وكان «شرل» بأثناء تفقده قلالي الدير عثر على كتاب يوناني خطي قديم فبادر إلى «سوسنة» وأطلعها على ما فيه من الرسوم والنقوش.
وعند المساء قدم الرهبان لضيوفهم مأدبة العشاء وكان أخص ما عليها من الطعام الزيتون والجبن وبعض أثمار يابسة، وبأثناء الطعام أخذ راهب متقدم في السن يقص على الضيوف أخبار البلاد وحوادثها فسر البارون بذلك منتهى المسرة.
وقد استرسل هذا الراهب المخبر في الكلام عن «إيتافروس» فقال عنه: إنه غول يقتات باللحوم البشرية، وأنه في كل شهر كانت تقدم له فريسة يلتهمها إلى أن جاءت نوبة أسرة ملك تلك البلاد بتقديم الفريسة، وكان ذلك الملك شيخا له بنتان شقيقتان توأمتان عمر كل منهما 18 سنة متشابهتان لطفا وجمالا، اسم إحداهما «صوفية» والأخرى «إلبيس»، فاحتار الملك فيمن يختار منهما ليقدمها للغول، وبالقضاء والقدر أصابت القرعة «إلبيس» التي كانت إذ ذاك مخطوبة لأمير من أمراء إبيروس، فأخذ اليأس من «إلبيس» كل مأخذ، ولما نظرت صوفية ما كانت عليه شقيقتها من الحزن والقنوط تحرك دم النخوة في عروقها وعزمت عزما دونه شجاعة الأبطال، وذلك أنها ليلة اليوم الذي فيه وجب على شقيقتها أن تقرب للغول «إيتافروس» توارت «صوفية» عن قصر أبيها وانطلقت في سبيل الجبل متجهة إلى المغارة التي كان الغول مختبئا فيها، ولكن رغما عن شجاعتها وإقدامها قد أخذ منها الخوف كل مأخذ، فاكفهر لونها، وارتعدت فرائصها فصارت أشبه بالخيال ...
فعندما وصل الراهب عند هذا الحد من الخبر اصفرت ألوان البارون وشرع قلبه يخفق، فلحظ منه القنصل ذلك، وللحال تظاهر أنه منحرف الصحة فنهض عن المائدة ونهض معه الجميع سائرين وراءه.
ولما كان صباح اليوم الثاني باكرا غلسا زايل قومنا دير القديس «برلعم» وانطلقوا يزورون ساحة الوغى الشهيرة في فرسالة، ولما كان البارون عالما بالآثار القديمة على ما مر بك الخبر أخذ يدل رفاقه على أماكن ومحال الموقعة الشهيرة التي انتهت بها الحرب بين قيصر وبومبة، وكان يقص عليهم حوادثها وبأثناء محادثته عادت إليه الطمأنينة وصفاء البال بحيث ظهر للحاضرين أن ما كان حل به بالأمس من التأثر زال تماما، ثم عادت الجماعة إلى العاصمة أثينة بطريق لاريسة وغولص.
9
ولما بلغوا أثينة وجد البارون غلافا ورده بالبريد ففضه وإذا فيه محررات من وزارة الخارجية، ولما قرأه بهت منذهلا؛ إذ علم أن دولته ناوية أن تنصبه سفيرا مرخصا لدى حكومة بخارست.
على أنه لم يتردد في أمره، بل بادر للحال للاستقالة من هذا المنصب، فرفع لحكومته مفترض الشكر والمنة؛ لما لها من الثقة به، وصرح لها بما عزم عليه من الانقطاع عن الخطة السياسية ومناصبها، أجل! إنه عزم من الآن فصاعدا على الانضمام إلى أسرة «ب» الكريمة مشاطرا إياها حظها من الحياة؛ وذلك لأن هذه الأسرة قد فتحت له صدرها شأن الأم نحو ولدها، بل عاملته معاملة ابن لها بالذات؛ ولذلك عقد النية على الرجوع إلى مدينة بيروت قصد أن يقضي فيها حياة منفردة مرددا في ذهنه ما تخطره تلك المدينة على باله من التذكرات.
ولما علمت أسرة «ب» ما كان طرأ على «شرل» من الهواجس وما شغل قلبه من الشواغل التي جعلته أن يأبى المناصب الجليلة لينضم إليها مدى الحياة - تأثرت لحسن وداده هذا وزاد انعطافها إليه، فصارت منزلته عندها منزلة الروح من الجسد.
وقد علمت مما مر بك ذكره أن هذه الأسرة كانت قد أحبت «شرل» محبة الآباء لأبنائهم؛ لما كان متصفا به من المحامد الفريدة، أما الآن فقد تعززت هذه المحبة بما يمازجها من الرجاء بمصاهرته، بل أصبح القنصل وزوجته يعلقان على هذه المصاهرة خير أسرتهما ورغدهما وحسن حالهما في مستقبل الحين.
Página desconocida