وكان الألم قد حرره من الحرج والحياء والخوف، حتى خوفه من عثمان قد اندثر، فقال: أفكر في تفجير الذرة، فإن تعذر ذلك ففي القتل، فإن تعذر ذلك ففي الانتحار!
فضحك عثمان، ثم قال معترضا: ولكن مكتبك ... - لقد عاشرتني مدة تكفي لأن تفهم. - حدثني عما تنوي أن تفعله.
فقال بتصميم: آن الأوان لأن أفعل ما لم أفعله في حياتي، وهو ألا أفعل شيئا. - لا شك أنك تمزح. - لم أكن جادا كما أكون اليوم.
فتراجع عثمان أمام تجهمه الصارم، وقال برقة: ألا تفكر في استشارة طبيبك؟ - لا أستشير أحدا فيما يجهله.
وزحف صمت مرهق حتى خرقه عمر متسائلا: وأنت هل تقصر جهودك على المحاماة؟ - أجل، ولكني لا أكف عن التفكير. - هل تنقلب مرة أخرى خطرا يهدد الأمن؟
فقال باسما: هذا شرف لا أستطيع أن أدعيه بعد.
الحق أن ما يكتنفه من طنين يمنعه من حسن الاستماع إلى الصمت. لا بد من الذهاب. وهو بحال من التوتر يسهل معها الجهر بأي سر؛ لذلك قال لزينب إنه سيوكلها عن نفسه في التصرف فيما يملك، وإنه سيختفي عن مكتبه للعاملين فيه. وأظلمت عيناها كما تظلمان تحت الضربات التي تتلقاها واحدة بعد أخرى. وقال لها إنه صمم على ألا يشغل نفسه بشيء، وأن يزيح الدنيا عن عاتقه. ولها أن تعتبر الحال مرضا واضحا أو غامضا، ولكنه على أي حال لا يجد سبيلا أفضل من الخلو إلى نفسه بعيدا عن الناس. وليس في الموضوع امرأة، يجب أن تصدقه، ولا لهو أو عبث، ولكنها أزمة طاحنة بلغت ذروتها، ولن تنفرج إن كان مقدرا لها أن تنفرج إلا بالطريقة التي اختارها. وتوسلت زينب قائلة: ولقد تركناك وشأنك، وإذا كنت كرهت العمل فاهجره، وإذا كان الحنين يراودك على الفن فاستجب له، ولكن لا تهجرنا إكراما لأبنائك.
وخزه الكلام، ولكنه قال إنه لا فائدة ترجى من ثنيه عن عزمه الذي يسيره كالقضاء، فقالت: لقد حدثني مصطفى طويلا، وآلمني أنك صارحته بما تخفيه عني، ولكني انتحلت لك بعض العذر أمام نفسي لغموض الحال التي تعانيها، ولا تؤاخذني على عدم فهمي لما تبحث عنه من معنى لوجودك أو للحياة، ولكني لا أجد علاقة بين ذلك وبين انقلابك على عملك، ومستقبلك، وأسرتك. لماذا لا تعود إلى استشارة الطبيب؟ - لذلك لم أصارحك بكل شيء. - ولكن المرض ليس بعيب. - إنك تظنين بي الجنون.
فبكت حتى اضطرب جذعها، ولكنه لم يلن، وقال بتصميم: الحل الذي اخترت فيه الخير لنا جميعا.
فقالت بضراعة: اذهب إلى أي مكان حتى تسترد راحتك النفسية، ثم عد إلينا. - ربما حدث ذلك، ولكن من الأفضل أن نوطن النفس على ذهاب لا رجعة منه.
Página desconocida