La duda creativa: en diálogo con los ancestros
الشك الخلاق: في حوار مع السلف
Géneros
والوعي العقلاني النقدي يستلزم بداية إسقاط جميع التحيزات السائدة التي تحكم نظرتنا، وأن نبدأ النظر إلى التاريخ؛ أي نبدأ المراجعة النقدية للتاريخ، تأسيسا على منهج علمي في اتساق مع متطلبات النهضة. وحري بنا أن نعترف أننا لا نملك هذا الوعي بالتاريخ في وحدته وشموله وموضوعيته لأننا لا نملك الحافز إليه ولا الجرأة على توظيف المنهج العلمي في البحث، خاصة وأننا عشنا أسرى ثقافة مندمجة مع وفي ثقافة لها قوة دمج طاغية ومتماهية مع الدلالة الدينية، وفي ضوء تراث ديني اتسع قسرا ليشمل السياسي والتاريخي وكل مكونات وعناصر الوعي الاجتماعي؛ أي أسرى أيديولوجيا.
وإن الهدف من إسقاط الانحيازات والأهواء هو الابتعاد عن الانتقائية، وتأكيد وحدة التاريخ في عراقته المطردة عميقة الجذور، وفي حركته بين المتناقضات، وبفعل هذه المتناقضات، وذلك التماسا لوحدة الأنا أو الذاتية القومية وصولا إلى حس تاريخي صادق يدعم روح الانتماء. ولن تكون صورة الأنا هنا وعاء نثار من معارف وأحداث متراكمة، بل أنا نسقية غير متصدعة؛ فاعلة ومنفعلة جمعيا، ومتطورة ومتغيرة سلبا وإيجابا في وحدة جدلية تاريخية؛ أي تأكيد شعور التوحد مع الجماعة من خلال الفعل والتفاعل على صعيد جمعي.
والتاريخ في ضوء هذا ليس هو الماضي، وليس شتاتا من وقائع نرويها، بل هو البعد الزماني لوعي المجتمع في إطار وظيفي هادف. إنه الصياغة النظرية لهذه الوقائع في نسق يكشف عن طبيعة العلاقة بينها داخل تجمع دينامي لقوى تعبر عن ذاتها وتتجلى في صيرورة مطردة .. وبدون هذا النسق النظري الذي يضع الإنسان؛ ومن ثم المجتمع، باعتباره وجودا ممتدا بامتداد الأحقاب والعصور نفقد القدرة على فهم الذات وتأكيد وحدتها ضمانا لفعاليتها الإيجابية في حركتها نحو المستقبل؛ بل أقول نفقد دعامة أولى وشرطا مسبقا، من بين شروط أخرى، للقدرة على تصور المستقبل كهدف نابع من ذاتنا وننتمي إليه.
ولهذا أصبح علم التاريخ هو البعد الزماني للعلوم الاجتماعية، وهو حصاد إسقاط العلوم على أحداث التاريخ من حيث هي تعبير عن ذات فاعلة «المجتمع» داخل بنية وفي سياق محلي وإقليمي وعالمي بكل تحدياته؛ ولهذا ارتبط التاريخ في تقدمه بتقدم العلوم الإنسانية والعلوم بعامة، حتى إن هناك من يرى أن التاريخ والعلوم الأخرى أجزاء من متصل واحد وصولا إلى نظرة شاملة إلى وعي الإنسان/المجتمع. ودفع هذا البعض إلى القول إن التاريخ القومي، والنظرية التاريخية القومية، جزء من نسق أشمل هو نظرية تاريخ الإنسان؛ لأن النوع الإنساني بعض هذا الكون الطبيعي على اتساعه؛ إذ هل يستغني عالم البيولوجيا عن التاريخ؟ وهل لا توجد صلة بين الزمن التاريخي والزمن البيولوجي؟ أو بين التاريخ من حيث هو البعد الزماني للإنسان وبين الجيولوجيا وتأثير عناصر الجيولوجيا في تطور الكائنات الحية وتطور الحضارة؟ وهل هناك قطيعة في التاريخ بين الحضارات والشعوب؟ أليس التاريخ المروري أو المكتوب يمثل رأيا ورؤية في صياغة لغوية داخل سياق اجتماعي له شروطه ومن ثم يلزم فهم الرواية في ضوء التحليل اللغوي والاجتماعي؟ ويلزم الكشف عن المسكوت عنه أو ما نسميه المنفي الفعال؟
لهذا لم يعد ممكنا دراسة التاريخ أو دراسة الإنسان في بعده الزماني باعتباره حدثا أو أحداثا مفردة، بل التاريخ منتج اجتماعي جامع لعناصر كثيرة تتكامل في دراستها وتحليلها وفهمها علوم متباينة. وأضحت القاعدة أن يضم أي مؤتمر لعلم التاريخ علماء من تخصصات مختلفة توافروا على بحث ظاهرة مشتركة من زوايا متكاملة. ويأتي هذا اتساقا مع منهج البحث الجامع أو منهج البحوث البينية
interdisciplinary .
وأفضى هذا إلى أن تحول الاهتمام من الخاص إلى العام، ومن الحدث المفرد إلى الإطار البنيوي الأساسي الذي تعمل فيه الأحداث والشخصيات؛ أعني رؤية الحدث التاريخ، وهو المنتج الاجتماعي، في سياقه الاجتماعي الكامل، وباعتباره دالة على الفعالية وعلى البنية الاجتماعية معا. ومن هنا لم يعد بالإمكان وجود عالم تاريخ ولا علم تاريخ في بيئة «علمية» منعزلة عن العلوم الأخرى وإنجازاتها، وعما طرأ على مناهج البحث من تحولات. ومن هنا أيضا لا يمكن أن ينهض علم التاريخ إلا في إطار نهضة علمية متكاملة تشكل ركيزة حركة مستقبلية شاملة المجتمع كله. والعكس صحيح أيضا؛ إذ لا يمكن أن ينهض مجتمع ويمضي قدما نحو المستقبل بدون نهضة علمية متكاملة شاملة علم التاريخ منهجا ونهجا ونظرية.
وإذا كان البعد العلمي شرطا للنهضة، فإنه بالأولى شرط لفهم الذات في بعدها الزماني ووحدتها التاريخية، ففي هذا حصانة ووقاء ضد الشعور بالدونية عند التعامل مع الغير، وتأكيد للذاتية عند التصدي للحركة المستقبلية، وضد التهويم في الفراغ أسرى أهواء وأساطير تقتلعنا من واقع الحياة وتحدياتها .. وإن مقتضيات التحديث الإجابة عن سؤال ماذا أفعل بالتاريخ، أو بما هو تاريخي، أو بما هو موروث ثقافي عن التاريخ؟ تماما مثلما أسأل وماذا أفعل بما هو غير عقلاني في المجتمع والتاريخ وفي الموروث الثقافي؟ وأيضا كيف أفهم المعلومة التاريخية على نحو موثوق ومعتمد لتوظيفها في إطار حركة المجتمع المستقبلية؟
ذلك لأننا في رؤيتنا لصورتنا الذاتية التاريخية تعرضنا لما يمكن أن نسميه انتهاكا لموضوعية التاريخ؛ إذ تناوبتنا قوى غازية عديدة، وحاولت كل قوة من هذه القوى أن تقدم نفسها باعتبار أنها هي «الأصيل»، بينما ماضينا هو «الآخر»، والعدو، أو الزائف، أو الجاهلية. ونجد هذا متحققا سواء كان الوافد عقيدة دينية أم قوى استغلال سافرة. وأدى هذا إلى نشوء علاقة جدلية متوترة بين الماضي السابق على الغزو وبين الرؤية الأيديولوجية الجديدة؛ إذ قد نرى الفن الفرعوني؛ أيديولوجيا، عملا مرذولا ننسلخ عنه؛ أعني أن تنسلخ الذات عن تاريخها لحساب نظرة أيديولوجية جديدة. هذا بينما نجد مجتمعات أخرى عمدت في تأكيد وحدتها القومية إلى استيعاب كل عناصر التاريخ في بنية واحدة ممتدة على الرغم من التوترات والتناقضات. نجد هذا في رؤية الهند لتاريخ المغول، ورؤية شعوب المكسيك للمسيحية الوافدة.
ونحن لا نزال في رؤيتنا التاريخية تحت سطوة منهج السلف المعتمد على الرواية والمنبثق عن أيديولوجيا. والرواية رؤية تحكمها أيديولوجيا وسياق اجتماعي (اقتصاد وسياسة ولغة .. إلخ). وننزع في اتجاهنا التاريخي نحو التجميع والتوليف دون التحليل، بل قد تجبرنا الرؤية الأيديولوجية على إغفال النظر إلى وقائع أو تحويرها. ونلحظ أن الرواة تعاملوا مع الماضي على نحو ما يتعاملون مع الواقع؛ أعني التعامل في ضوء حاجة تمليها السلطة وسطوة السلطان. ويشهد التاريخ المكتوب أن السلطة كان لها دائما دور مركزي انعكس على النهج السائد في كتابة التاريخ، فجاء التاريخ المكتوب تاريخ القوى المتسلطة. وتعذر التحقق من صدق الرواية الواقعة، نظرا لغياب الوثائق والتوثيق في حياتنا الثقافية. وغالبا ما تكون الرواية للتبرير، وليس للتسجيل.
Página desconocida