه الله - منهم.
وعلى الثاني يكون المقصود: الكلام المعهود في الأذهان، وهو كلام النحويين؛ لأن المتن المبدوء به ذلك في النحو، ومصنفه من النحويين، بل من أئمتهم المشهورين.
الثالث:
قوله (اللفظ) يتعلق به أشياء ثلاثة:
الأول: معناه في اللُّغَة
حَيْثُ إِنه: يدل على طرح الشيء، تقول: لفظتُ الشيء من فمي، إِذا طرحتَه.
الثاني: معناه في الاصطلاح
حَيْثُ إِنه: الصوت المنقطع من الفم، المشتمل على بعض الحروف الهجائية تحقيقًا كـ (زيد) أَوْ تقديرًا كالضمير المستتر.
الثالث: الاحتراز به
حَيْثُ احترز بقَيْد (اللفظ) - في تعريف الكلام اصطلاحًا -: عن كل ما حصل به التفاهم وليس بلفظ، كالكتابة والإشارة ونحوهما. وهي تُسَمَّى عند اللُّغَويين بـ (الدَّوالّ) لأنها تدل على معنى يَفْهَمه المخاطَب بها.
الرابع:
قوله (المركّب) يتعلق به أشياء ثلاثة:
الأول: معناه في اللُّغَة
حَيْثُ إِنه: علوُّ شيءٍ شيئًا، تقول: ركبتُ الدَّابة إِذَا عَلَوْتها. وكلمة (المركب) اسم مفعول من: ركب.
الثاني: معناه في الاصطلاح
1 / 18
حَيْثُ إِنه: ضمُّ كلمةٍ إِلى أخرى فأكثر. سواء أكان الضم ظاهرًا كـ (قام زيد)، أم كان مُقَدَّرًا كـ (قم)، إِذْ التقدير: قُمْ أنت.
وليُعْلم أن التركيب يأتي على أنواع:
ومنه: المركب الإسنادي؛ وهو المكوّن من مسنَدٍ ومسند إِلَيْهِ، كـ (زَيْدٌ قَائِمٌ، وقام زَيْدٌ) حَيْثُ إِن زيدًا مسند إِلَيْهِ، والقيام مسند.
ومنه: التركيب المزجي كـ (بَعْلَبَك) .
والتركيب الإضافي، كـ (غلام زيد) .
والتركيب العددي، كـ (أربعة عشر) .
الثالث: الاحتراز به
قَيْد (التركيب) احترز به: عن المفرد، كـ (زيد) فقط، أَوْ (عمرو) فقط - أعني: لم يُضَمّ إليها شيء آخر -.
الخامس:
قوله (المفيد) يتعلق به أشياء ثلاثة:
الأول: معناه في اللُّغَة
حَيْثُ إِنه: ما ترتب عليه فائدة، ولها معانٍ منها: ما استفيد من علم أَوْ مال. وكلمة (المفيد) اسم فاعل من: فَيَدَ.
الثاني:
معناه في الاصطلاح؛ حَيْثُ إِنه: كل ما أفهم معنى يَحْسُنُ السكوت عليه كـ (قام زَيْدٌ) خلافًا لـ (إن قام زَيْدٌ) فلا يًحْسُنُ السكوت عليها.
ثم هل المراد سكوت الْمُتَكَلِّم عن التكَلُّم، أَوْ السامع عن طلب الازدياد، أَوْ هما؟ أقوال؛ أرجحها: الأول؛ لأن السكوت خلاف التكَلُّم، والثاني صفة الْمُتَكَلِّم اتفاقًا، فكذلك السكوت.
صفته:
وهل يشترط إفادة المخاطب شيئًا يجهله؟ قولان:
أحدهما: اشتراط ذلك، وبه جزم ابن مالك وآخرون.
والثاني: عدم اشتراطه، وصححه أبو حيان والصبان وآخرون.
وليُعْلم أن محل الخلاف السابق: إِذَا ابتدئ به؛ لا إِذَا كان في درج الكلام وثناياه.
ومثال البدء:
قولك لعاقل: النار حارة تحرق. خلافًا ما إِذَا كانت الجملة نفسها في درج حديث مفيد أوله.
الثالث: الاحتراز به
قَيْد (المفيد) احترز به: عن كل لفظ مركب لا يفيد الفائدة الموصوفة آنفًا.
السادس:
قوله: (بالوضع) يتعلق به أشياء ثلاثة:
1 / 19
الأول: معناه في اللُّغَة
حَيْثُ إِنه: يدل على خفض الشيء وحطه، تقول: وضعت الكتاب على الأرض؛ إِذَا حططته. وكلمة: (بالوضع) جار ومجرور متعلق بـ (المفيد)، والباء في كلمة: (بالوضع) تحتمل معان، ومنها: المصاحبة، أي: الكلام هو اللفظ المركب المفيد إفادة مصحوبة بالوضع.
الثاني: معناه في الاصطلاح
هو: جعل اللفظ دليلًا على معنى، وفق الاستعمال العربي. وهذا الوضع العربي يشمل اللفظ على جهة الانفراد والنظم. فأما الانفراد فتكون الكلمة المراد بها معنى ما قد استعملها العرب للمعنى نفسه. كـ (زيد)؛ فإنه لفظ عربي جعلته العرب دالًا على معنى، وهو ذات وضع عليها لفظ: (زيد) .
وكذلك يُقَال في نظم الكلام وضم بعضه إِلى بعض؛ إِذْ لابد من صحة تركيبه وعَوْد ضمائره وما إِلى ذلك.
ثم هل الوضع يُرَاد به - أَيْضًا - القصد؛ أَيْ: أن يكون الكلام مقصودًا؟ قولان.
أحدهما: إثبات ذلك، وبه قطع ابن مالك وخلائق، وعليه جمهور شرَّاح المتن.
الثاني: نَفْيُ ذلك، ورجَّحه أبو حَيَّان.
ومِنْ ثَمَّ يكون لكلمة: (بالوضع) معنى يتضمّن شيئين:
الأول: الوضع العربي.
والثاني: القصد، على الصحيح.
الثالث: الاحتراز به
قَيْد (الوضع) - بمعنييه السابقين - احترز بالأول منهما: عن الكلام الموضوع وضعًا غير عربي، كالكلام الأعجمي. واحترز بالثاني: عن كلام غير القاصد - ولو كان موضوعًا وضعًا عربيًا -، كالمجنون.
السابع:
في كون حَدّ الكلام اصطلاحًا يشتمل على قيود أربعة وهي: اللفظ، والتركيب، والإفادة، والوضع.
وهذا الْحَدّ بقيوده الأربعة ذكره جماعة قَبْل ابن آجروم - يرحمه الله -، ومنهم: الإمام الْجُزُولي - نسبة إِلى جُزُولة، بطن من بطون البربر بالمغرب -، قاله الأزهري.
الثامن:
اعترض على حدّ الْمُصَنِّف للكلام باعتراضين:
أحدهما:
1 / 20
أن قَيْد: (التركيب) و(الوضع): يغني عنهما قَيْد: الإفادة؛ لأن المفيد الفائدة التي يحسن السكوت عليها؛ يستلزم أن يكون مركبًا وموضوعًا.
ولكن أجيب عن ذلك بجوابين:
الأول: أن دلالة اللزوم مهجورة في التعاريف عند أولى النظر؛ ولذا أَثْبت الْمُصَنِّف - يرحمه الله - قَيْد: التركيب والإفادة. ثم إن المقصود من التعريف شرح الْمُعَرَّفِ بيان أجزائه وقيوده، فلا يكفي دلالة اللزوم.
الثاني: أن تعريف الشيء بذكر قيوده وأجزائه بعيدًا عن دلالة اللزوم؛ هو المناسب للمبتدئين؛ إِذْ إِنَّهم غالبًا لا يَعْقلون دلائل اللزوم، والمقدمة الآجرومية إنما كان للمبتدئين؛ فحصل التناسب.
الثاني:
أن هناك قَيْدًا لابد منه في التعريف، وهو: اتحاد الناطق، فلو اصطلح رجلان على أن يَذْكر أحدهما فعلًا، والآخر فاعلًا؛ لم يُسَمَّ ذلك كلامًا. ومِنْ ثَمَّ تعيَّن إضافة قَيْد: (اتحاد الناطق) في التعريف.
ورُدَّ هذا الاعتراض بأن قَيْد: اتحاد الناطق مُخْتلَف فيه، بل صحَّحَ الأئمة كابن مالك وأبي حيان عدم كونه قَيْدًا، إلحاقًا بحقيقة: (الْخَطّ)؛ إِذْ يُسَمَّى الخط خطًا ولو اختلف الكاتب، فكذلك الكلام.
تمرين على ما شرح
أ) لو تمثَّل عاقل فقال:
يَكُنْ عنِ الزَّيفِ والتصْحِيفِ في حَرَمِ
فَعِلْمُهُ عنْدَ أهْلَ العِلْمِ كالعَدَمِ.
مَنْ يأخُذِ العلْمَ عن شيخٍ مُشافهةً
ومَنْ يكُنْ آخذًا لِلْعِلْمِ مِنْ صُحُفٍ.
لَعُدَّ كلامه عند النحاة كلامًا؛ لانطباق تعريف الكلام عندهم عليه، فقوله: (من يأخذ ...) لفظ. لأنه صوت مشتمل على حروف هجائية، أولها: الميم ثم النون وهلم جرًا. وهو كلام مُركَّب من كلمات بل من جمل. وهو كذلك مفيد؛ حَيْثُ حسن سكوت الْمُتَكَلِّم عليه؛ ولم يكن السامع يدري من مبانيه ومعانيه - أعني: الأبيات المتمثل بها -. وهو موضوع وضعًا عربيًا ومقصود، لكونه من عاقل.
1 / 21
ب) لو قال قائل من العقلاء:
(قرأت كتاب: [الكتاب] لأبي بشر؛ فوجدته موسوعة عربية كبرى) . لما عَدَّه النحاة كلامًا؛ لأن كلمة: (موسوعة) غير عربية، فتأخر في هذا المثال قَيْد: الوضع.
لطيفة:
لفظ (موسوعة) اصطلاح قريب العهد في أول القرن الثالث عشر. وهو تصحيف. قصته: أن إحدى مكتبات القسطنطينية كانت تدون فهرسًا لمحتوياتها، فأملى أحد موظفيها اسم كتاب ‘‘لطاش كبرى زاده’’، عنوانه: موضوعات العلوم، أملاه بلسان الأعاجم، فسمعه الكاتب: موسوعات العلوم.
فوقف الأستاذ إبراهيم اليازجي على: موسوعات العلوم، فظَنَّ أن كلمة (موسوعات) تؤدي معنى (دائرة معارف) فأعلن ذلك في مجلته الْمُسَمَّاة بـ (الضياء) فسار به القراء.
ويستعاض عن كلمة (موسوعة) بالجمهرة أَوْ الْمَعْلَمَة، والأول عليه كثير من أئمة اللُّغَة.
قال الْمُصَنِّف ﵀ (وأقسامه ثلاثة: اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى)
فيه مباحث على ما يلي:
الأول:
قوله (وأقسامه) يتعلق بها أشياء:
الأول:
في كون (الواو) في (وأقسامه) استئنافية، وقولنا: (استئنافية) مأخوذ من: الاستئناف وهو: الابتداء، تقول: استأنفت الأمر؛ إِذَا ابتدأته.
الثاني:
في كون ضمير (الهاء) المتصل؛ عائدًا على الكلام. وهو في مَحَلّ خَفْضٍ على الإضافة.
الثالث:
في معنى (الأقسام) لغة؛ حَيْثُ إِنها جَمْع قسْم، والقَسْم - بفتح القاف - مصدر قَسَمْت الشيء قَسْمًا؛ إِذَا جزَّأته. والقِسْم - بكسر القاف - النصيب.
الرابع:
في معنى (الأقسام) في عبارة الْمُصَنِّف - يرحمه الله -، حَيْثُ عَنى أجزاء الكلام من جهة تركيبه لا حقيقته؛ لأنه سبق أن الكلام عند النحاة حقيقته مُركَّبةٌ من اللفظ المركب، والمفيد بالوضع. فهذه القيود الأربعة هي أجزاء الكلام من جهة حقيقته. وأما من جهة التركيب فثلاثة: اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى.
الثاني:
قوله: (ثلاثة) يتعلق به شيئان:
1 / 22
أحدهما:
أن تقسيم الكلام من جهة تركيبه إِلى أقسام ثلاثة، أمر مُجْمع عليه عن اللُّغَويين والنحاة؛ قاله الأزهري.
والثاني:
في دليل القِسْمة. حَيْثُ إِن دليل ذلك أمران:
أحدهما: الاستقراء التام؛ حَيْثُ استقرأ أئمة اللُّغَة كأبي عمرو المازني والخليل وسيبويه - الكلام، فوجدوه لا يخرج عن كونه: اسمًا، وفعلًا، وحرفًا جاء لمعنى. والاستقراء التام حجَّة باتفاق.
والثاني: الدليل العقلي؛ إِذْ العقل لا يقبل غير تلك القِسْمة.
وبيانه:
أن الكلمة لا تخلو: إما أن تدل على معنى في نفسها أَوْ لا، فالثاني: الحرف. والأول: إما أن يقترن بأحد الأزمنة الثلاثة أَوْ لا، فالثاني: الاسم. والأول: الفعل.
الثالث:
قوله: (اسم)، يتعلَّق به أشياء أربعة:
الأول:
في تقديم الْمُصَنِّف - يرحمه الله - الاسمَ على الفعل والحرف؛ إِذْ هناك ما يُوجِب تقديمه، ومن ذلك: كون الاسم يأتي مسندًا ومسندًا إِلَيْهِ، خلافًا للفعل فلا يكون إلا مسندًا، وأما الحرف فلا يكون مسندًا ولا مسندًا إِلَيْهِ.
ومثال ذلك:
(زَيْدٌ قَائِمٌ)؛ وفيه أُسْنِدَ القيام لزيد، فكان (زيد) مسندًا إِلَيْهِ القيام، وكانت كلمة: (قائم) مسندًا؛ حَيْثُ أُسْنِدت لـ (زيد)، وكلمة: (قائمٌ) اسم، بدلالة التنوين فيها، والتنوين - كما سيأتي إن شاء الله - من خواص الاسم وعلاماته.
فبان بالمثال السابق أن الاسم يأتي مُسْنَدًا ومُسْنَدًا إِلَيْهِ.
الثاني: في معناه لغة
إِذْ هو: ما دَلَّ على مُسَمّى، واخْتُلِفَ في اشتقاقه هو مِن (السُّمُوّ) وهو: العلو، أم من (الوَسْم) وهو: العلامة؟؟ قولان: والصحيح: الأول، وعليه الأكثر. ولا شك أن الاسم يعلو الْمُسَمَّى، ويعلو الفعل والحرف على ما سبق (أَيْ: من كونه مسندًا ومسندًا إِلَيْهِ) .
الثالث: في معناه اصطلاحًا
حَيْثُ يُعَرَّف بأنه: ما دَلَّ على معنى في نفسه ولم يقترن بزمان.
1 / 23
و(في) في التعريف للسَّبَبِيَّة، أَيْ: دَلَّتْ عَلَى معنى بسبب نفسه لا بغيره.
والمراد بالزمان في: (ولم يقترن بزمان) المعَبَّر عنه بـ (الماضي، والحال، والاستقبال) .
الرابع: في أقسام الاسم
حَيْثُ يقسم إِلى أقسام ثلاثة:
الأول: الاسم المظهر، كـ (زيد)، و(عمرو) ونحوهما. ويضبط بأنه ما دَلَّ على مُسَمَّاهُ بلا قَيْد (أَيْ: من القيود الآتي ذكرها) .
الثاني: الاسم المضمر، كـ (أنا، وأنت، وهو) ويضبط بأنه: ما دَلَّ على مُسَمَّاهُ بقَيْد (التكَلُّم، أَوْ الخطاب، أَوْ الغيبة) .
وقَيْد التكَلُّم مثاله: أنا، فهو يدل على الْمُتَكَلِّم.
وقَيْد الخطاب مثاله: أنت، فهو يدل على مُخاطَب.
وقَيْد الغَيْبة مثاله: هو، فهو يدل على غائب.
وجميع هذه الأسماء بقيودها ضمائر؛ ولذا سُمِّيَت بـ (الأسماء الْمُضْمَرة) .
الثالث: الاسم الْمُبْهَم؛ كـ (هذا والذي)، ويُضبط بأنه ما دَلَّ على مُسَمَّاهُ بقَيْد: (الإشارة أَوْ الصِّلة) .
وقَيْد الإشارة مثاله: هذا، فهو اسم إشارة.
وقَيْد الصلة مثاله: الذي، فهو اسم موصول.
واسم الإشارة والصِّلة كلاهما يدل علي مُبْهَم. ولذا سُمِّيَا بـ (الأسماء الْمُبْهَمة) .
وذهب جماعة من النحاة إِلى أن الاسم الْمُبْهَم من المضمر، ومِنْ ثَمَّ جعلوا الاسم قسمين: مُظْهر، ومُضْمر.
الرابع:
قوله: (وفعل) يتعلق به أشياء أربعة:
الأول:
ثنى الْمُصَنِّف - يرحمه الله - بالفعل، لكونه يتوسط الاسم والحرف مرتبة، وسبق تقرير ذلك. و(الواو) في: (والفعل) عاطفة.
الثاني: في معناه لغة
حَيْثُ إِنه يدل على إحداث شيء من عملٍ وغيره، تقول: فعلتُ كذا؛ إِذَا أحدثتَهُ.
الثالث: في معناه اصطلاحًا
حَيْثُ إِنه: ما دَلَّ على معنى في نفسه واقترن بزمان. و(في) في قولنا (معنى في نفسه)؛ للسَّبَبِيَّة، أَيْ دَلَّتْ عَلَى معنى بسبب نفسه، لا بانضمام غيره إِلَيْهِ.
1 / 24
الرابع: في أقسامه
حَيْثُ يقسَّم إِلى: فعل ماض، وفعل مضارع، وفعل أمر. وسيأتي الكلام عنها - إن شاء الله -؛ حَيْثُ عقد الْمُصَنِّف - يرحمه الله -لها فصلًا.
الخامس:
قوله: (وحرف جاء لمعنى) يتعلق به أشياء:
الأول:
أَخَّرَ الْمُصَنِّف - يرحمه الله -ذِكْر الحرف، لكون مرتبته متأخرة عن الاسم والفعل، وسبق تقرير ذلك. و(الواو) في (وحرف) عاطفة.
الثاني:في معناه لغة
حَيْثُ يدل على طرف الشيء وجانبه، تقول: سرت على حرف الوادي، أَيْ: على طرف الوادي وجانبه. وللحرف معانٍ أُخَر.
الثالث: في معناه اصطلاحًا
حَيْثُ إِنه: ما دَلَّ على معنى مع غيره ولم يقترن بزمان. وقولنا: (مع غيره) يدل على أن الحرف لا يدل على معنى في نفسه كالاسم والفعل، بل يأخذ معنى عند انضمامه إِلى اسم أَوْ فعل.
الرابع:
في معنى قوله: (جاء لمعنى)؛ حَيْثُ إِنه قَيْد للحرف الذي هو ثالث أقسام الكلام من جهة التركيب، إِذْ إِنَّ الحروف نوعان.
أحدهما: حروف مباني؛ وهي التي تَنْبَنِي منها الكلمة كحرف: الزاي والياء والدال، التي تَنْبَنِي منها كلمة: زيد، ويُسَمِّيها بعضهم بحروف التَّهَجِّي.
الثاني: حروف معاني؛ وهي التي لها معنى مع غيرها كـ (حروف الجر، والجزم، وهل، وبل) وهي التي عناها الْمُصَنِّف - يرحمه الله - بقوله: (وحرف جاء لمعنى)، و(جاء) فعل ماض، و(لمعنى) اللام حرف جر، و(معنى) اسم مجرور.
الخامس: في أقسامه مع الاسم والفعل
حَيْثُ يُقَسَّم إِلى أقسام ثلاثة:
الأول: ما يَدْخل على الأسماء والأفعال، كـ (هل) .
الثاني: ما لا يَدْخل إلا على الأسماء، كـ (حروف الجر) .
الثالث: ما لا يَدْخل إلا على الأفعال، كـ (حروف الجزم) .
تمرين على ما شرح
قال الإمام ابن قتيبة ﵀ في مُقدِّمة [أدب الكاتب]:
1 / 25
‘‘ ونحنُ نستحِبُّ لمن قَبِلَ عنا، وائْتَمَّ بِكُتُبِنا: أنْ يُؤَدِّبَ نفْسَهُ قَبْلَ أنْ يؤَدِّبَ لسَانَه، ويُهذِّبَ أخْلاقَهُ قبْلَ أنْ يُهَذِّبَ ألْفاظَهُ، ويَصُون مروءته عن دَنَاءة الغيبة، وصناعته عن شَيْن الكذب، ويُجَانب - قبل مجانبته اللَّحْن، وخَطَل القول - شنيع الكلام، ورَفَثَ المزح ’’.
ففي هذه الْجُمَل أسماء وأفعال وحروف.
فمن الأسماء (نحن، كتب، نفس، لسان) .
....................................... .......................................
....................................... .......................................
..............................................................................
..............................................................................
يقول الْمُصَنِّف ﵀: (والاسم يُعرف ...... الخ)
هذا شروع من الْمُصَنِّف ﵀ في بيان علامات أقسام الكلام؛ للتمييز بين كل قسم وأخيه.
وقد ذهب بعض الشراح إلى أن الأَوْلى للمصنف ﵀ أن يذكر حقيقة كل قسم وتعريفه قبل أن يذكر علاماته.
وأجيب: بأن ذكر العلامات أسهل على المبتدئ في التمييز بين أنواع الكلام وأقسامه، خلافًا لتعريف كل قسم وذكر حقيقته فقد ينبهم على المبتدئ.
وقد ابتدأ الْمُصَنِّف ﵀ بذكر علامات الاسم لمعنى سبق - وهو تقدم الاسم على الفعل والحرف لكونه مسندًا ومسندًا إليه -.
قوله: (فالاسم)
يعني الذي هو أحد أقسام الكلام؛ إِذْ إِنَّ القاعدة اللُّغَوية البلاغية تقول: إن الكلمة إذا كانت معرفة أو نكرةً ثُمَّ أُعيدت معرفة فهي ذات الأولى.
يقول السيوطي في [عقود الْجُمَان]:
إِذَا أتَتْ نكرةٌ مُكرَّرةْ
توافَقا كذا الْمُعَرَّفانِ.
ثُمَّ مِنَ القواعد المشْتهرةْ
تَغايَرتْ وإنْ يُعَرَّف ثانِ.
وقد ذكر الْمُصَنِّف ﵀ بعضًا من علامات الاسم.
أولها: (قوله بالخفض)
هو لغة:
السُّفْل، تقول: (نزلت في مكان منخفض) أي في سُفْل ونزول.
أما في الاصطلاح:
فهو تأثر الاسم بكونه مجرورًا إما بحرف جر أو بالإضافة أو التبعية.
1 / 26