أما أقدم المعروفين باسم شكسبير من المتصلين بنسب الشاعر فهو جده ريتشارد شكسبير المتوفى سنة 1561 قبل مولد حفيده بثلاث سنوات، وكان يزرع الأرض ويستأجرها ويرعى الماشية كما يؤخذ من حكم محفوظ بتغريمه اثني عشر بنسا لتسريحه في مراعي القرية قطيعا يزيد على مائة رأس في الرعية الواحدة.
وقد استقصى الباحثون في سيرة الشاعر تراجم ثلاثة يدعون باسم جون شكسبير بين منتصف القرن ونهايته، وهم غير جون ريتشارد أبيه الذي تكرر ذكره في سجلات القرية، وكان يختار له توقيعا يشبه رسم القفاز لأنه يجهل الكتابة، وقد التبس الأمر على بعض الذين تصدوا لترجمته بعد اشتهار ولده فذكروا مرة أنه كان يحترف الجزارة ومرة أخرى أنه كان يحترف الدباغة، وربما اشتغل بذبح الماشية ودبغ الجلود لاستخدامها في صناعة القفازات التي جعلها في توقيعه شارة صناعته، ومن جراء هذا التوسع في أعماله تعرض للحكم عليه بغرامة «اثني عشر بنسا»؛ لأنه ترك القمامة في الطريق، وهو إهمال لا يسلم منه من يحتاج في عمله إلى رعي الماشية وذبحها ودبغ جلودها، وله في هذه المخالفة شركاء مذكورون في سجلات القرية.
وليس لترجمة جون شكسبير مصادر يوثق بها غير التوقيعات والعقود المحفوظة في تلك السجلات، ومنها يعلم أنه ظل على حالة محمودة من اليسر والكفاية بعد وفاة أبيه، فاشترى في سنة 1556 بيتين من بيوت القرية الحسنة، وتزوج في السنة التي تليها بماري آردن بنت روبرت آردن صاحب الأرض التي كان يستأجرها ريتشارد شكسبير ويعيش من غلتها ومن رعي الماشية وبيعها، وهي فتاة متعلمة تنتمي إلى أسرة عريقة أغنى من أسرة زوجها؛ إذ كان أبوها يملك البيوت والأرض ويخص ماري وحدها بعد وفاته بستين فدانا غير بعض الحصص الموزعة في ميراث الأرض والمال، ولا شك أنه آثرها بأفضل الحصص بين أخواتها الثمان، إما لأنها كانت أصغرهن أو لأنه كان يأنس فيها النجابة والتفوق في الذكاء والمودة على أخواتها.
وولدت ماري لجون شكسبير طفلتهما حنة (1558) التي ماتت في طفولتها، ثم طفلة أخرى سمياها مرجريت (1562) ماتت بعد خمسة أشهر، ثم ولدت أول أبنائها وليام (23 أبريل سنة 1564)، ورزقا بعده بثلاثة أبناء هم: جلبرت، وريتشارد، وإدموند. وبنتين هما: حنة، وآن. وتوفيت ماري سنة 1608 بعد وفاة زوجها جون بست سنوات.
وكانت حالة جون قد اطردت في التقدم والرخاء بعد زواجه إلى سنة 1575 حين اشترى منزلين آخرين غير منازله التي كانت له قبل الزواج، ثم تقلبت به صروف التجارة والصناعة في أيام التحول الاقتصادي الذي طرأ في البلاد الإنجليزية على تجارة الداخل والخارج ونظام التصدير والاستيراد وتداول المراكز التجارية بين القرى والحواضر ومدن السواحل، فطاحت الأزمة بعتاده وعتاد زوجته وأثقلت كاهله بالمتاعب والهموم حتى شغلته عن وظائفه العامة في القرية، وكان قد تولى منها عدة وظائف هامة كأمانة الخزانة ووكالة الدعاوى ورئاسة المشايخ فاعتزلها أو عزل منها، وعين مجلس القرية بديلا له لانقطاعه عن جلساته.
ويجهل التاريخ تفصيلات هذه المحنة لأنها لم ترد في سجلات القرية المحفوظة، إلا ما كان من خبر هنا وخبر هناك عن القضايا التي رفعت عليه والديون التي طولب بها والعقود التي دونت فيها الرهون أو الإجارات، ولكن الخطأ في محنته إنما كان من أخطاء الضرورة التي أوقعه فيها التوسع في أعماله بين صناعة القفازات وزراعة الأرض وتجارة المبيعات من محصول الزراعة والصناعة ومباشرة الوظائف المتعددة في مجلس القرية، وغير ذلك من متاعب البيت ومطالب البنين والبنات، ولم يثبت في تاريخه المسجل ما يدينه بسيئة من سيئات الخلق أو سيئات الخطل العيب.
ويظهر من أسماء ذرية شكسبير أن الأبناء والبنات من هذه الذرية كانوا يسمون بأسماء أقربائهم وقريباتهم من العمومة والخؤولة، وأنهم كانوا يقيمون في قراهم ولا يطلبون الاغتراب عنها، وأن إخوة شكسبير الذكور لم يعمروا ولم يخلفوه؛ إذ مات جلبرت في السادسة والأربعين ومات إدموند في السابعة والعشرين ومات ريتشارد في التاسعة والثلاثين، ولم يشتغل منهم غير واحد بصناعة التمثيل وهو أصغرهم إدموند الذي ولد سنة 1580 وتوفي سنة 1607.
وقد توفيت البنات صغيرات، فماتت حنة الأولى وأختها مرجريت في سن الرضاع، وماتت آن أصغرهن في الثامنة من عمرها، ولم تبلغ منهن سن الشيخوخة غير حنة الثانية التي سميت على اسم أختها المتوفاة، فإنها ولدت سنة 1569 وتوفيت سنة 1646. •••
في هذه الأسرة الريفية نشأ وليام شكسبير بن جون بن ريتشارد شكسبير، ويخيل إلينا الآن أنه يحل منها في مكان ناشز غير معد لأمثاله؛ لأنها في جميع سماتها وعاداتها تطرد على شاكلة الأسر الريفية التي تتطلع إلى الستر أو الوجاهة ولا تطمح إلى مكان في العالم فوق ذلك أو وراء ذلك، ثم يصعد من بينها هذا الاسم الذي لا يدانيه في آفاق الشهرة الإنسانية غير آحاد معدودين، فليس في أبناء الأسر المالكة ولا في أبناء العروش الإمبراطورية من اشتهروا مثل شهرته وعني الناس بأقوالهم وأخبارهم عنايتهم بأقواله وأخباره، وإذا استثنينا الرسل والأنبياء من أصحاب الأديان الكبرى فليس في أصحاب الأقلام منذ كتب الإنسان بالقلم عشرة يعدون معه في الصف الأول الذي تقدم إليه بين الصفوف العباقرة العالميين. لا جرم يتخيل المتخيل حين ينتقل من سيرة ذويه إلى سيرته أنه ينتقل من جو إلى جو ومن عالم إلى عالم، وأن هذه الشهرة الضافية نشوز في تلك الرقعة الضيقة من تلك القرية المنزوية في بعض الطريق.
لكن الواقع أن وليام شكسبير - قبل اشتهاره وبعد اشتهاره - هو ابن تلك الأسرة في الصميم، وهو سليلها الذي نعرفه ونعرفها فلا ندري كيف ينشأ في غيرها، وهو بتلك الخلائق وتلك المشارب وتلك السيرة من المولد إلى الممات.
Página desconocida