وقد اعتادا أن يتركا المدرسة في الفجر نظيفة لامعة دافئة، معدة للبواب الذي يتعهدها بالنهار، ويسيران عائدين إلى بيتهما يراقبان النجوم وهي تخبو في أديم السماء، ويمران بالمخبز حيث تفوح من حجرة الخبيز في الطابق الأرضي رائحة الكعك الطازج، ويجري جوني ويشتري بخمسة سنتات كعكا ساخنا من الفرن، ويتناولان حين يصلان إلى البيت فطورهما، الذي يشتمل على القهوة الساخنة والكعك الدافئ المحلى، ثم يجري جوني خارجا ويشتري صحيفة «أمريكان» الصباحية ويقرأ لها الأخبار، معلقا عليها في سرعة، في حين تنظف هي الحجرات، وفي الظهيرة يتناولان غداء ساخنا يشتمل على طاجن شواء وعجينة بالبيض، أو شيء طيب من هذا القبيل، ويذهبان بعد الغداء ليناما حتى يحين موعد ذهابهما إلى العمل.
وبلغ دخلهما خمسين دولارا في الشهر، وذلك دخل طيب لأناس من طبقتهم في تلك الأيام، وعاشا حياة طيبة مريحة سعيدة حافلة بالمغامرات الصغيرة، وكانا لا يزالان في ريعان الصبا يتبادلان حبا قويا عظيما.
واكتشفت كاتي بعد شهور قليلة أنها حامل، وأثار هذا في نفسها دهشة بريئة وذهولا محيرا، وأنبأت جوني بأنها أصبحت حاملا، وذهل جوني وارتبك أول الأمر، فهو لا يريد لها أن تعمل في المدرسة، ولكنها أخبرته أنها على تلك الحال منذ فترة قبل أن تتأكد من الحمل، وقد كانت تعمل دون أن تعاني شيئا، وأذعن جوني للأمر حين أقنعته أن من الخير لها أن تعمل، واستمرت تعمل حتى أصبح جسمها لا يطاوعها لتكنس تحت الأدراج، ثم أصبحت لا تستطيع أن تفعل شيئا أكثر من الذهاب معه لتؤنسه، وترقد على الأريكة البهيجة التي لم تعد تستخدم لمطارحة الغرام، وأصبح يقوم وحده بكل العمل، ويصنع لها حين تحل الساعة الثانية صباحا شطائر غليظة، وقهوة غليظة أكثر من اللازم، وظلا يشعران بالسعادة الغامرة، بالرغم من أن جوني يزداد قلقا وهما بمضي الأيام.
وبدأت آلامها في نهاية ليلة من ليالي ديسمبر الشديدة البرودة، فرقدت على الأريكة تكتم آلامها، غير راغبة في أن تطلع جوني على الأمر، حتى ينتهي من العمل، وشعرت وهما في طريق العودة إلى البيت بألم يمزق أحشاءها لم تستطع أن تكتمه، فندت منها أنات، وعلم جوني أن الطفل في طريقه إلى النور، وأخذها إلى البيت، ووضعها في السرير دون أن يخلع عنها ملابسها، وغطاها وأرقدها، ثم نزل يجري من المنطقة التي يسكنانها، وذهب إلى السيدة جيندلر القابلة، واستعطفها أن تمضي معه سريعا، وقد أثارته تلك السيدة الطيبة إلى حد الجنون بتمهلها.
كان عليها أن تخرج من رأسها عشرات الأسلاك التي تسوي بها شعرها، ولم تستطع أن تعثر على طقم أسنانها، ورفضت أن تذهب بدونه للقيام بواجبها، وساعدها جوني في البحث عنه، ووجداه أخيرا في كوب ماء على الرف خارج النافذة، وكان الماء قد تجمد على طقم الأسنان فاقتضاهما ذلك أن يذيبا ما تراكم عليه من ثلج قبل أن تضعه في فمها، وعليها بعد الانتهاء من ذلك أن تصنع تعويذة من قطعة من سعف النخيل مباركة، أخذتها من الهيكل في يوم أحد الزعف، وأضافت إلى ذلك شارة للأم المباركة وريشة صغيرة زرقاء من ريش الطير، وشفرة مكسورة من مطواة وغصنا من بعض الأعشاب، وربطت تلك الأشياء جميعا بقطعة خيط قذرة، أخذتها من مشد كان يخص امرأة وضعت توأمين، بعد ولادة لم تستغرق أكثر من عشر دقائق، ورشت التعويذة كلها بالماء المقدس الذي زعم الناس أنه خرج من بئر في بيت المقدس، قيل إنه الماء الذي أطفأ به يسوع ظمأه ذات مرة، وشرحت للرجل الثائر أن تلك التعويذة خليقة بأن تخمد الآلام، وتجلب له بكل تأكيد طفلا جميلا بعد ولادة سهلة، وأمسكت أخيرا بكيسها الموضوع من جلد التمساح المألوف لكل من يسكن الحي، والذي يعتقد كل الأحداث الصغار أنه الكيس الذي ولدوا فيه جميعا وهم يرفسون أمهاتهم، وأصبحت القابلة مستعدة للخروج.
وأخذت كاتي تصرخ من الألم حين وصلا إليها، وقد امتلأت الشقة بنساء الجيران اللائي وقفن حولها يصلين، ويستعدن ذكرى ما مررن به من خبرات في ميدان الولادة، وقالت واحدة: حين وضعت طفلي «وينسنت» كنت ...
وقالت أخرى: كنت أصغر منها سنا، وحين ...
وأعلنت امرأة ثالثة في فخر: إنهم لم يتوقعوا لي أن أخرج سليمة من الولادة، ولكن ...
ورحبت النساء بالقابلة وأخرجن جوني بعيدا عن المكان ، فجلس تحت ظلة البيت يرتعد كلما ندت صرخة من كاتي، وكان مرتبكا لذلك الأمر الذي حدث فجأة، وبلغت الساعة السابعة صباحا، وصراخها لا يزال يطرق أذنيه بالرغم من أن النوافذ كانت مغلقة، وكان الرجال يمرون وهم في طريقهم إلى أعمالهم، يتطلعون إلى النافذة التي ينبعث من خلفها الصراخ، ثم ينظرون إلى جوني الذي تكوم تحت الظلة، وترتسم على وجوههم نظرة هم واكتئاب.
وقضت كاتي ذلك اليوم في الوضع، ولم يستطع جوني أن يفعل شيئا! أجل لم يكن في مقدوره أن يفعل أي شيء، ولم يستطع عند حلول الليل أن يحتمل الأمر أكثر من ذلك، فذهب إلى بيت أمه طلبا للمواساة، وحين أنبأها أن كاتي ستلد طفلا، تعالت صرخاتها حتى كادت تشق عنان السماء.
Página desconocida