مرض
فرار
الشاعر الطموح
الشاعر الطموح
تأليف
علي الجارم
وقيعة
فارس فارع القد، وسيم الطلعة، تكشف أسارير وجهه عن نبل عريق، وشرف رفيع، وتنطق ملامحه ونظرات عينيه بشجاعة تفرق منها الشجعان، وبطولة يعز مثلها على الأبطال، وكان يتقلد سيفا حلي غمده بالذهب، وزين بنفيس الجوهر، ويتنكب رمحا تقبل أشعة الشمس سنانه فترسل بريقا وهاجا يكاد يحسر العيون، وقد امتطى جوادا كريما راح يهملج في بخترة وزهو، كأنه كان يعتز بكرم سلالته، أو يتيه بشرف منبت فارسه الشعشاع.
سار الجواد بين الوخد والخبب في طريق مدينة حلب، في يوم صائف من سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، فانفجرت السابلة عن طريقه كما تنفرج أمواج البحر أمام سفينة تداعب شراعها الرياح، وأخذ الناس يتهامسون في إجلال وخشية: هذا أبو فراس! هذا ابن عم الأمير! هذا بطل حصن برزويه! هذا فارس الدولة وشاعرها المغرد! وكان بين القوم رجل قوي الأسر مفتول العضلات، ظهرت في وجهه سطور كتبتها السيوف، ونقطتها النبال، فدلت على أن عمارا القضاعي جندي قديم مغامر، عرك الوقائع وعركته، وخاض غمارها فغمرته، قال عمار لمن بجانبه في صوت خافت: لقد شهدت خمس وقائع مع هذا البطل، رأيت فيها من إقدامه وجرأته، وصدق درايته بالحروب، ما يكاد يذهل المجاهد عن كوارث الحروب. فأجابه صاحبه: لقد كنت إذا مشاهدا لا محاربا. فابتسم عمار ابتسامة مبهمة فيها ازدراء، وفيها رفق القوي بالضعيف، وفيها اعتزاز الشجاع بمكانته. ثم قال: كنت مشاهدا حقا، ولكن لا كما تشاهد اليوم أبا فراس، وهو يتمايل فوق جواده اللعوب في دروب حلب، وقد نصبت السلم على المدينة ورواقها، وأصبح أهلها لا يخافون إلا من سهام عيون الحسان! دعك يا صاحبي من ذكر الحرب والمحاربين فتلك دماء طهر الله منها سيوف الجبناء. - أتعد كل من لم يشهد الحرب جبانا؟ - إن اقتراب الروم من أطراف مملكتنا، وضغنهم القديم الموروث على المسلمين وملوك المسلمين، وادعاءهم أن بلادنا قطعة من مملكتهم الواسعة، اغتصبها منهم الإسلام بسيفه، ثم ما أعدوه لنا من غوائل الحرب؛ كالنار اليونانية والدبابات الهائلة، كل هؤلاء مما يوجب الجهاد، ويدفع كل مسلم إلى امتشاق الحسام، والموت في سبيل دينه ووطنه شهما كريما. - أما أنا فلن أمتشق الحسام، ولن أخوض غمار الهيجاء. فنظر إليه عمار في اشمئزاز، وقال ولسانه يتعثر من الغيظ: كنت أظن قبل أن أراك أن اللحى من خصائص الرجال. - وهي لا تزال من خصائص الرجال، وإن أمامك لرجلا. - رجل بلا قلب. - رجل لولاه ما امتلأت خياشيمك كبرا، ولا انثنى عطفك تيها عند ذكر الحرب والنزال. - من تكون؟ - أكون كما أكون. - بالله قل لي من تكون؟ فأجاب الرجل وفوق شفتيه ابتسامة ماكرة: أنا يا سيدي الشجاع المغوار صانع سيوف، لولا يده هذه ما جردت أنت ولا قائدك أبو فراس في الحرب صمصاما.
فضحك عمار طويلا، ومد يده إلى صاحبه في سرور، يشعر به من وجد في عدو صديقا جديدا. ثم أخذ يشد على يده ويهزها هزا، ويقول: صانع سيوف؟! حقا لولاك ما حملتنا إلى الجهاد قدم. نعم يا صاحبي، أنت لا تشهد الهيجاء، ولكنك حقا نون النصر فيها وصاده وراؤه، ولولاك ما عز للمسلمين جانب، ولا خفق على حصونهم علم. انظر؛ ما أظن أبا فراس إلا ذاهبا إلى قصر الرحبة. - إني لمحت في وجهه كدرة الغضب، وأخشى أن يكون قد جاء إلى الأمير نذير جديد من قبل الروم. - أظنهم سيقضون وقتا طويلا يلعقون فيه جراحهم، بعد هزيمتهم في «سروج». تلك كانت موقعة رائعة حقا. لقد زحف فيها الروم علينا في عديد الحصى، وقد اشتجرت رماحهم حتى سدت الأفق، وصال بطاريقهم، ووثبت دباباتهم، وتطايرت نيرانهم التي لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، وقد أعجبتهم في ذلك اليوم قوتهم، وزهاهم ما أجلبوا به من خيل ورجل وعدة وعتاد، وزلزل المسلمون زلزالا شديدا، واتجهت عينا سيف الدولة إلى السماء في رجاء المستغيث، حتى إذا اشتد الكرب، وبلغت القلوب الحناجر، سمعنا على الرغم من لجب الحرب زمازمها، صوتا مجلجلا يصيح: إلي إلي أيها المجاهدون! إن أبا فراس قائدكم المفاخر بشجاعتكم يدعوكم لتخطفوا ثمر النصر من أيدي هؤلاء العلوج. إن دباباتهم لن تغني عنهم اليوم شيئا، وإن قلبا يملؤه الإيمان، وذراعا تشدها العزيمة، أقوى من كل ما جمعوا وعدوا. إننا أيها الأبطال لم نجاهد لأرض وقلاع، وإنما نجاهد لدين وتاريخ ومجد قديم. إن الروم إذا برعوا في الحرب فهم في الفرار أبرع إذا حمي الوطيس، وصدقت الحملة. إلي إلي أيها المجاهدون، ثم إلى الجنة إلى الجنة أيها الشهداء! وما كاد يتم نداءه حتى وثب بجواده نحو الحصن، ونحن خلفه كالأسود الغاضبة، ريع حماها، وديس عرينها، وتكاثر حوله الروم فكان يطوح برؤوسهم يمنة ويسرة، كما ينثر الزراع الحب. حتى إذا وصل إلى القمة خلع راية الروم، وقذف بها في التراب ثم صاح: الله أكبر! الله أكبر! فردد الجيش صيحته، وتواثب المسلمون على الحصن، حتى أجلوا الروم عنه، فانطلقوا خلف بطاريقهم في سرعة الريح يلتمسون الفرار، وعاد المسلمون بالنصر والأسرى والأسلاب والغنائم. - لقد كان ذلك فتحا مبينا. - وسيتلوه فتوح لو اتحد العرب، وكانوا يدا على من سواهم. عم صباحا يا صاحبي، واعمل في طبع السيوف ليل نهار، فإني أخشى أننا لا نزال في بداية صراع طويل الأمد.
Página desconocida