ووقفت في تلك الساعة مركبة فخمة أمام باب المطعم، ونزل منها ثلاثة من الأشراف، فدخلوا الحانوت، وظلوا يدفعون الناس أمامهم دفعا حتى دنوا من سيرانو، فوضع أحدهم يده في يده وشد عليها بقوة، وقال له: آه لو كنت تدري يا صديقي مقدار سروري بك وبنجاحك! فالتفت إليه سيرانو غاضبا، وقال له: ما أنا بصديقك يا سيدي؛ لأنني ما عرفتك قبل اليوم! وقال له الآخر: إن بعض السيدات ينتظرنك في مركبتهن أمام الباب ليهنئنك بانتصارك، فلو تفضلت بمرافقتي إليهن لأقدمك لهن! فقال له: وكيف تسمح لنفسك يا سيدي أن تقدمني إلى غيرك قبل أن تقدم نفسك إلي؟ وقدم إليه الثالث كأسا من الخمر وقال له: اشرب معي يا سيدي نخب بأسك وشجاعتك، فالتفت إليه وقال له: يخيل إلي يا سيدي أنك أشجع مني؛ لأنك قدمت إلي شيئا قبل أن تعلم ما رأيي فيه، ثم دفع الكأس عنه بقوة فهراقها، وجاءه أحد مراسلي الصحف وقد أمسك بيمينه قلما وبيسراه قرطاسا، وقال له: قص علي حديث واقعتك أيها الفارس البطل لأنشره في جريدتي، فنظر إليه شزرا وقال له: إنني لم أقاتل من أجلك يا سيدي، ولا من أجل جريدتك، بل من أجل صديقي لينيير، فتململ لبريه من خشونته وجفائه، وكان جالسا على مقربة منه، فجذبه من ثوبه وقال له همسا: ما الذي أصابك يا سيرانو؟ وما هذه الخشونة التي تستقبل بها أصدقاءك الذين يهنئونك ويمجدونك؟ فقال له: لا تصدق كل ما تراه يا لبريه، فليس لي في العالم صديق سواك .
وإنهم لكذلك إذ ساد السكون وانقطعت الضوضاء، وانفرج الجمهور صفين متقابلين خاشعين مستكينين، وإذا الكونت دي جيش القائد الفرنسي العظيم قد أقبل يجرر أذياله، ويسدد أنفه إلى كبد السماء عظمة وخيلاء، ووراءه كثير من الأشراف ورجال الجيش، حتى توسط القاعة، فوقف ونادى: أين سيرانو؟ فالتفت سيرانو فرآه، فدهش وقال في نفسه: لعله جاء أيضا ليهنئني، ولئن فعل لتكونن أعجوبة الأعاجيب، ثم أجابه وهو واقف مكانه لا يتحرك ولا يحتفل: هأنذا يا سيدي. قال: أقدم إليك تهنئتي الخاصة، وأبلغك أن جناب القائد العام المارشال «دي جاسيون» قد أمرني أن أبلغك تهنئته لك، وثناءه عليك، وإعجابه بك، واغتباطه بعملك العظيم الذي قمت به ليلة أمس، وأضفت به إلى سجل الشجاعة الفرنسية صفحة من أشرف الصفحات وأمجدها، ولقد كان في شك من صحة الخبر، لولا أن أقسم له بعض الضباط الذين صحبوك ليلة أمس إلى «باب نيل» أنهم شاهدوا الحادثة بأعينهم، فرفع سيرانو نظره إلى الكونت بهدوء وسكون، وقال له: لا شك أن للمرشال قدما راسخة في الفنون الحربية وأساليبها، ومثله من يقدر أقدار الرجال، فبلغه شكري، فدهش الناس لجوابه الخشن الجافي، وطاش عقل لبريه حتى كاد يتفجر غيظا وحنقا، إلا أنه تماسك وتجلد وهمس في أذنه: إن هذا لا يليق بك مطلقا، قل له كلمة أجمل من هذه ردا على تحيته، واستقبل الصنيعة بمثلها، فصمت سيرانو هنيهة، ثم قال له بصوت خافت: دعني يا لبريه فإنني لا أطيق أن أشكر رجلا جاء لتهنئتي بانتصاري عليه! فقال له: يخيل إلي أنك متألم يا صديقي، فانتفض سيرانو وقال: أنا! لا، أتظن أنني أتألم أمام أحد مهما برح بي الهم وأمضني، أو أسمح لعدو من أعدائي أن يشمت بي ويرى بعينيه منظر بؤسي وشقائي؟ انتظر قليلا فسوف ترى، وكان الكونت قد جلس على كرسيه المعد له جلسة العظمة والكبرياء؛ فالتفت إلى سيرانو وقال له بنغمة الساخر الهازئ: إن تاريخك يا مسيو سيرانو حافل بالحوادث والوقائع، ويخيل إلي أنني رأيتك في فرقة هؤلاء الجاسكونيين الشياطين، أليس كذلك؟ فصاح الجاسكونيون جميعا: نعم هو في فرقتنا، ولنا بذلك الفخر العظيم، فالتفت الكونت إليهم، وقلب نظره في وجوههم وهم وقوف بجانب قائدهم «كاربون دي كاستل جالو»، وقال: أكل هؤلاء الذين تلوح عليهم مخايل العظمة الكاذبة جاسكونيون؟ فهتف كاربون بسيرانو وقال له: تفضل أيها البطل الباسل بتقديم فرقتي بالنيابة عني إلى حضرة القائد العظيم.
فمشى سيرانو نحو الكونت خطوتين، وأخذ يقدم إليه الفرقة بموشح بديع ارتجله في الحال، وضمنه الثناء عليهم والتنويه بفضلهم والإشادة بذكرهم حتى أتمه، فأعجب الكونت ببداهته وحضور ذهنه، وقال في نفسه: إن اصطناع شاعر مجيد كهذا الشاعر مفخرة عظمى لمن يصطنعه، وليس من الرأي أن يفلت مثله من أيدينا، ثم استدناه منه وقال له: أتحب أن تكون لي يا سيرانو؟ فانتفض وقال: لا يا سيدي، ولا لأي إنسان! قال: إن خالي الكردينال «ريشلييه» كثير الإعجاب بك وبأدبك، ويحب أن يراك، فإن شئت قدمتك إليه، ولقد قيل لي: إنك نظمت منذ عامين رواية تمثيلية جميلة لم توفق إلى تمثيلها حتى اليوم، فلو أنك ذهبت بها إليه، ورفعتها له لعرف لك فضلك فيها، وأحسن جزاءك عليها، كما أحسن من قبلك إلى غيرك من الكتاب والشعراء، فهمس لبريه في أذن سيرانو: لقد آن لروايتك «أجريبين» أن تمثل فليهنئك ذلك، فلم يلتفت إليه سيرانو، وقال للكونت بنغمة الساخر المتهكم: أحق ما تقول يا سيدي؟ قال: نعم، والرجل كما تعلم أديب بارع، راسخ القدم في النقد الأدبي، وسينظر في روايتك هذه نظر الناقد البصير، وربما أجرى فيها قلم تهذيبه وتنقيحه، فجاءت آية الآيات في حسنها وجمالها. فاكفهر وجه سيرانو وتفصد جبينه عرقا، وقال للكونت: ذلك مستحيل يا سيدي، وإن دمي ليجمد في عروقي عندما أتخيل أن إنسانا في العالم يحدث نفسه بتغيير حرف واحد من قصيدة من قصائدي، وما أنا في حاجة إلى الاستعانة على أدبي بأحد من الناس كائنا من كان! قال: ولكنك تعلم أنه إذا أعجبه بيت من الشعر دفع ثمنه غاليا، قال: نعم، أعلم ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يبذل فيه ثمنا مثل الذي بذلته؛ لأنني إنما أسكب فيه دم قلبي حارا، ودم القلب أغلى قيمة من الفضة والذهب. قال: إنك أبي النفس يا سيرانو. قال: نعم، وقد كان جديرا بك أن تفهم ذلك من قبل.
وهنا دخل رجل يحمل على يديه قبعات كثيرة قذرة، كان قد وجدها في ميدان المعركة عند «باب نيل»، من آثار الفارين والمنهزمين، فألقاها بين يدي سيرانو، وقال له: ها هي ذي أسلاب المعركة التي تركتها احتقارا لها وازدراء بها، قد حملتها إليك؛ لا لأنها تستحق عنايتك والتفاتك؛ بل لأنها دليل قاطع على جبن أعدائك ونذالتهم، فضحك الجمهور طويلا وظلوا يهتفون: قبعات الهاربين! قبعات الهاربين! وقال سيرانو وهو ينظر خلسة إلى وجه الكونت: ليت شعري من هو ذلك الجبان النذل الذي جرد مثل هذا الجيش السافل ليحارب به شاعرا مسكينا؟ ما أحسبه الآن إلا خزيان نادما، يتمنى أن لو انفجرت الأرض تحت قدميه، فهوى في أعماقها أبد الآبدين! فصاح الجمهور من كل ناحية: لا شك في ذلك، فارتعد الكونت غيظا، واربد وجهه، وصاح بصوت أجش كهزيم الرعد: ماذا تقولون؟ أنا الذي جرد هذا الجيش السافل كما تقولون؛ لأنني أردت تأديب ذلك الرجل الوقح البذيء، ولا يتولى تأديب سافل دنيء مثله إلا سفلة أدنياء، فقهقه سيرانو ضاحكا، وأخذ يجمع القبعات بحد سيفه، ثم دفعها تحت قدمي الكونت وقال له: إذن يمكنني يا سيدي أن أكلفك برد هذه القبعات إلى أصدقائك.
فثار الكونت من مكانه غاضبا، ونظر إلى سيرانو نظرة ملتهبة ينبعث الشرر من جوانبها، وقال له: هل قرأت أيها الرجل «دون كيشوت»؟ قال: نعم، قرأته وأنا حاسر الرأس إعجابا بذلك البطل الشريف. قال: أتذكر من قصصه قصة الطواحين الهوائية؟ فانحنى سيرانو وقال: نعم، «في الباب الثالث عشر». قال: ما رأيك فيمن يحاول مهاجمة تلك الطواحين أو اعتراض سبيلها؟ ففطن سيرانو لما أراد، وقال: ما كنت أظن أن أعدائي طواحين هوائية تذهب مع كل ريح. قال: إنها تمد أذراعها الطويلة لتتناول بها من يجسر على مقاومتها وتقذف به في الهوة العميقة. قال: أو الكوكب العالي! فصاح الكونت: مركبتي وخدمي! فابتدر الأشراف تنفيذ أمره، وظلوا يتراكضون ويتدافعون كأنهم بعض الخدم، وما هي إلا لحظات حتى حضرت المركبة، فخرج الكونت وخرج بخروجه جميع الأشراف والنبلاء، من حضر منهم معه، ومن حضر قبل ذلك، لا يحيون سيرانو ولا يدنون منه، ولا يرفعون أنظارهم إليه - مصانعة للكونت ومداهنة - فمشى وراءهم سيرانو يشيعهم إلى الباب، وهو يقول لهم: ماذا دهاكم يا أصدقائي؟ ما لكم تعرضون عني وتفرون مني؟ ما لكم لا تودعون البطل الذي جئتم الساعة لتهنئته وتكريمه؟
وما زال يشيعهم بأمثال هذه الكلمات حتى ركبوا جميعا مركباتهم وانصرفوا، فعاد إلى مكانه الأول وهتف بلبريه، فلباه فاستدناه منه واحتضنه إلى صدره وقال له: ألم أقل لك أيها الصديق: إنه ليس لي في العالم صديق سواك؟
نفس الشاعر
نكس لبريه رأسه مليا، ثم نظر إلى سيرانو نظرة حزينة مكتئبة، وقال له: قل لي أيها الصديق: ماذا أعددت لنفسك من الوسائل غدا للخلاص من هذه الهوة العميقة التي قذفت بنفسك فيها؟ واسمح لي أن أقول لك: إنك قد جننت جنونا لا أدري كيف يتركونك بعده خارج المارستان، أليس كل ما تستطيع الذود به عن نفسك في سلوك هذه الخطة العسراء أن تقول لي - كما تقول كل يوم: إنك تحب أن تعيش حرا مستقلا في حياتك، لا يسيطر عليك أي مسيطر من القيود والتقاليد؟ فليكن لك ما تريد، ولكن هل تستطيع أن تنكر أنك مغال متطرف؟ إنني لا أطلب إليك شيئا سوى أن تعترف لي بذلك، فابتسم سيرانو وقال له: إن كان هذا هو كل ما يرضيك فإني أعترف لك به، فتهلل لبريه فرحا وقال له: آه! لقد اعترفت أيها الصديق، فلزمتك الحجة التي لا قبل لك بدفعها. قال: إنني لا أنكر يا لبريه أنني رجل مغال متطرف كما تقول، ولكن في سبيل المبدأ والفكرة، والتطرف قبيح في كل شيء إلا في هذا السبيل، قال: ولكنك في حاجة إلى شيء من حسن السياسة وسعة الصدر، ولين الجانب؛ لتستطيع أن تصل إلى المجد الذي تحبه وتتعشقه.
فاستوى سيرانو في مكانه جالسا، وقد ظللت جبينه سحابة سوداء من الهم، واستحالت صورته إلى صورة مريعة مخيفة، وقال: ماذا تريد مني يا لبريه؟ وما هي الخطة التي تحب أن ترسمها لي لأنفذ من طريقها إلى المجد الذي تتحدث عنه، وتزعم أنني أتعشقه وأصبو إليه؟
أتريد أن أعتمد في حياتي على غيري، وأن أضع زمام نفسي في يد عظيم من العظماء أو نبيل من النبلاء يصطنعني ويجتبيني ويكفيني مئونة عيشي، ويحمل عني هموم الحياة وأثقالها، فيكون مثلي مثل شجرة «اللبلاب»، لا عمل لها في حياتها سوى أن تلتف بأحد الجذوع تلعق قشرته، وتمتص مادة حياته، بدلا من أن تعتمد في حياتها على نفسها؟ ذلك ما لا يكون.
Página desconocida