وما أبعد إلا قليلا حتى مشى سيرانو إلى كرستيان، وقال له همسا: كلمة واحدة أريد أن أقولها لك يا سيدي، فامش معي قليلا، فمشى معه فقال له: ربما فاتحتك روكسان في شأن الرسائل التي كانت ترد عليها منك، وستقول لك إنها كانت تتلقى منك كل يوم رسالة؛ فلا يدهشك ذلك، ولا ترتبك لئلا يفتضح الأمر. قال: وهل كنت تكتب إليها كل يوم؟ قال: نعم؛ لأنني تعهدت لها عنك قبل سفرنا - كما تعلم - أن تكتب إليها كثيرا، فلم أر بدا من الوفاء، وما كان يكلفني ذلك أكثر من التعبير عن شعورك وخوالج نفسك، وذلك ما لا ينقصني العلم به، فإذا فاتحتك في هذا الشأن فلا يكن لك فيه قول غير الذي قلت لك. قال: وكيف كنت تستطيع توصيل هذه الرسائل إليها وقد حصرنا العدو من كل جانب وذادنا عن كل شيء، حتى عن طعامنا وشرابنا؟ قال: الأمر بسيط جدا: كنت أخرج في سحر كل ليلة متنكرا تحت جنح الظلام، فأكمن تارة وأظهر أخرى ...
فقاطعه كرستيان وقال له: وهل هذا بسيط جدا، الحق أقول لك يا صديقي: إنني أصبحت أعجب لأمرك كثيرا، ولئن استطعت أن أفهم كل شيء فإنني لا أستطيع أن أفهم اهتمامك بهذا الأمر هذا الاهتمام كله إلى درجة المخاطرة بحياتك في سبيله.
قال: ما في الأمر مخاطرة ولا مجازفة، فقد كان يلذ لي كثيرا أن أقوم لك بهذه الخدمة، وأن ألاقي ما ألاقي من الأخطار في سبيلها. قال: وما الذي كان يعجبك من ذلك؟ قال: التمثيل. قال: أي تمثيل؟ قال: تمثيل عواطفك وشعورك، فإنني مذ أخذت نفسي بتمثيل دورك في هذه المأساة المحزنة لم يزل يستهويني التمثيل ويهيمن على نفسي، حتى أصبحت أتخيل أنني صاحب الدور الذي أمثله، وأنني أنا المعني دونك بكتابة هذه الرسائل، والعناية بها والتذرع بكل وسيلة إلى توصيلها إليها. قال: وهل تبلغ لذة التمثيل بامرئ، هذه المبالغ كلها؟ قال: نعم، وكثيرا ما ذرف الممثلون دموعا لم يذرفها العاشقون أنفسهم. ثم التفت فرأى روكسان مقبلة فقال له: قد فهمت الآن كل شيء، فكن حكيما حازما.
ثم تسلل إلى خيمته، وتركه واقفا مكانه.
حقيقة الجمال
قال كرستيان لروكسان وقد جلسا معا على بعض المقاعد: هل لك أن تحدثيني يا روكسان: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ فإنني لا أزال أعجب لأمرك كل العجب، ولا أكاد أصدق أن الحب يجشم صاحبه هذه الأخطار التي جشمتها نفسك في سبيله. قالت: لقد سحرتني وملكت علي لبي رسائلك العذبة الجميلة التي كنت ترسلها إلي صبيحة كل يوم وتودعها شعور قلبك، وهواجس نفسك، وتكتبها بتلك اللغة الغريبة المؤثرة التي لو لامست الصخر الأصم لانفجر وتناثرت شظاياه في أجواز الفضاء، وقد حاولت كثيرا أن أثبت لها وأقاوم تأثيرها على نفسي بكل سبيل، فغلبتني على أمري وقادتني إليك كما تراني.
قال: أمن أجل بضع رسائل بسيطة ...؟
فقاطعته وقالت: لا تقل بسيطة، بل هي الوحي الإلهي الذي ينزل على نفوس الملهمين من البشر، بل هي القوة الغيبية التي تهيمن على العالم، وتحيط به من جميع أقطاره دون أن يدرك أحد مكانها أو يعرف مأتاها، ولقد كان يخيل إلي وأنا أقرؤها أنني أرى صورتك فيها، كما يرى الناظر صورة البدر من وراء السحب الرقيقة، فأهوي إليها بفمي لأقبلها، فإذا أنا أقبل السطور والكلمات!
فأطرق كرستيان برأسه، وقد ألم بنفسه من الهم والكمد ما الله عالم به، واستمرت روكسان في حديثها تقول: إنني ما أحببتك يا كرستيان حبا صادقا متغلغلا في أعماق نفسي إلا منذ تلك الليلة التي رأيتك فيها واقفا تحت شرفتي تناجيني نجاء عذبا رقيقا بتلك النغمة الرقيقة المؤثرة، وتفضي إلي بذات نفسك، كأنك قد ألمستني فؤادك، ووضعت يدي على قلبك، ثم توالت علي رسائلك بعد ذلك، فكنت أسمع فيها دائما تلك النغمة الموسيقية الخلابة، وكأنك لا تزال واقفا أمام شرفتي تناجيني فلا أستطيع أن أملك نفسي دون البكاء والحنين، وأقسم لك لو أن «بينيلوب» وردت عليها من زوجها «عولس» تلك الرسائل التي وردت علي منك لما أطاقت صبرا على فراقه، ولألقت بنسيجها الذي عرفت به في التاريخ، وذهبت تفتش عنه بين سمع الأرض وبصرها حتى تلقاه.
فقال ونفسه تذوب حسرة وكمدا: ما كنت أقدر يا روكسان أن تلك الرسائل الصغيرة تبلغ من نفسك هذه المبالغ كلها. قالت: لقد كان سلطانها على نفسي عظيما جدا، وكنت أعيد قراءتها مرات كثيرة، حتى تتشربها نفسي وتتمثلها روحي، وحتى كان يخيل إلي أن كل كلمة من كلماتها ورقة تطير إلي من أوراق روحك، فما لبثت أن شعرت أنني قد أصبحت ملكا لك، وأسيرة في يديك، وأن أمر نفسي قد خرج من يدي، فلا حول لي فيه ولا حيلة.
Página desconocida