[المجلد الاول]
تقديم الكتاب
بقلم الأستاذ الدّكتور خالد عبد الكريم جمعة مدير معهد المخطوطات العربيّة الحمد لله وحده لا شريك له، والصّلاة والسّلام على رسوله النّبيّ العربي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فحين طلب إليّ الأستاذ محمود الأرناؤوط أن أقدم لهذا الكتاب- الذي يقوم بتحقيقه، وتتولى طبعه دار ابن كثير بدمشق- وجدت نفسي في حيرة شديدة، فماذا يمكنني أن أقول في كتاب بذل محققه ما استطاع من جهد في ضبط نصه والتعليق عليه، وقدم له بمقدمة وافية تحدث فيها عن المؤلّف والكتاب باسطا القول فيهما، فلم يترك زيادة لمستزيد.
إنّ خير ما يمكن قوله: إنّ هذا العمل يزكّي نفسه، فهو عمل سار فيه محققه وفق منهج واضح في التحقيق والتعليق، فبدأ بنسخ الكتاب ومقابلة المخطوطة بالنسخة المطبوعة، ثم أخذ في قراءته على والده مرة أخرى، فضبط الأعلام وخاصة ما يحتاج منها إلى ضبط، وخرّج الآيات القرآنية والأشعار. ثم أضاف في مواطن عديدة- وفي هوامش الكتاب- بعض ما يحتاج إليه القارئ من مهمات الحوادث التي فات المؤلّف ذكرها، مع تتبع للنصوص المنقولة للتأكد من صحتها، وفعل ذلك كله في أناة وصبر ودقة.
وما أحوجنا في هذه الأيام إلى نشر نصوص تراثنا بهذه الطريقة، بعد أن كثر نشر النصوص بصورة سيئة على أيدي بعض المحققين من حملة الشهادات. وقد رأيت من بعض هؤلاء عجبا، حيث يشوهون النصّ تشويها،
1 / 5
ولو أنهم تركوه في خزائن المكتبات مخطوطا لكان خيرا لنا ولهم.
وما أحوجنا أيضا إلى نشر كتب التاريخ الإسلامي التي ما زالت مخطوطة وإعادة نشر ما نشر منها غير محقّق، لما لهذه الكتب من أثر في فهم تاريخنا وتحليل أحداثه تحليلا سليما، بعيدا عن روح العصبية والتحامل.
إن قيام الأستاذ محمود الأرناؤوط بنشر هذا الكتاب يعدّ خدمة جليلة للمهتمين بالتراث العربي الإسلامي، وإسهاما منه في تقديم نصّ ذي قيمة علمية كبيرة إلى قرّاء العربية.
أما والد المحقق الأستاذ المحدّث الشيخ عبد القادر الأرناؤوط- المشرف على تحقيق الكتاب- فقد خرّج أحاديث الكتاب وفق الأسس العلمية الصحيحة في تخريج الحديث، ولا غرو فهو أحد المحدّثين المتمكنين القلائل في أيامنا، وقد يعجز مثلي عن أن يفيه ما يستحقّ من الثناء، فكفاه فخرا أن يكون محقق «جامع الأصول في أحاديث الرسول» لابن الأثير، وأحد محقّقي «زاد المعاد في هدي خير العباد» لابن قيم الجوزية، فجزاه الله كل خير على ما قدم إلى الإسلام وأهله.
وإني لآمل أن يستمر محقق هذا الكتاب الأستاذ محمود الأرناؤوط في بذل الجهد لنشر نصوص أخرى، خدمة لتراثنا العربي الإسلامي.
والحمد لله رب العالمين الكويت: ٢٧/ ربيع الأول/ ١٤٠٦ هـ الموافق ٩/ ديسمبر/ ١٩٨٥ م الدّكتور خالد عبد الكريم جمعة
1 / 6
بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدّمة المحقّق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ٣: ١٠٢ (آل عمران: ١٠٢) .
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيرًا وَنِساءً، وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسائَلُونَ به وَالْأَرْحامَ، إِنَّ الله كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ٤: ١ (النساء: ١) .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا ٣٣: ٧٠- ٧١ (الأحزاب:
٧٠، ٧١) .
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله ﷿، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أحمدك اللهمّ، يا من حبّبت إلى نفسي طلب العلم، ويسّرت لي أسباب المعرفة بفضلك وكرمك.
1 / 7
وأصلّي وأسلّم على رسولنا محمد، معلّم النّاس الخير، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
وبعد: فإن من عظيم فضل الله ﷿ عليّ، أن ولدت في بيت من البيوت التي يذكر فيها اسم الله تعالى صباح مساء، ويتداول العلم في جنباته دراسة وتدريسا آناء الليل وأطراف النهار، وعلى الخصوص من ذلك كتاب الله ﷿، وسنّة نبيّه المطهرة، مما كان له أكبر الأثر في منهجي وتوجهي في الحياة.
وعميد هذا البيت رجل جنّد نفسه للعمل في خدمة مصنفات علماء الأمة الأقدمين ذات الصلة بكتاب الله ﷿، وسنّة نبيّه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، والتصدّي لنصح الناس في المساجد والمجالس في الحلّ والترحال منذ أكثر من ثلاثين عاما، فكنت أينما دخلت في حجرات دارنا- وأنا طفل صغير- ألتقي بكتب والدي، وأوراقه، وأقلامه.
وما من مرة اصطحبني معه فيها إلا وكانت وجهتنا إلى إحدى المكتبات، العامة منها أو الخاصة، وكذلك الحال في زيارة أصدقائه وزملائه، فقد كان معظمهم من أهل العلم والفضل.
ولقد فرض واقع وفاة أمي- ولمّا أبلغ الرابعة من عمري- على أبي أن يجعل منّي رفيقا صغيرا له، وذلك لعدم وجود إخوة لي في تلك الحقبة من الزمن ألهو معهم وأمرح، فلم تخلف أمي سواي، رحمها الله تعالى وأسكنها فسيح جنانه، ولم يكن في الدار غير جدتي لأبي، وكانت متقدمة في السن، فكان حرص أبي على عدم إرهاقها بخدمتي يحمله على اصطحابي معه إلى مكتبه الذي كنت ألتقي فيه مع أعداد أخرى كبيرة من الكتب تآلفت هنا وهناك في المكتبات الجدارية المنتشرة في كل غرفة من غرفه.
وفي ذلك المكتب أيضا التقيت بعدد كبير من العلماء والباحثين والطلبة من زملاء والدي وأصدقائه ومساعديه، وفي مقدمتهم صاحبه وزميله ورفيق دربه
1 / 8
الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط، الذي كان في طليعة من أسهم في تعليمي وتثقيفي وإرشادي وتوجيهي في مراحل مختلفة من الحياة، جزاه الله تعالى خير الجزاء وأحسن مثوبته يوم الدّين.
وكل هذه الأسباب جعلتني أقترب من الكتاب أكثر فأكثر، حتى أصبحت أسيرا طيّعا له، فكنت لا أبرح كتابا، حتى أتناول غيره، ولا أغادر مجلة، حتى أتناول غيرها، وكنت أشغل وقتي في أثناء ركوبي في السيارات والحافلات بقراءة الصحف في أكثر الأحيان.
وكانت أسعد الأوقات في حياتي، هي تلك الساعات التي كنت أقضيها في مساعدة والدي حفظه الله بتصحيح تجارب الطبع لبعض الكتب التي عني بتحقيقها منذ سنوات طويلة.
ثم شدّتني الصحافة إليها، فنشرت عددا من المقالات المنوعة في عدد من المجلات في سورية وغيرها من الأقطار، ثم صنّفت من مجموع ما تخيّرته من تلك المقالات ثلاثة كتب، هي: «الكشكول الصغير»، و«عناقيد ثقافية»، و«زهرات الياسمين» .
وكنت في أثناء هذه الفترة التي قضيتها في الاهتمام بالصحافة وما يتصل بها، أعدّ العدّة للعمل بين يدي أبي في خدمة كتب التراث العزيز.
ولما تأكد لأبي حسن نيّتي في الإقدام على ولوج عالم التراث، وجّهني نحو خدمة كتاب «النصيحة في الأدعية الصحيحة» للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي، ولا تسأل عن السعادة التي غمرتني وأنا أعمل به، فقد شعرت بأن أحلامي قد تحققت مرة واحدة، وقد صدر الكتاب فيما بعد عن مؤسسة الرسالة في بيروت، وبذلك انتقلت إلى مرحلة جديدة في الحياة، مرحلة الانقطاع الكامل إلى العمل في خدمة كتب التراث. ولقد كانت سعادة أبي في انصرافي إلى العمل في خدمة كتب التراث أعظم من سعادتي، وكيف لا يكون سعيدا من يرى ولده الأكبر يسير على الطريق ذاتها التي سار عليها من قبل؟ الأمر الذي يجعله على يقين بأن الراية التي حملها لن تسقط- بإذن الله- من بعده.
1 / 9
ثم تابعت رحلتي في عالم التراث، فأخرجت كتاب «إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين» لابن طولون محققا للمرة الأولى، وتبعه «عمدة الأحكام» للحافظ عبد الغني المقدسي، و«الأمصار ذوات الآثار» للذهبي، و«شرح الأربعين النووية»، فكان عملي في هذه الكتب على صغرها قد متّن صلتي بفن التحقيق، وجعلني أنطلق إلى آفاق بعيدة من التفكير في خدمة مصنفات أكبر منها حجما، وأبعد منها أثرا، فكان أن وقع اختياري على هذا الكتاب- «شذرات الذهب» - لجملة أسباب:
أولها: لأنه من كتب التاريخ، وهو الفن الذي أحببته منذ الصغر، وازداد حبّي له أثناء خدمتي لكتاب «إعلام السائلين»، ومن ثم «الأمصار ذوات الآثار» .
وثانيها: لاحتوائه على تراجم مشاهير المحدّثين وغيرهم من أعيان الزمان، وأنا من المغرمين بدراسة سير الرجال، لما فيها من العبر والفوائد.
وثالثها: لكونه يؤرّخ بإيجاز لفترة زمنية طويلة تمتد لعشرة قرون، الأمر الذي يجعله من أفضل التواريخ المختصرة في نظري.
فعرضت رغبتي في خدمة الكتاب على والدي حفظه الله، وشرحت له رأيي بالكيفية التي يمكن أن يخرج الكتاب على أساسها، فأعجب بالفكرة، وشجعني على المضيّ في تنفيذها، فقلت له: إن انتقال فكرة تحقيق الكتاب إلى حيّز التنفيذ يتوقف على موافقتك على الإشراف على تحقيقه، ومراجعته، وتخريج ما يرد فيه من الأحاديث، فوافق حفظه الله على القيام بذلك، ومن ثم تفضل بالنظر في المنهج الذي وضعته لتحقيق الكتاب فأقرّه بعد مناقشة تناولت عددا من الفقرات فيه.
وكان من توفيق الله تعالى ورعايته، أن قيّض لهذا الكتاب ناشرا فاضلا، عمل في طبع كتاب الله ﷿ ونشره لفترة طويلة، وأسهم في انتشار عدد كبير من كتب التراث، هو الأستاذ علي مستو صاحب «دار ابن كثير»، الذي قدّم لنا كلّ ما يمكن أن يسهم في ظهور الكتاب على أفضل وجه، جزاه الله تعالى خير الجزاء، وجعل تجارته رابحة في الدّنيا والآخرة.
1 / 10
وحين تم تحقيق هذا المجلد من الكتاب، طلبت من والدي أن يتولى كتابة مقدمة التحقيق، فاعتذر وقال: إن الكلام عن تحقيق الكتاب من مهام محقّقه، وهو أعلم الناس بما تم من العمل فيه، ولا يليق بالمشرف أن يضع يده على أيّ من حقوق المحقّق، ولو كان ابنه، أو أحد تلامذته المقرّبين.
وأمام واقع الحال هذا توجهت إلى الله تعالى بالسؤال، أن يعينني على كتابة مقدمة تليق بهذا الكتاب العظيم وصاحبه.
وقد رأيت من المفيد أن تتضمن هذه المقدمة نبذة عن أهم المؤرّخين الذين نقل عنهم المؤلف مباشرة، أو بالواسطة، والتعريج على دراسة حياة المؤلف، ثم الكلام عن القيمة الفنية لهذا الكتاب، والمنهج الذي اتبع في تحقيقه، وذلك بالتشاور مع والدي حفظه الله.
ومن ثم قسّمت المقدمة إلى أربعة فصول هي:
١- مشاهير المؤرخين السابقين لابن العماد.
٢- ابن العماد.
٣- القيمة الفنية لكتاب شذرات الذهب.
٤- عملنا في تحقيق الكتاب.
وقد استعنت في إعداد هذه المقدمة بكتب جمهرة من العلماء من متقدمين ومحدثين.
فأسأل الله ﷿ أن يجعل عملنا هذا متقبلا، وأن يكتب فيه النفع للناس جميعا، وأن يعيننا على إتمام تحقيق بقية الكتاب، إنه خير مسؤول
.
1 / 11
الفصل الأول مشاهير المؤرخين السّابقين لابن العماد
لعلّ أهم ما ينبغي عليّ التأكيد عليه في مستهل هذا الفصل، أن الكلام محصور فيه على المشاهير من علماء التاريخ عند المسلمين ممّن تقدموا ابن العماد واستفاد منهم.
وليس المطلوب أن نستقصي جميع المؤرخين من أصحاب المصنفات التي نقل عنها المؤلف، وإلّا لطال الكلام، وتشعب الموضوع، وخرج بنا عن البرنامج المعدّ لهذه المقدمة بعد دراسة مطولة.
وليس المطلوب من هذا الفصل أيضا أن يحدّث القارئ عن علم التاريخ كفنّ من الوجهة التاريخية، ففي بعض ما كتب في هذين الجانبين من الدراسات والمصنفات كفاية لمن يريد التوسّع في دراسة هذا الموضوع [١] .
وقبل المضي في الكلام عن مشاهير المؤرخين موضوع حديثنا، لا بدّ لنا من الوقوف قليلا عند بعض ما قاله عدد من العلماء المتخصصين في فن التأريخ، وذلك لتقديم إلمامة سريعة بهذا الفن للقارئ الكريم.
_________
[١] انظر على سبيل المثال: «مصطلح التاريخ» للدكتور أسد رستم، و«التاريخ العربي والمؤرخون» للدكتور شاكر مصطفى، و«علم التاريخ عند المسلمين» للدكتور فرانز روزنثال، و«إلمامة بالتاريخ عند العرب» الفصل الذي ألحقه الأستاذ عبد الحميد عبادي بكتاب «علم التاريخ» للأستاذ. ج. هرنشو، و«موارد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد» للدكتور أكرم ضياء العمري.
1 / 13
قال ابن منظور: التأريخ: تعريف الوقت، والتوريخ مثله، أرّخ الكتاب ليوم كذا: وقّته، والواو فيه لغة، وزعم يعقوب [١] أن الواو بدل من الهمزة، وقيل: إن التأريخ الذي يؤرخه الناس ليس بعربي محض، وإن المسلمين أخذوه عن أهل الكتاب، وتأريخ المسلمين أرّخ من زمن هجرة سيدنا رسول الله ﷺ، كتب في خلافة عمر ﵁، فصار تاريخا إلى اليوم [٢] .
وقال ابن خلدون: اعلم أن فن التأريخ فن عزيز المذهب، جمّ الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه [٣] في أحوال الدّين والدّنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثّبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به [٤] عن المزلّات والمغالط، لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثّا أو سمينا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات، إذ هي مظنّة الكذب، ومطيّة الهذر، ولا بدّ
_________
[١] هو يعقوب بن إسحاق بن السّكّيت، أبو يوسف، أحد أئمة اللغة والأدب، أصله من خوزستان، تعلم في بغداد، واتصل بالمتوكل العباسي فجعله في عداد ندمائه من أهم مصنفاته كتابه «إصلاح المنطق» قال المبرد: ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن منه. مات سنة (٢٤٤) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (٨/ ١٩٥) .
[٢] «لسان العرب» «أرخ» (١/ ٥٨)، وانظر «تاج العروس» للزبيدي «أرخ»، و«الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ أهل التأريخ» للسخاوي ص (٦)، و«فتح الباري» لابن حجر (٧/ ٢٦٧- ٢٦٨) .
[٣] أي يطلبه.
[٤] أي يعدلان به. انظر «لسان العرب» لابن منظور «نكب» (٦/ ٤٥٣٤) .
1 / 14
من ردّها إلى الأصول، وعرضها على القواعد [١] .
وقال السخاوي: [التاريخ] في الاصطلاح: التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال، من مولد للرواة والأئمة، ووفاة، وصحة، وعقل، وبدن، ورحلة، وحج، وحفظ، وضبط، وتوثيق، وتجريح، وما أشبه هذا، مما مرجعه الفحص عن أحوالهم في ابتدائهم ... ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة، من ظهور ملمّة، وتجديد فرض، وخليفة، ووزير، وغزوة، وملحمة، وحرب، وفتح بلد وانتزاعه من متغلّب عليه، وانتقال دولة، وربما يتوسع فيه لبدء الخلق، وقصص الأنبياء، وغير ذلك من أمور الأمم الماضية، وأحوال القيامة ومقدّماتها مما سيأتي، أو دونها كبناء جامع، أو مدرسة، أو قنطرة، أو رصيف، أو نحوها مما يعمّ الانتفاع به مما هو شائع مشاهد، أو خفي سماوي، كجراد، وكسوف، وخسوف، أو أرضي، كزلزلة، وحريق، وسيل، وطوفان، وقحط، وطاعون، وموتان، وغيرها من الآيات العظام، والعجائب الجسام.
والحاصل: أنه فنّ يبحث عن وقائع الزمان، من حيثية التعيين والتوقيت، بل عمّا كان في العالم.
وأما موضوعه، فالإنسان والزمان، ومسائلة أحوالهما المفصّلة للجزئيات تحت دائرة الأحوال العارضة الموجودة للإنسان، وفي الزمان.
وأما فائدته، فمعرفة الأمور على وجهها. ومن أجلّ فوائده أنه أحد الطرق التي يعلم بها النسخ في أحد الخبرين المتعارضين، المتعذّر الجمع بينهما [٢] .
وقال الدكتور شاكر مصطفى: تلك العوامل والحاجات التي أوجدت علم التاريخ في الإسلام لم تأت كلها مجتمعة في وقت واحد، ولكن سبق بعضها بعضا، وتعاون بعضها مع بعض على مدى يزيد على قرنين، ما بين أواسط القرن الأول الهجري، حتى أواسط القرن الثالث، كما أنها لم تكن متساوية في
_________
[١] «مقدمة ابن خلدون» ص (٩- ١٠) .
[٢] «الإعلان بالتوبيخ» ص (٧) .
1 / 15
التأثير، فبعضها لعب دوره في ناحية من نواحي التاريخ، وبعضها لعب الدور في نواح أخرى، وبعضها كان واضح الأثر في عصر بذاته، أو تحت ضغط حادث معين، أو بنتيجة عمل أحد الرواة أو الرجال، أو مجموعة منهم، وبعضها كان دائم التأثير متكرّر الحاجة خلال القرون الأولى للهجرة كلها وفيما بعدها من القرون أيضا. ولم تكن تلك المؤثرات والعوامل من نوع واحد، فإنها كانت تصدر عن جذور سياسية ودينية، صدورها عن أسباب اقتصادية، وقومية، واجتماعية، وبعض هذه العوامل كان ينشئ فروعا من التاريخ من منابع جديدة، وبعضها كان يزيد في خصبه، أو يضيف إليه روافد أخرى مستحدثة، أو من ألوان شتى، وعلى هذا، فإن ظهور التاريخ نشأ عن ميول موجودة في المجتمع الإسلامي، أضيفت إليها مع تطور الزمن دوافع جديدة بعد دوافع، وقد أخذ شكله وتطوره نتيجة عدد كبير متغيّر من العوامل والمؤثرات المتفاوتة في طول الأعمال والتأثير المختلفة في الأنواع أيضا اختلافا واسعا، وقد نجم عن ذلك كله، أن الحصاد التاريخي لفترة نشوء التاريخ قد تميز بعدد من الملامح، ولعلّنا قبل أن نعرض لها مضطرون لأن نقف عند نقطة إشكالية أحاطت بداية التدوين التاريخي والعلمي عامّة عند العرب بالكثير من الغموض، وأوجدت الوهم العلمي الشائع بأن التاريخ والحديث والعلوم الأخرى إنما كانت تروى في البدء الرواية الشفهية، وأنها لم تكتب وتدوّن حتى أواسط القرن الثاني الهجري، والسبب في هذا الوهم المغلوط هو الخلط ما بين ثلاث عمليات متتالية كانت تمرّ بها المعلومات والمعارف التي يتداولها الناس، وتشكّل بالتدريج تراثهم الثقافي، والتحليل هو الذي يكشف عنها.
العملية الأولى: عملية استماع الشهادة من الشهود المباشرين للحدث التاريخي، وهي عملية شفهية خالصة كانت تتم بشكل مباشر بين الشاهد الذي هو المصدر الأوّلي والأساسي للمعلومات، وبين جامع تلك المعلومات من الأفواه، ومعظم معلومات التاريخ الإسلامي الأوليّة إنما جاءت عن هذا الطريق الشفوي.
1 / 16
العملية التالية: عملية حفظ المعلومات، ولم تكن تتم عن طريق الذاكرة، ولا بها وحدها أبدا، ولكن [كانت] تتم في الكثرة الساحقة من الأحوال بالتسجيل والتدوين الكتابي الشخصي، وهذه العملية كانت تجري باستمرار منذ عهد الرسالة نفسه، إذ يدوّن المستمع ما يهمّه من المعلومات لنفسه [١]، ومهمة التدوين هنا هي معونة الذاكرة على دقة النقل وصحته، وحفظ السمعة بذلك خوف التضعيف، أو خيانة الذاكرة.
العملية الأخيرة: عملية نقل المعلومات في التوثيق ومنع الدسّ والتحريف والزيف كانت تدفعهم إلى أن لا يعتبروا المعلومات جديرة بالثقة ما لم تأت بالنقل المباشر والسماع الشخصي عن أصحابها العارفين بها والحافظين لها، وهذا ما كان يؤخر الصحف المكتوبة إلى مستوى الاهتمام الثانوي ويدفع من
_________
[١] قلت: لقد نهى رسول الله ﷺ الصحابة رضوان الله عليهم عن كتابة حديثه ﷺ في أول الأمر، وأذن لهم بكتابة القرآن، فقال فيما رواه مسلم في «صحيحه» رقم (٣٠٠٤): «لا تكتبوا عنّي، ومن كتب عنّي غير القرآن فليمحه، وحدّثوا عنّي ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» . قال ابن الأثير في «جامع الأصول» (٨/ ٣٣) بتحقيق والدي وأستاذي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط: [قوله ﷺ]: «لا تكتبوا عنّي غير القرآن»، الجمع بين قوله: «لا تكتبوا عنّي غير القرآن» وبين إذنه في الكتابة: أن الإذن في الكتابة ناسخ للمنع منه بإجماع الأمة على جوازه، ولا يجمعون إلا على أمر صحيح، وقيل: إنما نهى عن الكتابة: أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة، فيختلط به، فيشتبه على القارئ.
وعن أبي سعيد الخدري ﵁ فيما رواه الترمذي في «جامعه» رقم (٢٦٦٥) بإسناد حسن قال: استأذنّا النبيّ ﷺ في الكتابة فلم يأذن لنا.
قلت: وهذا كان في أول الأمر، ثم صحّ عنه ﷺ قوله وقت فتح مكة: «اكتبوا لأبي شاه»، وذلك فيما رواه أحمد في «المسند»، والبخاري ومسلم في «صحيحيهما»، والترمذي في «جامعه»، وانظر نصّ الحديث وتخريجه في «عمدة الأحكام» للمقدسي رقم (٣٤٨) بتحقيقي، ومراجعة والدي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، طبع دار المأمون للتراث بدمشق. وروى الترمذي في «جامعه» رقم (٢٦٦٦) بإسناد حسن عن أبي هريرة ﵁ قال: كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبيّ ﷺ، فيستمع من النبيّ ﷺ الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى النبيّ ﷺ فقال: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه، فقال رسول الله ﷺ: «استعن بيمينك» وأومأ بيده للخط.
1 / 17
جديد بالرواية الشفهية إلى مستوى الاهتمام الأول [١] .
وقال الأساتذة مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ الشلبي:
لم يكن للعرب قبل مبعث النبيّ ﷺ من مادة التاريخ إلا ما توارثوه بالرواية، مما كان شائعا بينهم من أخبار الجاهلية الأولى، كحديثهم عن آبائهم وأجدادهم، وأنسابهم، وما في حياة الآباء من قصص، فيها البطولة، وفيها الكرم، وفيها الوفاء، ثم حديثهم عن البيت، وزمزم، وجرهم [٢] وما كان من أمرها، ثم ما كان من خبر البيوتات التي تناوبت الإمرة على قريش، وما جرى لسدّ مأرب، وما تبعه من تفرّق الناس في البلاد، إلى أمثال هذا مما قامت فيه الذاكرة مقام الكتاب، واللسان مقام القلم، يعي الناس عنه، ويحفظون، ثم يؤدّون [٣] .
ونعود فيما يلي إلى الحديث عن مشاهير المؤرخين الذين نقل عنهم ابن العماد، مع الحديث بإيجاز عن مصنفاتهم التي اشتهروا من خلالها، وذلك مع مراعاة الترتيب الزمني لوفياتهم.
١- ابن إسحاق
هو محمد بن إسحاق بن يسار أبو بكر، وقيل: أبو عبد الله، القرشي المطلبي، مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، من أقدم مؤرخي العرب، وكان بحرا من بحور العلم، ذكيّا، حافظا طلّابة للعلم، أخباريا، نسّابة علّامة، صاحب «السيرة النبوية»، وكلّ من تكلم في «السيرة» من بعده فعليه اعتماده.
ولد في المدينة المنورة سنة ثمانين، ورأى أنس بن مالك ﵁ بالمدينة، وسعيد بن المسيّب ﵀، وحدّث عن: أبيه، وعمه موسى بن
_________
[١] «التاريخ العربي والمؤرخون» (١/ ٧٤- ٧٦) .
[٢] قال ابن منظور: جرهم: حيّ من اليمن نزلوا مكة، وتزوج فيهم إسماعيل بن إبراهيم ﵉، وهم أصهاره، ثم ألحدوا في الحرم فأبادهم الله تعالى. «لسان العرب» «جرهم» (١/ ٦٠٩) .
[٣] مقدمة «السيرة النبوية» لابن هشام ص (٤) .
1 / 18
يسار، وعن أبان بن عثمان- فيما قيل- وعن بشير بن يسار، وسعيد بن أبي هند، وسعيد المقبري، وطائفة من أهل العلم.
وحدّث عنه: يزيد بن أبي حبيب شيخه، ويحيى بن سعد الأنصاري وهما من التابعين وفاقا، وشعبة، والثوري، والحمّادان، وأبو عوانة، وهشيم، وطائفة من أهل العلم.
وقد ترك ابن إسحاق المدينة ورحل إلى غيرها متنقلا في أكثر من بلد، فقصد الاسكندرية، وحدّث عن جماعة من أهل مصر، منهم: عبيد الله بن المغيرة، ويزيد بن أبي حبيب، وثمامة بن شفي، وغيرهم، ثم رحل إلى الكوفة، والجزيرة، والرّيّ، والحيرة، وبغداد، وفي بغداد ألقى عصا الترحال، والتقى بالمنصور، وصنّف لابنه المهدي كتاب «السيرة»، وعاش ببغداد حتى وافته المنيّة بها ودفن في مقبرة الخيزران، وقد اختلف في سنة وفاته، فقيل:
سنة مائة وخمسين، وقيل: سنة مائة وإحدى وخمسين، وقيل: سنة مائة واثنتين وخمسين، وقيل: سنة مائة وثلاث وخمسين، والله أعلم بالصواب.
قال الذهبي: روى له مسلم في المتابعات، واستشهد به البخاري، وأخرج أصحاب «السنن» له.
قلت: ومعلوم بأن شهرة ابن إسحاق قامت على تصنيفه ل «السيرة النبوية» التي استوعبت التأريخ لأهم مراحل التاريخ الإسلامي، ألا وهي الفترة النبوية التي شهدت أهم الأحداث العظيمة في تاريخ الأمة الإسلامية، وقد طبعت هذه «السيرة» في تركيا بتحقيق الأستاذ الدكتور محمد حميد الله صاحب «مجموعة الوثائق السياسية» - أمدّ الله في عمره- ولكنها بحاجة إلى المزيد من التحقيق والتخريج ولعله يفعل ذلك مستقبلا إن شاء الله.
٢- الواقدي
هو محمد بن عمر بن واقد الأسلمي بالولاء، المدني، أبو عبد الله، من أقدم المؤرخين في الإسلام، ومن أشهرهم، ومن حفّاظ الحديث، وأحد أوعية
1 / 19
العلم على الرغم من ضعفه المتفق عليه، صاحب «المغازي» . ولد بالمدينة المنورة سنة مائة وثلاثين، وطلب العلم عام بضعة وأربعين، وسمع من صغار التابعين فمن بعدهم بالحجاز، والشام، وغير ذلك.
حدّث عن: محمد بن عجلان، وابن جريج، وثور بن يزيد، ومعمر بن راشد، وأسامة بن عثمان الزّيادي، وغيرهم.
استقضاه المأمون سنة أربع ومائتين على الجانب الشرقي من بغداد، وأكرمه، وأمره أن يصلّي الجمعة بالناس في مسجد الرصافة.
قال وكيع: حدّثني أبو سهل الرازي، عن محمد بن سعد قال: رآني الواقديّ مهموما فقال لي: لا تغتمّ فإن الرزق يأتي من حيث لا تحتسب.
وقال الخطيب البغدادي: كان الواقدي كلما ذكرت له وقعة ذهب إلى مكانها فعاينها.
وقال الذهبي: جمع فأوعى، وخلط الغثّ بالسّمين، والخرز بالدّرّ الثمين، فاطّرحوه [١] لذلك، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي، وأيام الصحابة وأخبارهم.
وقال ابن حجر: متروك مع سعة علمه.
مات في ذي الحجة سنة سبع ومائتين، ودفن في مقابر الخيزران وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وصلّى عليه محمد بن سماعة.
قلت: وكتابه «المغازي» الذي قامت عليه شهرته، مطبوع في مصر بتحقيق المستشرق الدكتور مارسدن جونس في ثلاث مجلدات تشتمل على فهارس تفصيلية، وله كتب كثيرة أخرى في علوم متنوعة.
٣- ابن هشام
هو عبد الملك بن هشام البصري النحوي الأخباري، أبو محمد، مهذّب «السيرة النبوية» لابن إسحاق.
_________
[١] أي أبعدوه: انظر «لسان العرب» «طرح» (٢٦٥١) .
1 / 20
كان عالما بالأنساب، واللغة، وأخبار العرب، ولد ونشأ في البصرة.
هذّب «السيرة النبوية»، وسمعها من زياد البكّائي صاحب ابن إسحاق، وخفّف من أشعارها، وروى فيها مواضع عن عبد الوارث بن سعيد، وأبي عبيدة.
وله كتاب في «المغازي»، وآخر اسمه «التيجان لمعرفة ملوك الزمان» .
وكان ﵀ إماما في النحو، والأنساب، وأخبار العرب، ويذكر لنا الذهبي، وابن كثير، أنه حين جاء إلى مصر اجتمع به الشافعي، وتناشدا من أشعار العرب أشياء كثيرة. وكان علّامة أهل مصر بالعربية، والشعر.
مات سنة ثمان عشرة ومائتين.
قلت: وقد قامت شهرته على تهذيبه ل «السيرة النبوية» التي صنّفها ابن إسحاق، حتى دعيت هذه «السيرة» ب «سيرة ابن هشام» الأمر الذي جعل العامة من الناس في هذا العصر يظنون أنها من تصنيفه، ناسين ما كان لابن إسحاق من الفضل فيها، وهو الرائد الأول في هذا الفن تماما كما أن تهذيب الحافظ المزّي لكتاب «الكمال في أسماء الرجال» الذي صنّفه الحافظ عبد الغني المقدسي قد قضى على فضل المقدسي في الكتاب في نظر البعض، علما بأن المقدسي هو السابق في الفضل لكثير من العلماء في عصره وبعد عصره أيضا في علم الرّجال.
وقد طبع تهذيب «السيرة النبوية» المشار إليه عدة مرات، أفضلها التي نشرت بتحقيق الأساتذة الأفاضل مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ شلبي، وصدرت في مصر.
٤- ابن سعد
هو محمد بن سعد بن منيع البغدادي، أبو عبد الله، كاتب الواقدي، مؤرّخ من حفّاظ الحديث، صاحب «الطبقات الكبرى» .
ولد سنة (١٦٨ هـ) بالبصرة، وطلب العلم في صباه، ولحق الكبار، وكان من أوعية العلم.
1 / 21
سمع من: هشيم بن بشير، وابن عيينة، وأبي معاوية، وابن أبي فديك، ووكيع، وأنس بن عياض، وغيرهم.
وحدّث عنه: أبو بكر بن أبي الدّنيا، والحارث بن أبي أسامة، والحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن فهم، وغيرهم.
رحل إلى بغداد وأقام فيها ملازما لأستاذه الواقدي يكتب له، حتى عرف ب «كاتب الواقدي»، وكانت له رحلة إلى المدينة، والكوفة، ولا ريب في أن رحلته إلى المدينة تمّت قبل سنة (٢٠٠) هـ، فهو يذكر أنه لقي فيها بعض الشيوخ عام (١٨٩) هـ كما أن أكثر الذين روى عنهم من أهلها أدركتهم المنيّة قبل مطلع القرن الثالث، وفي أثناء حلّه وترحاله كان شغله الشاغل هو لقاء الشيوخ، وكتابة الحديث، وجمع الكتب، ولذلك اتصل بأعلام عصره من المحدّثين، فروى عنهم، وقيد مرويّاته، وأفاد منها في تصنيف كتبه.
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن ابن سعد فقال: صدوق، رأيته جاء إلى القواريري وسأله عن أحاديث فحدّثه.
وقال الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد»: محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة، وحديثه يدلّ على صدقه، فإنه يتحرّى في كثير من مرويّاته.
مات ببغداد يوم الأحد لأربع خلون من جمادى الآخرة سنة (٢٣٠) هـ، وهو ابن اثنتين وستين سنة.
قلت: وقد قامت شهرته على كتابه «الطبقات الكبرى» المعروف أيضا ب «طبقات ابن سعد»، وقد نشر هذا الكتاب على أيدي مجموعة من المستشرقين الألمان، ولكن هذه النشرة تفتقر إلى التحقيق ودراسة الأسانيد الواردة فيها.
٥- خليفة بن خيّاط
هو خليفة بن خياط العصفري البصري، أبو عمرو، المقلب ب «شباب»
1 / 22
الإمام المؤرخ العلّامة، صاحب «التاريخ» و«الطبقات» .
نشأ في البصرة في بيت علم، فقد كان جده أبو هبيرة خليفة بن خياط من أهل الحديث، سمع الحديث من عمرو بن شعيب، وحميد الطويل، وروى عنه محدّثون كبار، مثل: عمرو بن منصور، ووكيع بن الجراح، وأبي الوليد الطيالسي، وذكر البخاري أن مسلما حدّث عنه، ولعلّه مسلم بن إبراهيم الفراهيدي البصري، أحد شيوخ البخاري المتوفى سنة (٢٢٢) هـ.
وذكر خليفة في «الطبقات» أن جدّه خليفة مات سنة (١٦٠) [١] .
وقد سمع خليفة المترجم من أبيه، ويزيد بن زريع، وزياد بن عبد الله البكّائي، وسفيان بن عيينة، وغيرهم.
وحدّث عنه: البخاريّ بسبعة أحاديث أو أزيد في «صحيحه»، وبقيّ بن مخلد، وحرب الكرماني، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وأبو بكر بن أبي عاصم، وغيرهم.
وكان صدوقا، نسّابة، عالما بالسّير، والأيام، والرجال كما قال الذهبي.
وقال ابن عدي: هو صدوق من متيقظي الرواة.
وقال ابن حبّان: كان متقنا عالما بأيام الناس وأنسابهم.
وقال ابن خلّكان: كان حافظا عارفا بالتواريخ وأيام الناس، غزير الفضل.
ووصفه ابن كثير بأنه أحد أئمة التاريخ.
مات سنة (٢٤٠) هـ.
قلت: وقد قامت شهرته على كتابيه «التاريخ» و«الطبقات»، وكلاهما قام بتحقيقه الأستاذ الدكتور سهيل زكّار، ثمّ الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري، وهما من الكتب الرائدة في التاريخ والرجال، ولقد عرفت لهذا المؤرّخ الكبير فضله لدى رجوعي إلى كتابة «التاريخ» أثناء تحقيقي لهذا المجلد من الكتاب،
_________
[١] انظر «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبّان ص (١٥٧) .
1 / 23
فقد تأكد لي بأن اختصاره للتدوين يعود إلى أمانته وحذره ﵀.
٦- البخاريّ
هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري، أبو عبد الله، الإمام الكبير، صاحب «الصحيح» و«التاريخ الكبير» وغيرهما.
ولد يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة (١٩٤) هـ، ورحل في طلب العلم إلى جميع محدّثي الأمصار، وكتب بخراسان، والجبال، والعراق، والحجاز، والشام، ومصر، وأخذ الحديث عن مشاهير الحفّاظ، منهم: مكّي بن إبراهيم البلخي، وعبدان بن عثمان المروزي، وعبيد الله بن موسى العبسي، وأبو عاصم الشيباني، وورد على المشايخ وله إحدى عشرة سنة، وطلب العلم وله عشر سنين. وأخذ عنه الحديث خلق كثير في كل بلدة حدّث بها.
ولما قدم بغداد، وسمع أصحاب الحديث بقدومه، اجتمعوا، وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوها إلى عشرة أنفس، لكل رجل عشرة أحاديث، فلما اطمأن المجلس بأهله، انتدب إليه رجل من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال لا أعرفه، حتى فرغ من العشرة، والبخاري يقول: لا أعرفه، فأما العلماء فعرفوا بإنكاره أنه عارف، وأمّا غيرهم فلم يدركوا ذلك منه. ثم انتدب رجل آخر من العشرة، فكان حاله معه كذلك، ثم انتدب آخر بعد آخر إلى تمام العشرة، والبخاري لا يزيدهم على قوله: لا أعرفه. فلما فرغوا، التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك، فهو كذا، والثاني كذا، على النسق إلى آخر العشرة، فردّ كلّ متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، ثم فعل بالباقين مثل ذلك، فأقرّ الناس له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل. وقال: خرّجت كتاب «الصحيح» من زهاء ستمائة ألف حديث، وما وضعت
1 / 24
فيه حديثا إلا صلّيت ركعتين، وهو أول من وضع في الإسلام كتابا على هذا النحو.
مات ليلة الفطر سنة (٢٥٦) هـ. وعمره اثنتان وستون سنة إلا ثلاثة عشر يوما.
قلت: وقد قامت شهرته على كتابه «الصحيح» كما هو معلوم، ويأتي بالمنزلة الثانية بعد «الصحيح» من كتبه كتابه «التاريخ الكبير» وقد تكلم فيه عن رواة الحديث والآثار فأجاد وأفاد، جزاه الله تعالى عن المسلمين خير الجزاء، وقد طبع بعناية العلّامة المحقّق الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني ﵀، وطبع في تركيا بدار مكتبة أزدمير بمدينة ديار بكر، وقد صدرت هذه الطبعة في تسع مجلدات بعناية الدكتور محمد عبد المعيد خان.
٧- ابن قتيبة
هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوري، وقيل المروزي، أبو عبد الله، الإمام العلّامة الكبير، ذو الفنون، صاحب «المعارف»، و«عيون الأخبار»، و«أدب الكاتب»، وغير ذلك من المصنفات العديدة المفيدة.
ولد ببغداد سنة (٢١٣) هـ، وأخذ العلم بها عن: إسحاق بن راهويه، ومحمد بن زياد بن عبيد الله الزيادي، وزياد بن يحيى الحساني، وأبي حاتم السجستاني، وطائفة.
وأخذ العلم عنه: ابنه القاضي أحمد بن عبد الله، بديار مصر، وعبيد الله السّكّري، وعبيد الله بن أحمد بن بكر، وعبد الله بن جعفر بن رستويه النّحوي، وغيرهم.
قال الذهبي: ليس ابن قتيبة بصاحب حديث، وإنما هو من كبار العلماء المشهورين، عنده فنون جمّة، وعلوم مهمة.
وقال قاسم بن أصبغ: كنا عند ابن قتيبة، فأتوه وبأيديهم المحابر، فقال:
1 / 25