فأشار الرجل إلى المدينة المرصعة بالأضواء وقال: هنا وهناك، تقع أحداث؛ تنشأ علاقات، تتفجر خصومات، أما بالنسبة للراصد من هذه النافذة فلا يحدث شيء على الإطلاق! - لعله ضعف رؤية يا سيدي!
فضج البهو بالضحك، وضحك الرجل أيضا وقال: الشباب مرحلة خطيرة، يأنف من المهادنة ويسخر من الحكمة، فليس أمامه إلا إحدى طريقين؛ فإما الانتحار أو الثورة.
وتساءل الصديق الأول: والحب، أليس طريقا أيضا؟
ولكن الشاب تساءل: الانتحار أو الثورة؟ - وكلاهما شيء واحد للراصد من النافذة. - النافذة! - نبرتك ساخرة! خبرني بصدق عما جاء بك إلى هنا. - المشاركة في عيد ميلادك ... - وماذا أيضا؟ - ربما رغبت أيضا في شيء من الراحة. - علامة سيئة. - سيئة؟ - تقطع بأنك غارق في الهموم. - لا تخلو حياة من ذلك. - المهم هو موقفنا منها، أليس كذلك؟ - أن نواصل الصراع. - أرجو ألا تردد أمامي شعارات محفوظة. - لا أخجل من ترديد الشعارات إذا كانت مجدية. - وأنا رجل مجرب، وقد حققت لنفسي نصرا على الدنيا، ومن واجبي أن أفضي بالسر لمن هو في حاجة إليه. - أشكرك. - ألا تصدقني؟ - إني متلهف على معرفة السر.
وقال أكثر من صوت: ونحن متلهفون أيضا.
فقال الرجل: في الأصل كانت الهموم. - في الأصل؟ - بدأت التجربة والهموم تقصم ظهري. - أي هموم من فضلك؟ - لا أهمية لذلك، الفراق .. العقوق .. الدنس .. أشجان الوطن .. زلزال في يوغسلافيا، لا تهتم بالأسماء، كانت الهموم قد قصمت ظهري. - وبعد؟ - استولى علي الإعياء والإرهاق، وذات يوم وجدتني أطل على المدينة من هذه النافذة، عند ذاك ألهمت الحقيقة دفعة واحدة ... - الحقيقة؟ - وهي أن الهموم لا وجود لها. - أين ذهبت؟ - لم أر إلا مدينة مجردة. - المدينة نفسها تختفي إذا ارتفعت درجة مناسبة. - مدينة مجردة ولا أثر للهموم. - محض خيال. - أبدا. - الواقع أن الهموم تستقر في أعماق نفوسنا. - ولكنها تتلاشى إذا نظرت من عل. - مطلب مستحيل. - ولكني حققته وانتصرت. - أتعني أنه لم يعد يحزنك شيء؟ - بلى ... - هذا يعني أنك لم تعد من البشر. - أكرر التحذير من ترديد الشعارات. - ولكنها الحقيقة. - لا حقيقة إلا تجربتي الظافرة. - تخيل - لا سمح الله - أنك فقدت أعز ما تملك. - جربت أفظع من ذلك، أتحداك أن تميز من موقفك هذا بين القبر والبيت. - ذاك عزاء عقلي لا شأن له بالأعصاب. - الأعصاب تذعن في النهاية للنافذة. - لا أصدق ...
فقالت زوجة الصديق الثاني: يجب أن تصدقه.
فقال الشاب للرجل: إنه يعني لو صح أنك لم تعد حيا. - أو أنني أحيا فوق قمة الحياة. - لعلك لم تعرف ضراوة الحياة الحقيقية. - عجنت بها وخبزت. - إذن فأنت أسعد رجل في العالم. - نحن نتحدث عن الحكمة لا السعادة. - قد تكون حكيما ولكنك - ومعذرة - لست حيا. - ما زالت أنفاسي تتردد. - حكمتك خليقة بقتل بواعث الحياة الحقيقية. - ها قد عدنا إلى الشعارات. - بقتل التقدم. - لم أخل يوما بواجب. - ولم تؤدي أي واجب؟ - لأنني حي ولأنه واجب! - إنك تطرح علينا لغزا؟ - بدأت تفهمني. - ولكن حديثك يخاصم الواقع ويبدو معقدا غير مفهوم. - قولك هذا يمكن أن يصدق على أي شيء في الحياة. - يؤسفني أنني لا أستطيع الإفادة من حكمتك. - أعترف لك بأنني قلقت عندما وقع بصري عليك. - لم؟ - شيء حدثني بأنك مقدم على شيء خطير! - أي شيء هذا؟ - أصارحك بأن خاطر الانتحار خطر لي. - فكرة بعيدة عن الواقع بعد هذه النافذة عن الأرض. - ولذلك أطلعتك على السر الذي يقتل فكرة الانتحار. - شكرا، لا حاجة بي إليه، ثم إن لي وسائلي الخاصة. - عظيم .. عد إلى مجلسك واشرب.
وتأهب الجميع لشتى التعليقات. أما الرجل فلم يبرح مكانه أمام النافذة، ثم صعد فوق مقعد قريب.
أشاعت حركته الدهشة، فتساءل الصديق الأول: أتنوي إلقاء خطبة؟
Página desconocida