وأغرب من هذا أن شيطانا مريدا قد استقر في بيت خالد ولزم أذنيه وأذني امرأته وجعل يوسوس لهما في النهار ألا يسمعا لنصيحة سليم وأضرابه، وألا يقنعا لأبنائهما بالشهادات اليسيرة والمناصب التي تنال بقليل من الجهد وتغل على أصحابها رواتب ضئيلة يراها أهل الإقليم شيئا عظيما وهي في حقيقة الأمر لا تقيم الأود ولا تحمي من الجوع، فضلا عن أن تبيح لأصحابها ما هم أهل له من الترف وخفض العيش، وكان هذا الشيطان المريد يقول لخالد وامرأته مصبحا وممسيا: انظر إلى رئيس المصلحة وقاضي المحكمة ومأمور المركز، فأما أحدهم فيعلم ابنه ليكون قاضيا، وأما الآخر فيريد لابنه أن يكون مهندسا، وأما الثالث فيطمع لابنه في أن يكون طبيبا، فأي فرق بين أبنائكما وأبناء هؤلاء الناس؟! إن قاماتهم جميعا تعتدل في السماء، وليس أبناء هؤلاء الموظفين الكبار وحدهم هم الذين تعتدل قامتهم في السماء على حين يمضي أبناؤكما على أربع، إنهم جميعا قد سلكوا إلى الحياة طريقا واحدة، وسيسلكون بعد أعمار طوال إلى الموت طريقا واحدة، فما بالهم يختلفون في الطبقة ويتباينون في المنزلة بين الحياة والموت؟!
وكان هذا الشيطان المريد يقول لخالد وامرأته فيما كان يقول: انظر إلى رئيس المصلحة كيف يستكبر ويستعلي؟! وكيف يثني عطفه ويلوي جيده إذا تحدث إلى مرءوسيه ومنهم خالد؟! وانظرا إلى امرأة هذا الرئيس كيف تدل وتتيه وتنظر من عل إلى نساء الموظفين حين يسعين لزيارتها! وانظرا إلى أبناء هذا الرئيس إنهم لا يستكبرون على أبنائكما ولا يستعلون، كما يستكبر أبواهم ويستعليان؛ لأنهم قد ذهبوا إلى كتاب واحد ثم إلى مدرسة واحدة؛ فإن أمسكتما أبناءكما عند ما حفظا من العلم وحصلا من الشهادات وقفوا هم وتقدم أترابهم، ثم لا تمضي الأعوام حتى يكون أبناؤكما في نفس منزلتكما، وحتى يكون أبناء هؤلاء الموظفين لهم سادة وعليهم رؤساء، ومع ذلك فقد كان أبناؤكما يتفوقون في المدرسة على أبناء هؤلاء الموظفين، وهم جديرون أن يتفوقوا عليهم في المدارس الأخرى، وهم جديرون آخر الأمر أن يسبقوهم ويظفروا بما لم يظفروا به من وسائل الفوز، فانظروا كيف تجدان أنفسكما يوم يظفر أبناؤكما بالشهادة أو المنصب ويقصر على الشهادة أو المنصب أبناء الرئيس والقاضي والمأمور! وكان هذا الكلام يقع في قلب خالد وامرأته موقعا غريبا، ينسيهما كل شيء ويدفعهما إلى التضحية بكل شيء، فكان كل عام دراسي يشهد بيع شيء مما كانت الأسرة تعتز به وتحرص عليه، فيبيع البقر والجاموس والخيل شيئا فشيئا، ثم بيع حلي «منى» شيئا فشيئا حتى أصبحت أعطل من الفقيرات بين نساء المدينة، فلم تكن في المدينة امرأة فقيرة إلا ولها القرط من الذهب أو الفضة تعلقه في أذنيها، أو الخلخال من الفضة تديره حول ساقيها، وقد كان لمنى من هذا الحلي أنفسه وأكرمه، ولكنها جعلت تنزل عنه عاما بعد عام للمعلم جرجس هذا الذي كان يلم بالبيت إذا دعاه خالد، فيأخذ الحلي في يده ينظر إليه فيطيل النظر، ثم يزنه ثم يؤدي ثمنه إلى خالد، ويدفعه خالد إلى بنيه ليؤدوا منه أجور التعليم، ثم اضطر خالد أن يقتصد في زيه؛ فقد كانت ثيابه من أزهى الحرير وأجود الصوف، ينفق في ذلك ما لا ينفق أصحابه مثله، فإذا هو يزهد في هذا كله، ويتخذ ثيابه من القماش الأبيض والصوف الرخيص، وليس هو وحده الذي يقتصد فامرأته وبناته يذهبن في الاقتصاد مذهبه ويسرن سيرته؛ فقد كان يجب أن يتعلم الأبناء وأن يعيشوا في القاهرة عيشة راضية.
ولم يكن أمل في أن يستعين خالد أباه، فقد بعد العهد بثروة أبيه، وأصبح علي شيخا فانيا ضريرا أعزب عيالا على أبنائه، يرزقونه في المدينة ويودون لو أقام عند كل واحد منهم جزءا من السنة ليعيش مع أهله كما يعيشون حتى لا يكلفهم نفقة خاصة، ولكن عليا مصمم على أن يبقى في داره ليعيش في غرفة أم خالد، وهو لا ينتقل من هذه الدار إلا إذا أقبل الشتاء من كل عام؛ فإنه يحب أن ينفق الشتاء عند خالد حيث يجد من الدفء والراحة والخدمة ما لا يجده في داره، ولكنه قد أخذ على خالد عهدا إن أصابته علة أن يرده إلى داره وإلى غرفة أم خالد من هذه الدار؛ لأنه يريد أن يموت حيث ماتت زوجته الأولى؛ وليس أمل في أن يستعين خالد حماه الحاج مسعودا؛ فقد عبث الحاج مسعود بالثروة، وقد تعرضت تجارته لمثل ما تعرضت له تجارة علي من هذا الخطر الذي جاءها من القاهرة على أيدي هؤلاء الشياطين الذين نظموا التجارة تنظيما حديثا ويسروها تيسيرا لا يقدر عليه الحاج مسعود وأمثاله، ولولا أن الحاج مسعودا كان رجلا صالحا بأدق معاني الكلمة لتعرض من البؤس لمثل ما تعرض له علي، ولكنه ضبط نفسه وحزم أمره وكف عن التجارة حين رأى أن المضي فيها خطر، واكتفى بما كان عنده من مال ينفق منه على نفسه، ويبر منه بناته وأصهاره في اعتدال ورفق، ثم لزم شيخه أشد ما يكون له لزوما، حتى إذا مات الشيخ لم يلزم ابنه الحدث، وإنما أقعدته السن في داره، فكان يزور الشيخ الفتى بين حين وحين، ولو قد بقيت على الحاج مسعود ثروته عريضة وتجارته نامية لما استعانه خالد على ما كان يلقى من الجهد في تعليم بنيه، فقد كان خالد شديد الحياء، وكانت امرأته أشد منه حياء، وكان الزوجان يجدان لذة غريبة في هذا البؤس الذي كانا يضطران الأسرة إليه لتعليم أبنائهما. ومن الحق أن هؤلاء الأبناء كانوا يكافئونهما أحسن المكافأة على ما كانا يبذلان من جهد ويحتملان من ضنك، فقد كانوا نابهين على الجملة، وكانوا على كل حال ممتازين على أترابهم من شباب المدينة، فكانوا ينجحون حين كان يخفق أبناء كبار الموظفين، وقد ظفر أحدهم بالشهادة الثانوية لم يرسب مرة واحدة، على حين أن قرينه ابن المأمور الذي دخل معه المدرسة الثانوية في عام واحد لم يزل في السنة الأولى، وقد كاد يفصل من المدرسة لولا أن أباه استعان ببعض أصحاب الجاه، فكان المأمور وكبار الموظفين يحسدون خالدا، لا يكادون يخفون هذا الحسد، وكان خالد وامرأته يجدان في هذا الحسد لذة منكرة لا يكادان يخفيانها، وكان خالد يتقي هذا الحسد بقراءة القرآن والإلحاح في الدعاء، كما كانت «منى» تتقي هذا الحسد بالبخور وبهذه الأدعية التي لا يعرف أمتجهة إلى الله أم إلى الشيطان، وكان الشباب يضحكون من هذا كله ويعبثون من أمهم وأبيهم جميعا.
وفي أثناء هذا كله كان بنات «منى» ينمون ويتقدمن نحو الشباب حسانا رائعات، وكان الأبناء يتتابعون لا يكاد يدرج واحد منهم حتى يتبعه آخر، وجلنار هي القائمة على أمر هذه الدار بإرشاد خالتها وبتعنيف خالتها أيضا، وقد كثر العمل على جلنار، فالصبية كثيرون، وشئون الدار لم يقل تعقيدها، ولكن قل فيها الخدم؛ فلم يكن بد من الاقتصاد. وكان العمل يثقل على جلنار بنوع خاص أثناء الصيف وفي إجازات الأعياد حين يقبل هؤلاء الشباب، فيملئون البيت حركة ونشاطا، والغريب أن أحدا من هؤلاء الشباب لم يخطر له أن حال الأسرة قد تغيرت، وأن ثراءها قد ذهب، وأن مالها قد قل؛ ومع أنهم كانوا يرون الدار خالية مما كان فيها من الحيوان، ومع أنهم كانوا يرون أن أثاث الدار يبلى شيئا فشيئا دون أن يجدد، ومع أنهم كانوا يرون أمهم عاطلا لم يبق لها خاتم تديره حول إصبعها، فقد كانوا مطمئنين إلى أن أباهم قادر على كل شيء، وكانوا واثقين بأنهم سيجدون في الدار ما تعودوا أن يجدوا من السعة والرخاء، والشيء المهم هو أن جلنار كانت تنهض بخدمتهم لا تكل، تستيقظ مع الفجر قبل أن يستيقظوا، وتنام عند منتصف الليل بعد أن يناموا، لا تفتر عن العمل ساعة، ولا تذوق الراحة لحظة، وهي بذلك سعيدة وإليه مطمئنة، لولا ما كانت تلقى من تعنيف خالتها الذي لم يكن ينقطع، ولولا ما كان يوجه إليها هؤلاء الشباب الأشرار الجاهلون للجميل من مزاح لا يخلو مما يؤلم، ولولا أن سالما كان ينتهز هذه الفرصة فيزور الأسرة ويطيل الإقامة فيها، ويكون أشد أترابه رغبة في الدعة والرخاء وحاجة إلى الخدمة، وأطولهم لسانا بما يسوء.
وكان أحب أوقات جلنار إليها وآثرها عندها هذه اللحظات القصار التي كانت تقدم فيها القهوة إلى أبيها مع الصبح وخالتها نائمة لم تنهض بعد، فكانت تقف بين يدي أبيها وهو يأكل كسرة الخبز المجففة يغمسها في الملح ويشرب فنجانيه من القهوة السادة، ويتحدث إلى ابنته حديثا هادئا عن إخوتها كيف أنفقوا أمسهم وكيف يريدون أن ينفقوا يومهم، وماذا يجب أن تعد لغدائهم أو عشائهم من طعام، وكانت تحب أيضا هذه اللحظات القصار التي كانت تصب فيهن الماء أثناء وضوئه إذا نهض من نومه بعد الغداء، حتى إذا أسبغ وضوءه تركته يصلي العصر، ثم عادت إليه بفنجانيه من القهوة، فأخذ يشربهما مستأنيا، ويداعبها حول ما أعدت من طعام، يمدح هذا اللون ويعيب ذاك، والفتاة ترد على أبيها مداعبة، ترق له حينا وتعنف به حينا آخر، ويبلغ بها العنف أن تشبه أباها بالقطط التي تأكل ثم لا تتحرج من أن تنال مطعمها بالمخالب، وكان أبوها يسمع منها ويضحك لها، وينصرف وفي قلبه كثير من حنان، وعلى لسانه شيء من دعاء لا يسمعه إلا الله؛ لأنه كان يخشى أن يسمعه أحد أبناء الأسرة، فقد استقر في الأسرة كلها أن جلنار حمقاء ورهاء، لا تقدر على خير، ولا تستحق خيرا، وكانت جلنار تجد شيئا من الراحة والروح حين تقدم إلى أمها قهوة الصباح بعد أن ينصرف أبوها وقبل أن تنهض خالتها، فتلقي إلى أمها كلمات سريعة كأنما تخطفهن خطفا، وتلقي إليها أمها كلمات سريعة كأنها تختلسهن اختلاسا، ثم يفرق العمل بين الأم وابنتها، فالفتاة مضطربة في البيت لا تستقر كأنها خذروف الوليد، وأمها مقبلة على ما كانت موكلة به منذ عاد إليها بعض رشدها من الخياطة وإصلاح ما كان الشباب والصبية يمزقون من الثياب.
وكذلك مضت حياة الأسرة أعواما وأعواما حتى اكتهل الشاب وشب الصبي وصلح البنات للزواج، واختلف أصغر الأبناء إلى المدارس يسيرون على آثار إخوتهم الكبار، وخالد الشيخ سعيد بما يرى من تقدم بنيه واستقلال من يستقل منهم، شقي بما يرى من إعراضهم عنه وازورار أكثرهم عليه، باذل على ذلك في شيخوخته مثل ما كان يبذل في شبابه من جهد ليعين من يحتاج من أبنائه إلى العون وليبر أبناءه الآخرين، وقد كانوا خليقين أن يعينوه ويبروه، وكان خالد وامرأته يتحدثان ببر الأبناء وعقوقهم، فيفرحان بأبنائهما ويحتسبان عند الله ما بذلا في تربيتهم وتعليمهم من جهد، وكان خالد يختم هذا الحديث دائما بهذه الجملة: لن أترك لأبنائي ثروة، ولو شئت لتركت لهم مالا كثيرا؛ ولكني سأتركهم غير محتاجين إلى ميراث، ولعلهم يستطيعون أن يؤدوا إلى أبنائهم مثل ما أديت إليهم من المعروف. وكانت جلنار تسمع هذه الجملة فتقع من قلبها موقعا غريبا، فيه عطف على أبيها، وفيه عتب عليه أيضا، إنه لم يترك لأبنائه ميراثا؛ لأنهم أغنياء عن الميراث، ولكنه لم يترك لبناته ميراثا وهن لسن غنيات عن الميراث، ولا سيما من لم تجد منهن زوجا.
الفصل السادس والعشرون
وفي ذات صيف كانت الأسرة كلها مجتمعة، وكان الأمر في الدار قائما على قدم وساق كما يقال، فقد تعمد أبناء الأسرة جميعا أن يلتقوا عند أبويهم، فكان منهم الكهل معه زوجه وبنوه، والشاب معه زوجه التي لم تلد بعد، والشاب الآخر الذي لما يتزوج، والفتى الذي لما يتم الدرس، والصبي الذي لما ينل شهادته الابتدائية، وكانت الأسرة كأحسن ما تكون الأسر فرحا ومرحا، وكان خالد الشيخ كأحسن ما يكون الشيوخ الآباء غبطة وابتهاجا، أحب أوقاته إليه أن يجلس إلى المائدة وحوله هذه القبيلة الضخمة من الأبناء والحفدة وهم يتحدثون في صيحة وجلبة لا يكاد بعضهم يسمع حديث بعض، وأمهم قائمة على رأس المائدة تشرف على غدائهم أو عشائهم، توصي هذا بهذا اللون من الطعام، وتنبه ذاك إلى هذا اللون الذي كان يحبه صبيا، وتحث المقصر في الأكل على أن يأكل، وتحمس الفاتر على أن ينشط؛ وجلنار ذاهبة جائية ومعها أخواتها والخدم يطفن بالصحاف، ويصببن الماء في الأقداح، ويلتقطن من الأحاديث والنكت ما يستطعن، يدخرنه لتلك الساعة التي يجتمع فيها النساء إلى المائدة فيعدنه متندرات به مستمتعات بما يثير في نفوسهن من لذة وابتهاج.
وأيام الأسرة تمضي في هذا الصيف السعيد على خير ما يحب خالد وامرأته، والناس يتحدثون في المدينة بهذه الأسرة الضخمة، وبهذا النشاط الشديد الذي يذيعه أبناؤها في المدينة كلها، فلا يبقى فيها بيت ذو خطر إلا دعا كهول الأسرة وشبابها إلى غداء أو عشاء، ولم تجد الأسرة بدا من أن تلقى الجميل بالجميل، وترد التحية بمثلها أو بأحسن منها، فالولائم متصلة في المدينة، يوما هنا ويوما هناك، وأبناء الأسرة هم مصدر هذا النشاط وسبب هذا الرخاء، ولكن رسالة برقية تصل إلى الأسرة فتحدث فيها شيئا من رضا يمازجه شيء من عجب؛ فقد حملت هذه الرسالة إلى خالد أن صديقه وأخاه سليما سيزور الأسرة من غد، وسيصحبه في هذه الزيارة ابنه سالم، أما الشباب فيسرون لمقدم سالم، هذا الفتى المرح الذي سيزيد إقامتهم بشرا وسرورا، وأما خالد فيسر؛ لأنه سيرى أخاه، ولأنه سيرى أبناءه سعداء مبتهجين، ولكن خالدا يسأل نفسه: ما بال سليم يصطحب ابنه؟ والشباب يتساءلون: ما بال سالم يصحب أباه؟ ثم هم يتساءلون: ما بال هذه الزيارة ينبئ بها البرق ولا تتم مفاجأة كما جرت عادة سالم وسليم؟ فأما «منى» فلم تسأل نفسها عن شيء ولم تجب عما كان يلقى حولها من الأسئلة بشيء، وإنما ظلت هادئة باسمة في وجهها شيء من غموض، ثم يكون الغد ويقبل الزائران، ولكنهما لا يقبلان كما تعودا أن يقبلا، معهما أمتعتهما اليسيرة وبعض ما تعودا أن يحملا من الطرف والهدايا اليسيرة أيضا، وإنما يقبلان هذه المرة ومن حولهما ما يحتاج إلى حمالين كثيرين وما يعيا بحمله هؤلاء الحمالون؛ فألوان من الفاكهة، وضروب مختلفة من الطعام المصنوع، ثم الأرز والسكر والبن وأشياء أخرى لا تكاد تحصى؛ فأما الشباب فيدهشون ولا يقولون شيئا، وإنما ينصرفون إلى سالم يفرحون به ويمرحون معه، وأما خالد فيقول لأخيه: وماذا تركت لأهل المدينة وقد حملت ما كان في سوقها من عروض؟ وأما «منى» فلا تقول شيئا، ولكنها تتلقى هذه الهدايا فرحة بها مبتهجة لها أكثر مما تعودت أن تفرح بالهدايا أو تبتهج، وابتسامتها كما هي، وصمتها باق كما هو، والغموض في وجهها باق كما هو. وأما البنات فلا يحفلن بذلك ولا يكدن يلتفتن إليه؛ فهن مشغولات بما في الدار من نشاط وبما تحتاج إليه الدار من خدمة؛ إلا جلنار فإنها قد حدثت نفسها بشيء وساءلت نفسها عن شيء: أيمكن أن يكون سالم وأبوه قد ذكرا تلك الخطبة القديمة وفكرا في هذا الزواج المنتظر؟ ولكنها لا تجيب عن هذا السؤال، وإنما تترك نفسها معلقة مضطربة، يدفعها الشك إلى هنا وهناك، وهي تألم لهذا الشك الثقيل. ويمضي يوم ويوم والأسرة فيما هي فيه من حياة فرحة مرحة، يزيدها فرحا ومرحا نشاط سالم ودعابة سليم.
ولكن الأخوين يخلوان ساعة بعد الغداء من اليوم الثالث وقد أحس الشباب أن لهذه الخلوة ما بعدها، ولم يلتفت إليها بنات «منى». وأكبر الظن أن منى نفسها قد كانت في غرفة مجاورة تتسمع لما يقول الأخوان، أو تنتظر أن يصل إليها بعض ما يقول الأخوان؛ وأما جلنار فقد لاحظت هذه الخلوة وابتسمت لها ابتسامة غامضة، ومضت فيما كانت فيه من عمل، ولم يعرف قلبها قط من الخوف والرجاء مثل ما عرف في تلك الساعة، ثم يفترق الأخوان، يذهب كل منهما إلى مضجعه ليستريح بعد الغداء، فأما خالد فقد خلا إلى زوجه، وأما سليم فقد خلا إلى ابنه؛ والشباب يتساءلون متضاحكين، وجلنار تسائل نفسها فزعة هلعة دون أن يفطن أحد لما تضطرب به نفسها من فزع وهلع.
Página desconocida