وما أتمت كلمتها حتى وقفت راهبة على رأس السلم وصاحت: السيد بيرجراك! فانتعشت روكسان وقالت : ليدخل! فدخل وهو مصفر الوجه، يتوكأ على عصاه ويمشي ببطء شديد، وقد أسدل قبعته على جبينه فسترت الضمائد المحيطة برأسه، وكانت روكسان مشتغلة بترتيب خيوطها، وإصلاح منسجها، فلم تلتفت إليه حتى جلس على مقعده وحياها. فقالت له بنغمة العاتب دون أن تلتفت إليه: هذه أول مرة تأخرت فيها عن ميعادك منذ خمسة عشر عاما يا سيرانو! فأجابها بصوت قاتم مظلم يحاول أن يجعله ضاحكا رنانا: نعم يا سيدتي، يا لغرائب الدهر! ما كنت أظن أن شيئا في العالم حتى الموت، يستطيع أن يحول بيني وبين الحضور إليك في ميعادي، آه! إني أكاد أموت، غيظا وحنقا، ما أخرني عنك إلا ضيف ثقيل - يريد الموت - جاء لزيارتي في وقت غير مناسب، وما كنت أتوقع أن يفد إلي في مثل هذه الساعة! قالت: وكيف تخلصت منه؟ قال: لم أتخلص منه حتى الآن، وكل ما في الأمر أني اعتذرت إليه وقلت له: إن اليوم يوم السبت، وهو الميعاد الذي يجب علي فيه أن أقوم بزيارة صديق كريم لا يمكن أن يحول بيني وبين زيارته في هذا الميعاد حائل، فاذهب الآن وعد إلي بعد ساعة واحدة! قالت: إذن سيطول انتظاره لك إذا عاد إليك؛ لأني لا أسمح لك بالخروج من هنا قبل المساء! قال: ربما اضطررت للذهاب قبل ذلك!
وأغمض عينيه وأطرق برأسه، وكانت الأخت «مارت» مارة في تلك اللحظة، فأومأت روكسان إليها برأسها فحضرت. فقالت لسيرانو، وهي لا تزال مشتغلة بترتيب خيوطها: إنك لم تمزح مع الأخت «مارت» كعادتك يا سيرانو، فانتفض ورفع رأسه، فدهشت «مارت» عند رؤيته وفغرت فاها، وحاولت أن تتكلم فأشار إليها بالصمت، فلم تفهم شيئا ولكنها صمتت. فقال لها بصوت ضخم مضحك: اقتربي مني أيتها الأخت، ما لك تعرضين عني يا ذات العينين الجميلتين؟ هاتي يدك البيضاء لأقبلها باسم البركة والعبادة لا باسم الحب والغرام! واقتربي مني لأخبرك خبرا غريبا جدا. قالت وهي ترثي له ولحاله: وما هو؟ قال: قد أكلت بالأمس لحما ودسما، فما رأيك؟ فهزت رأسها، وظلت تقول بينها وبين نفسها: وا رحمتاه له! إنه يكذب علي، وربما مر به يومان لم يذق فيهما طعم الخبز كما فعل في المرة السابقة، ثم قالت له: أحب أن تزورني في غرفتي قبل خروجك من هنا، فسأقدم إليك هدية من الحلوى جميلة جدا. فقالت له روكسان: احذر أن تذهب إليها يا سيرانو، فإنها تريد أن تعظك! فقال سيرانو: أظن أن عظاتك الماضية يا مارت قد أخذت مأخذها من نفسي، فقد أصبحت أقرب إلى الإيمان مني إلى الكفر؛ ولذلك أسمح لك أن تصلي الليلة في معبدك من أجلي! فدهشت «مارت» وقالت: ماذا تقول؟ أتهزل أم تجد؟ قال: قد فات وقت الهزل، ولم يبق أمامي إلا الجد!
فانصرفت لشأنها، وهي تعجب لأمره كل العجب، وأقبل هو على روكسان، وقال لها وهي لا تزال مكبة على منسجها: ليت شعري هل أعيش، وهل يعيش العالم حتى يرى ختام هذا النسيج؟ قالت: كنت في انتظار سماع هذه الكلمة منك يا سيرانو، إن نسيجي لا ينتهي حتى تنتهي ملحك وأحماضك!
وفي هذه اللحظة هبت ريح شديدة، فتساقطت على الأرض أوراق كثيرة من أعالي الأشجار، فانقبضت روكسان وقالت: إن تساقط هذه الأوراق يحزنني جدا. قال: أما أنا فعلى عكس ذلك؛ لأنه يعجبني منها كثيرا أنها برغم حزنها على فراق أغصانها التي تركتها، وبرغم فزعها من الفناء الذي يستقبلها على وجه الأرض، فهي تتساقط برقة ورشاقة، وتقضي هذه السياحة القصيرة بين الحياة والموت مائسة مختالة، كأنها في حفلة رقص أو مجمع شراب! فقالت: إني أسمع منك نغمة حزن يا سيرانو؛ فهل أنت حزين؟ قال: لا، وليس من عادتي أن ألجأ إلى الحزن في أي موقف من المواقف، حتى في الموقف الذي يحزن فيه الناس جميعا. قالت: فلندع الأوراق تتساقط كيفما تشاء، وأسمعني جريدتك الأسبوعية فإني في شوق عظيم إليها. قال: اسمعي يا سيدتي، وكان الألم قد نال منه منالا عظيما، وبدأ الذهول يخيم على عقله، فأنشأ يقول:
يوم السبت:
أصيب الملك بمرض الحمى على أثر ثماني أكلات أكلها من عنب «سيت»، فحكم الطبيب على مرضه بطعنة مبضع في قلبه لاقترافه جريمة الاعتداء على صاحب الجلالة!
يوم الأحد:
أشعلوا ليلة الحفلة الكبرى في قصر الملك ثلاثا وستين وسبعمائة شمعة بيضاء. يقولون: إن جيوشنا قد انتصرت على جيوش جان النمسوي، شنق أربعة من السحرة، حقنوا كلب السيدة «داتيس» الصغير.
فاعترضته روكسان وقالت: ما هذه الأخبار يا سيرانو؟
فاستمر في كلامه يقول:
Página desconocida