أريد أن أعيش حرا طليقا، أناضل من أشاء، وأجادل من أشاء، وأنتقد من أشاء، وأن أقول كلمتي الخير والشر للأخيار والأشرار في وجوههم، لا متملقا أولئك، ولا خاشيا هؤلاء.
إن العبد المقيد بقيود الإحسان والنعم، لا يمكن أن يكون حرا طليقا، فليعفني الناس من أياديهم وصنائعهم؛ لأني لا أحب أن أكون عبدا لهم، ولا أسيرا في أيديهم.
وآخر ما أقول لك: إني أفضل أن أعيش ممقوتا مرذولا عند الناس على أن أعيش ذليلا مستعبدا لهم، ولا أحب أن أرتفع ارتفاع الزيزفون والسرو إذا كانت اليد التي ترفعني غير يدي، وحسبي من الرفعة والشرف أن أنال منها نصيبي الذي قسم لي قدر ما تسمح به قوتي ومواهبي، لا أزيد على ذلك شيئا.
فقال له لبريه: عش بنفسك وحيدا كما شئت، ولكن لا تكن عدوا للجميع.
قال: ربما أكون مغاليا في ذلك، ولكن ما دعاني إلى المغالاة في المعاداة إلا مغالاة معشر المتكلفين، والمتعملين في المصادقة والموالاة، وتصنعهم في اجتذاب الخلان والأصدقاء، وما بغض إلي التواد والتحاب إلا بغضي لتلك الابتسامات الباردة الثقيلة التي تنفرج عنها شفاههم كلما قابلوا صديقا أو عدوا، شريفا أو وضيعا، كريما أو لئيما، حتى أصبحت لا أحب شيئا في العالم حبي لبغض الناس إياي، ولا أكره شيئا كرهي لحبهم لي، وتوددهم إلي.
هذا هو عيبي الوحيد الذي لا أعرف لنفسي عيبا سواه، ولكنه عيب يعجبني جدا ويلذ لي كثيرا، وإنك لا تستطع أن تدرك مقدار ما أجده من اللذة والغبطة في نفسي عندما أسير في طريقي فأراه مملوءا بنظرات البغض، ملتهبا بنيران الحقد، وأرى نفسي محاطا بنطاق محكم من قلوب الساخطين والناقمين.
أما الشتائم التي أسمعها، واللعنات التي تصوب إلي، فهي أشبه الأشياء عندي بذلك البرد المتساقط الذي يتناثر من الجو على ردائي، ثم ينزلق عنه إلى الأرض فأدوسه بقدمي.
إن الصداقة الباردة المتفككة التي يسعى وراءها الناس أشبه شيء بالياقة الإيطالية اللينة، التي تتهدل حول العنق، فيتهدل العنق معها، فهي وإن كانت لينة مريحة إلا أنها رخوة مهلهلة ليست لها مسكة ولا قوام.
أما العداوة فهي الدرع الفولاذية الصلبة التي تدور بالجسم فتحفظ كيانه وقوته، وتمنعه عن أن يضعف أو أن يخور، وكل عدو جديد هو حلقة جديدة في تلك الدرع القوية المتينة.
فقال لبريه: إنني لم أرك في حياتي راضيا عن البغض مثل اليوم، وإن نفسي تحدثني بأن كارثة من الكوارث العظيمة قد نزلت بك فأثارت هذه الخواطر في نفسك.
Página desconocida