فلما مضت سيسي أخبرت فرانسي أمها بالرجل المسن الذي رأته في محل لوشر بقدمه المنفرة، وقالت الأم: هراء، إن الشيخوخة ليست مأساة على هذا النحو، وكان من الممكن أن تكون كذلك لو أنه كان الرجل المسن الوحيد في العالم، ولكن هناك رجالا مسنين آخرين يؤنسونه، وإن المسنين ليسوا أشقياء، فهم لا يتمنون الأشياء التي نريدها، ولكنهم يريدون أن يشعروا بالدفء فحسب، ويجدوا طعاما لينا يأكلونه، ويتذاكروا الأمور معا، لا تكوني بلهاء إلى هذا الحد، فلو أن ثمة شيئا واحدا معلوما لكان هو أننا سوف نصبح مسنين في يوم من الأيام، فوطني نفسك على هذه الفكرة بأسرع ما في وسعك.
وكانت فرانسي تعلم أن أمها على صواب، ولكن ... ولكنها كانت تسعد حينما تتكلم أمها عن شيء آخر، وفكرت هي وأمها: أي نوع من المأكولات يمكن أن يصنعاه من الخبز البائت في الأسبوع المقبل؟
وكانت أسرة نولان تكاد تعيش على ذلك الخبز البائت، والأصناف العجيبة التي كانت كاتي تستطيع أن تصنعها منه! كانت تأخذ رغيفا من الخبز البائت وتصب عليه ماء مغليا، وتقلبه حتى يصبح عجينة، ثم تطيبه بالملح والفلفل والصعتر والبصل المفروم وبيضة (إذا كان البيض رخيصا)، ثم تخبزه في الفرن، وحينما ينضج ويصبح داكن اللون، فإنها تصنع مملوحة من نصف قدح من عصير الطماطم وقدحين من الماء المغلي، وتتبل مزيجا من القهوة الغليظة بإضافة الدقيق إليها، ثم تصب ذلك فوق الطعام الناضج. وكان الصنف طيب المذاق ساخنا، لذيذا، يبقى مدة طويلة دون أن يفسد، وكان ما يتبقى منه يقطع قطعا رقيقة في اليوم التالي، ويحمر في شحم الخنزير.
وكانت الأم تصنع كعكعة خبز لذيذة جدا من قطع الخبز البائت والسكر والقرفة وتفاحة ثمنها بنس واحد، قطعت شرائح رقيقة، فإذا تم نضجها حتى أصبح لونها داكنا فإنها تضيف إلى سطحها السكر المذاب، وفي بعض الأحيان كانت تصنع ما تسميه «المفتفتة»، وهو اسم إذا كل المرء في فهمه، فإنه يعني شيئا صنع من فتات الخبز الذي يلقى غالبا في المهملات، وكانت الأم تضع فتات الخبز في عجينة صنعت من الدقيق والماء والملح وبيضة، ثم تحمره في شحم غزير، وأثناء التحمير تنطلق فرانسي مهرولة إلى مخزن الحلوى، وتشتري بما يساوي بنسا قطعة من الحلوى الصلدة الداكنة اللون، تسحق في الهاون ثم تذر فوق الفتات المحمر قبل أكله مباشرة، ولم تكن البلورات تذوب تماما، وهذا ما يجعلها رائعة.
وكان عشاء ليلة السبت هو الأكلة المشهودة، وكانت أسرة نولان تعد لحما محمرا، وقد صنعت الأم من رغيف من الخبز البائت عجينة بالماء الساخن، ومزجتها بما يساوي عشرة سنتات من شرائح اللحم، تضاف إلى ذلك بصلة مقطعة مع ما يساوي بنسا من البقدونس المفري، ثم صنعت من ذلك كرات صغيرة حمرتها ثم قدمتها مع صلصة الطماطم الساخنة، وكانت هذه الكرات من اللحم تسمى المقانق، بل لقد تحدث أضحوكة كبيرة لفرانسي ونيلي.
وكان معظم اعتمادهم في معيشتهم على تلك الأصناف المصنوعة من الخبز البائت واللبن المركز والقهوة والبصل والبطاطس، ويقترن بهذا دائما شيء يساوي بنسا يشترى في اللحظة الأخيرة، ويضاف لفتح الشهية، وكانوا يشترون الموز في بعض الأوقات، ولكن فرانسي كانت نفسها تهفو دائما إلى البرتقال والأناناس، وخاصة اليوسفي الذي كانت تحصل عليه في عيد الميلاد فحسب.
وفي بعض الأحيان حينما يتبقى معها بنس كانت تشتري به حلوى مكسرة، وكان البائع يصنع بوقا على هيئة كيس من قطعة من الورق المطوي يملؤه بقطع من الحلوى التي تكسرت في الصندوق، ولا يمكنه أن يبيعها بعدئذ كحلوى سليمة، وكانت القاعدة التي تؤمن بها الأم هي: إذا كان معك بنس فلا تشتر حلوى أو كعكا، وإنما اشتر تفاحة، ولكن أي شيء كانت التفاحة؟ لقد وجدت فرانسي أن البطاطس قبل أن تطهى لها طعم التفاحة، وهي تستطيع أن تحصل على البطاطس دون عناء.
ومع ذلك كانت تمر بفرانسي أوقات لا تستطيب فيها شيئا مهما بلغ بها الجوع، وخاصة قرب نهاية فصول الشتاء الطويلة الباردة المظلمة، وكان ذلك هو أفضل وقت لصنع المخللات، إذ كانت تأخذ بنسا وتذهب إلى محل في شارع هور، ليس به إلا مخلل مما يصنعه اليهود، يسبح في محلول مملح ثقيل أضيف إليه كثير من التوابل، وكان يتصدر المحل أمام الأحواض شيخ وقور له لحية طويلة بيضاء ويلبس قلنسوة سوداء، وتظهر لثته خالية من الأسنان، يمسك بعصا كبيرة من الخشب، لها أطراف مسننة كالشوكة، وطلبت فرانسي نفس طلب الأطفال الآخرين: أعطني ببنس مخللا من المخلل البراق.
ونظر اليهودي الشيخ إلى الطفلة الأيرلندية نظرة قاسية بعينيه الصغيرتين الناريتين، وقد ظهر فيهما الحقد، وأحاطت بهما جفون محمرة اللون: اغربي عن وجهي! اغربي!
وبصق نحوها كارها كلمة «براق»، ولم تكن فرانسي تقصد بذلك سوءا، ولم تكن أيضا تعلم مدلول الكلمة حقا، فقد كانت اصطلاحا لشيء أجنبي، ولكنه محبوب، وكان اليهودي يجهل ذلك بلا شك، وكانت فرانسي قد سمعت أنه يحتفظ بحوض واحد يبيع منه لغير اليهود فحسب، وقيل إنه كان يبصق في هذا الحوض مرة كل يوم، أو يفعل ما هو شر من ذلك.
Página desconocida