أصابه سهم القدر
فهو صريع محتضر
هل لك فيه من وطر
قالت أم رضوان: ولم تكد هذه المرأة تتم حديثها حتى رأينا أم عثمان قد ثارت مولولة، فنقضت شعرها، ومزقت ثيابها، وجعلت تلطم وجهها، وتضرب صدرها، ونحن نحاول أن نردها إلى الهدوء ونسألها عن أمرها، ولكنها بعد حين تثوب إلى نفسها قليلا وتقول لنا في صوت يقطعه الشهيق، أنا نشر الزهر وعمر أبو يحيى هو أخي! اقرأن تحيتي على زوجي واستوصين بعثمان خيرا؛ فلا بد من أن أرى أخي قبل أن يموت، وما أراني أدركه، ولعلي أعود إليكن وإلى زوجي وابني إذا انقضت أعوام العزاء؛ فالعزاء عندنا لا يكون في الأيام ولا في الأشهر، وإنما يكون في الأعوام الطوال. قالت أم رضوان: وكدنا نظن بصاحبتنا الجنون، ولكن ما راعنا إلا أن رأيناها تقذف نفسها في التنور، فلا نرى لها أثرا ولا نسمع لها حسا، كانت جنية تمثلت لأبي عثمان امرأة فتزوجها وولدت له ابنه عثمان، ثم جاءها النبأ أن أخاها يحتضر فأسرعت للقائه قبل أن يموت، وسلكت إليه أقرب الطرق وهو التنور حين يكون ملتهبا، والجنيات يألفن التنور؛ ولذلك لا ينبغي أن يحمى التنور دون أن يذكر اسم الله عند إشعال النار، فإن ذلك يطرد منه الشياطين، ويؤذن المسلمات بأنه سيحمى فيخرجن منه قبل أن يدركهن شيء من النار.
ولم تكد أم رضوان تبلغ هذا الموضع من حديثها والنساء يسمعن لها مرتاعات ملتاعات، منهن من تمسك الشهيق ومنهن من تدفعه، حتى ثارت نفيسة كأنها الجنية قد نثرت شعرها وقدت ثوبها وأخذت تعول إعوالا متصلا، وتلطم وجهها، وتضرب صدرها، وهي تصيح وا أبتاه وا أماه! ثم تدفع نفسها إلى التنور تريد أن تدخل فيه لتسلك أقرب طريق إلى أبويها، كما دخلت فيه أم عثمان لتسلك أقرب طريق إلى أخيها. هنالك يفيق النساء من خوفهن المتكلف وفزعهن المصطنع ويتكاثرن على نفيسة فيرددنها عن التنور بعد جهد، ثم يحملنها في مشقة شاقة إلى حجرتها، وهي تضطرب بين أيديهن، تلطم هذه وتخمش تلك، وهن على ذلك جاهدات في حملها حتى يبلغن حجرتها، وقد سبقت إحداهن إلى أبيك وهو ذلك الصباح في غرفة أم خالد مغرق في صلاته ودعائه، فإذا دخلت عليه وأنبأته النبأ، أسرع ساخطا إلى حجر نفيسة. حتى إذا رآها ثائرة فاترة لا تستقر ولا تدع من حولها يستقر، دنا منها يريد أن يضع يده على رأسها وهو يقرأ في صوت مرتفع:
قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس ، ولكنه لا يكاد يبلغها حتى تهب كأنها الشيطان مندفعة إليه في عنف آخذة بلحيته أخذا شديدا والشيخ يتراجع فزعا جزعا، وهو يلعن الجن والإنس جميعا. حتى إذا بلغ باب الغرفة قرأ آية الكرسي واستغفر الله العظيم، ثم التفت إلى النساء وقال أوثقنها إن استطعتن ودعنها حتى تهدأ، فلا بد من أن يدركها الإعياء بعد حين.
وقد وفق النساء لإنفاذ أمر الشيخ، ثم تركن نفيسة موثقة في حجرتها معولة تدعو أباها وأمها، وتلعن الذين منعوها من أن تسلك إليهما طريق التنور، وامرأة قائمة من الغرفة غير بعيد تلحظها خائفة وهي تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وينتهي الأمر إلى زبيدة فتسرع إليها، وما تزال بها حتى ترد إليها شيئا من هدوء بعد أن ردت إليها حريتها داخل الحجرة، وهي منذ ذلك اليوم تلزمها لا تكاد تفارقها إلا ريثما تعود إليها بعد أن تعنى بما يمكن أن تعنى به من شئون البيت. أفترين أنك قادرة على أن تسكنيها في دارك وتمنحيها ما تحتاج إليه من الرعاية؟ قالت منى: نعم! يجب أن تأتي وأن تقيم معنا، وأنا واثقة بأنها ستترك المرض وراءها في مدينتكم تلك؛ فقد كانت هذه المدينة عليها شؤما.
وحملت نفيسة بعد أيام إلى دار خالد في مدينته تلك متعبة منهوكة القوى. ولكن «منى» عرفت كيف ترعاها، وترفق بها، وتتلطف لابنتيها حتى رد إليها شيء من عافية، فأقامت في الدار ما شاء الله أن تقيم حية كالميتة، ميتة كالحية، وشبحا على كل حال، لا يكاد من يراها يظن أنها كانت امرأة وأنها كانت أما.
الفصل الثاني والعشرون
وستضعف الأسباب بيننا وبين المدينة التي نشأ فيها خالد ونشأت فيها أسرته، والتي نشأ فيها علي وأسرته أيضا، والتي أقام فيها الشيخ الكبير وخلفه عليها ابنه الشيخ الشاب، ستضعف هذه الأسباب وترث حتى توشك أن تنقطع؛ لأنها قويت بين خالد وبين مدينته التي استقبل فيها الحياة؛ فقد استقر خالد في وطنه الجديد حتى أصبح من أهله، واتصلت المودة بينه وبين أهل المدينة وأهل القرى المجاورة، وأخذت زياراته هو لمدينته تقل وتتباعد، وأخذت زيارات أهل المدينة له تقل وتتباعد أيضا، وجعل الشيخ يمر بالمدينة في طريقه إلى الصعيد فيقيم فيها اليومين أو الثلاثة، ويمر بها في عودته إلى مدينته فيقيم فيها اليوم والليلة، لا يلقى من أهلها كيدا، بل يلقى منهم تجلة وتكريما؛ لأنه ضيف خالد، ولأن إلمامه بالمدينة عيد للفقراء والأغنياء جميعا، وجعل أبو خالد يزور ابنه في الشتاء كل عام، فينفق عنده الشهر أو الأشهر كريما موفورا ناعم البال، وجعل الحاج مسعود يزور ابنته مرتين في العام لا يقيم في كل مرة إلا الأسبوع يحملونه عليه حملا، ثم يعود إلى داره وشيخه وماله.
Página desconocida