ويقال على التعميم أيضا إن شكسبير تطور ولم يتغير، ويقصدون بالتطور - دون التغير - أنه يدل على التقدم ويدل مع التقدم على بقاء الملامح بينة ناطقة لا تختلف إلا كاختلاف ملامح الوجه بين سن الصبا وسن النضج والتمام: من شاء استحسن منها ما شاء، ولكنهم يستحسنون هذا أو ذاك على تفاهم وإدراك. •••
وتتقارب وجهات النظر في بيان معالم الطريق خلال هذا التطور كما تقاربت في الكلام على خصائص الأداء على الإجمال، وقد أجمل هذه المعالم كاتب من حذاق المترجمين للأدباء في عصر الملكة اليصابات، والمتفرغين لأدب شكسبير على التخصيص، وهو الدكتور هريسون مقدم المسرحيات وصاحب الرسالة الممتعة في تقديم شكسبير، وهي من أحدث ما كتب في تقديم الشاعر لقراء العصر الحاضر ومن أجمع التصانيف الأخيرة لأقوال شراح المطولات والموسوعات، وفي هذه الرسالة يفرد الكاتب فصلا لتطور أسلوب شكسبير، يسمي فيه معالم الطريق خلال ذلك التطور بأسماء المسرحيات، ويقول في مفتتحه: «إن أسلوبه الأول يتميز بغير مشقة، فالأوزان فيه ملحوظة بدقة وانتظام، والقافية فيه متبعة يفضل منها ذات الأسطر المتخالفة على المثاني المتتابعة، وبين حين وحين يدخل الموشحة في الحوار، ويكثر في الملهيات من الكلم البارع وبخاصة في الحوار بين الفتيان حتى ليضجر السامع لسرعة التبدل في الأذواق، ويتدفق ثمة حشد النكات المركبة مع استخدام الصور الخيالية حبا لها لا لتوضيح الفكرة أو مضاعفة التأثير، أما في المآسي - والتاريخيات منها بصفة خاصة - فإنه يعمد إلى اللفظ الطنان أحيانا ويودعه من أقوال البطولة ما ليس من ضرورات المقام، غير أنه لم يزل يؤثر العبارة الجميلة على الصياغة المسرحية.»
ثم يقول: «إن أحسن عاداته وأسوأها في مسرحياته قبل النضج تتراءى في أجمل مسرحياته الباكرة روميو وجولييت ...»
ويمضي فيقول ما فحواه: «إن أسلوبه الأول اختفى سريعا مع زيادة الخبرة والقدرة على الأداء، وفي سنة 1596 كتب تاجر البندقية فكان فيها حواره الجدي خيرا من مساجلاته الفكاهية ... وبعد تسعة أشهر على التقريب كتب الجزء الأول من هنري الرابع؛ فكان لأول مرة مسيطرا كل السيطرة على أداة تعبيره، وتعددت في الرواية شخوصها المختلفة، فكان لكل منها أسلوبه يلائمه ويحكيه ... وبعد ذلك كتب روايته عبد الله المغربي فلعلها كانت أتم المسرحيات في بنائها وتكوينها، وأوفاها لجلاء أساليبه الأربعة في الشعر الغنائي وفي القافية وفي الشعر المرسل وفي النثر ... ولما كانت سنة 1606 كتب لير وماكبث، فجاءت أولاهما عصية على المطالعة لتركيز الفكر فيها لا لغرابة مفرداتها، ولاستخدام الكلمة والصورة الخيالية معا للإعراب عن معنى لا يسهل الإعراب عنه ... ومضت فترة ندرت فيها كتابة شكسبير ... ثم كتب في سنتي 1610، 1611 سمبلين ونادرة الشتاء والعاصفة ... وبدا فيها قليل من الانحدار بعد الذروة التي ارتقاها منذ سنوات، غير أن الحوار في نادرة الشتاء يرينا شكسبير على أحسنه وإن اختل تأليف الرواية لانقضاء ست عشرة سنة بين فصلها الثالث وفصلها الرابع ... أما في العاصفة فقد بلغ في رأي النقاد الكفاة قمة التأليف في المسرحيات، وجاء فيها بأجمل ما ترتقي إليه اللغة الإنجليزية في نظم القصيد، وستفنى اللغة الإنجليزية في أجلها المقدور، وذلك الشعر منتهاها من البلاغة والجمال ...» •••
ويعتبر النقد الموجه إلى الأداء المسرحي، أو العرض المسرحي، في روايات شكسبير نقدا موجها في أساسه إلى بناء المسرح في القرن السادس عشر، وإلى ضرورات التأليف التي استلزمها ذلك البناء.
إذ يرجع النقد في أساسه إلى صعوبة تحويل المناظر على المسرح وصعوبة الدلالة على ابتدائها وانتهائها وعلى أمكنة الحوادث التي تجري فيها وتستمر أو تنقطع دون نهايتها، وكانوا تارة يجعلون تقسيم المناظر تابعا لحركة الأبطال البارزين في الرواية أو تابعا لاجتماع العدد الأكبر من ممثليها في وقت واحد، وينوطون أمر التقسيم بالمخرج الذي يتولى دعوة الممثلين إلى أدوارهم، ويلاحظ اتصال الأدوار قبل خلو المسرح من الممثلين المتكلمين، وقد ظهرت الطبعة الأولى من مجموعة شكسبير وليس فيها علامات تدل على انتقال المناظر أو على أماكنها، واجتهد نيقولاس راو
Rowe (1674-1718) في تدارك هذا النقص في طبعته المهذبة لهذه المجموعة، فأصاب وأخطأ وفتح الباب للتعديل والتنقيح في تقسيم المناظر، بل لكتابة بعض أجزائها على نمط آخر يوافق تطور المسرح وتطور لغة الخطاب وتطور اللغة والمتكلمين بها في استعمال المفردات بين جيل وجيل.
وانفتح الباب للتعديل والتنقيح، فكان الممثل جاريك
Garrick
يعيد كتابة بعض المناظر ويجاوز ذلك إلى تحويل الروايات من المأساة إلى الملهاة كما صنع في ختام رواية «روميو وجولييت» وجاء على آثاره أناس من الممثلين والمخرجين، فقدموا وأخروا في المناظر، وغيروا وبدلوا في الحوار والخطاب، وأدخلوا الموسيقى والرقص إلى بعض المواقف، بدلا من الأغاني والأناشيد، أو تلحينا لما يصلح منها للرقص والإيقاع.
Página desconocida