192

Series of Ambitions - The Prelude

سلسلة علو الهمة - المقدم

Géneros

إهدار أوقات الآخرين ومضاره
بلغني منذ مدة عن أحد الإخوة أنه كان يحدث أخًا له فيقول له: إن السنة أنك إذا أتيت فاستأذن ثلاث مرات، فإن لم يؤذن لك فارجع.
فقال: والله لو عملتها معي فلن أدخل بيتك أبدًا! فأين الالتزام؟! وأين التحاكم إلى ما أنزل الله؟! وأين الذي ندعو الناس إليه؟! وأين الحكم بما أنزل الله ﷾ والرضا بحكم الله القائل: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥]؟! فإذا كان الوقت ليس له عندك قيمة فراع أحوال الناس، فإذا كنت متأكدًا من أنك ما ذهبت إلى فلان إلا لأن الوقت مناسب لك فهل أنت متأكد من أنه مناسب له هو؟! خاصة في هذا الزمان، فأنت ترى كيف أن الناس الآن مشغولون، خاصة الذي يريد أن يلتزم بدينه ويؤدي واجباته في توازن ووسطية، فالإنسان يعيش في صراع في محاولة كسب الحلال، وفي طلب العلم، وفي تربية أولاده، وفي العبادة، وفي تلاوة القرآن، وفي الحفظ، وفي قضاء حاجات الناس، وفي كل هذه الأشياء، فهذا الوقت هو رأس المال الذي يتعامل به، وليس الأموال، بل عنده ما هو أكمل، وهو الوقت، فلابد للإنسان من أن يستوثق من أن وقت الشخص الذي يزوره مناسب لهذه الزيارة، ثم يحدد موعد لابتداء الزيارة وموعد لانتهائها؛ بحيث لا يأتي قبل الموعد ولا بعده، وإذا أتى يلتزم بهذا الموعد، أما هذه الأوضاع التي توجد بيننا فهي من أشد مظاهر عدم الفقه بقيمة الوقت، ونحن نسمع عن الكفار في بلاد الكفار الحرص على الوقت، وللأسف الشديد أنهم مشغولون بالدنيا وبتوافه الأمور، ومع ذلك عندهم تقديس الوقت وتعظيم الوقت شيء مهم، وهذا أقرب -بلا شك- إلى روح الإسلام مما عليه كثير من المسلمين المفرطين في هذا الأمر.
فهذا الأمر لولا أن الله ﷾ يعلم أهميته لما أنزل سورة صدرها بقوله ﵎: «سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا»، وكل القرآن أنزل، لكن خص هذه السورة ليلفت أنظارنا إلى خطورة الأحكام التي نزلت في هذه السورة الكريمة، سورة النور، قال ﷿: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور:١]، فنزلت في هذه السورة آيات الاستئذان وآداب الاستئذان لخطورة هذه الطريق، أليس في القرآن الكريم قوله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾ [النور:٢٧] إلى آخر الآيات المذكورة في ذلك؟! ففيها تفاصيل في منتهى الدقة والانضباط في المحافظة على الوقت، ومنها قوله ﷿: ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ﴾ [النور:٢٨]، والذي يقول هذا ليس هو فلان ولا علان، وإنما هو الله ﷾.
وإنه لمؤلم جدًا، وفي غاية الأسف مخالفة هذه الآداب، والحقيقة أن الإنسان يتحسر لهذا الأمر، فأين السلفية؟! وأين احترام الكتاب والسنة؟! وأين الحكم بما أنزل الله في خاصة أنفسنا؟! إن بعض الناس ما زال حتى الآن يجهل أن الاستئذان إنما جعل عبارة عن كون الوقت مناسبًا أم غير مناسب.
ولكن كثيرًا من الإخوة -مع الأسف- يفهمون أن معنى الاستئذان هو كون الشخص الذي يريد أن يزوره موجودًا أو غير موجود، وهذا ليس من الإسلام في شيء، فالإسلام حكم الله ﷾، والاستئذان معناه كون الوقت مناسبًا أم لا، وليس معناه أن المرء موجود أو غير موجود.
وكنت في مرة من المرات مشغولًا ببعض الأشياء، فأتى إلى أحد الإخوة في وقت غير مناسب على الإطلاق؛ لأنه كان قبل الدرس بساعة أو ساعتين، وكنت مشغولًا بإعداد الدرس، فما فتحت الباب؛ لأن هذا حق شرعًا، فوجدت أن الأخ وجد في نفسه موجدة شديدة، وكتب ورقة كلها حسرة وألم، يقول: لقد سمعت صوتك في الداخل وأنت تقرأ القرآن، ومع ذلك لم تفتح لي! وهذا عدم فقه بهذا الحكم الذي لا يوجد أحد مستغنٍ عن أن يبقى هذا الحكم وينفذه ويحترمه، فكل واحد منا له بيت، والله ﷾ امتن علينا فقال: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾ [النحل:٨٠]، فالإنسان بعد انتهاء عمله سيذهب إلى بيته، فربنا ﷾ جعل حرمة للبيوت، خاصة في حق طالب العلم الذي وقته عنده غالٍ كنفسه وكروحه، فليس المقصود بالاستئذان أن الإنسان يسأل عن كونك موجودًا أم لا، لأنه ممكن أن أكون موجودًا وبصوتي أقول لك: ارجعوا هو أزكى لكم.
كما أمرنا الله ﷾؛ لأن البيوت أسرار، فما يدريك كيف أحوال أهل البيت؟! فقد تكون في البيت عورات، وقد يكون عند صاحب البيت مشكلة شخصية لا يحب أن يحضر أحد ويسمعها، ويمكن أن يكون الإنسان مشغولًا بمصلحة في دينه أو في تربية أولاده؛ لأنه إذا انشغل فقط بمشاكل الناس أو مشاغل الناس وترك حصنه من الداخل مخربًا فسوف يسأله الله عن ذلك، فمن الذي يعي المسئولية حتى يوجد هذا التوازن في الواجبات الكثيرة؟!
الجواب
هو صاحب البيت، فهو أدرى بحاله، وبأي شيء يضحى وبأي شيء لا يضحى، فهو الوحيد الذي يسأل أمام الله عن الموازنة بين واجباته، وأنا لا أقصد شخصًا معينًا، فإن هذا الغيرة موجودة عندنا، وأغلب الناس الآن ليس عندهم الفقه بهذه الحقيقة، فالاستئذان هو عن كون الوقت مناسبًا أم لا، فإن قال لك صاحب البيت: ارجع -ولو بصوته- فلا تقل له شيئًا.
والحقيقة مريرة جدًا في هذا الأمر، ولا أريد أن أخرج عن الموضوع، ولكن لكون المشكلة موجودة، وكثرت شكاوي الإخوة والأخوات في هذا الباب تعرضنا لها.
وقد حدث بعض إخواننا في الدعوة أنه هجم بعض الإخوة على بيته بالطرق الشديد على الباب في منتصف الليل أو بعد منتصف الليل، وكان طرقًا شديدًا، مع أن الناس العاديين غير الملتزمين قد لا يقعون في مثل هذا، فالطرق الشديد على الباب يفزع أهل البيت، ويظنون الظنونًا، وهذا -بلا شك- أذى، وهذا تفزيع وترويع للمؤمن وللمسلم، فأين هذا من السلف الذين كانوا يطرقون أبواب الشيوخ بالأظافر؟! أين هذا من ذاك؟! وقد تجد إنسانًا امتحان في الصباح، فيقول لضيوفه الذين أتوا إلى البيت في الساعة الحادية عشرة أو الثانية عشرة: عندي امتحان في الصباح.
ومع ذلك لا يبالون بالساعة، ويوقعون الضرر بالأخ حتى يعيد سنة كاملة بسبب هذه الزيارة التي آذته وأثقلته وأرهقته وعطلته عن مصالحه! فهذه أمثلة من الإضرار، والرسول ﵊ يقول: (لا ضرر ولا ضرار).
وبعض الإخوة يكونون فتنة لآبائهم، فبعضهم يقول: أبي يقول لي: لا تصل في مساجد الإخوة.
أو: لا تخرج إلى المساجد.
فما هو السبب؟! إنك تشتكي من أبيك أنه يمنعك عن الصلاة في الجماعة وأنت الذي فتنته، فلو أنك عودته أنك إذا أذن المؤذن خرجت إلى الصلاة، ثم رجعت فورًا بعد الصلاة لأداء واجبك أو استذكار واجبك، أو لعمل أي شيء من واجباتك لما حصل هذا الوضع؛ لأنه يحصل للإخوة مؤتمرات بعد الصلاة، وهذا يوصل هذا، وهذا يذهب مع هذا بطريقة عشوائية، وكأن الوقت لا قيمة له، فلو أن أباك أو صاحب العمل الذي يتخذ معك هذا الموقف رأى منك أنك تخرج إلى الصلاة وتعود فورًا لما ضغط عليك هذا الضغط، ولما حاول أن يفتنك عن صلاة الجماعة، فنحن الذين نتسبب في فتنة الناس، فالذي يعمل عند رجل لو أنه صلى الفرض وعاد إلى المكان ثم صلى هناك النافلة -مثلًا- لما حصل عليه ضغط بترك صلاة الجماعة، ولولا الصلاة لما ترك المرء بيته وذهب إلى المسجد، فلو أنه كلما خرج إلى الصلاة يمكث -مثلًا- نصف ساعة بعد الصلاة بسبب تعطيل أحد الأخوة له، حيث يكون عنده عمل معين، كذهاب إلى طبيب أو لشغل، أو كان عنده موعد من المواعيد المهمة التي يشق تأجيلها، فكل من صرفه عطله، فأي إضرار يكون أشد من هذا الإضرار؟! فلابد من أن تكون متأكدًا في البداية من أن الوقت مناسب أم لا، أما أن الإنسان يخرج للصلاة، ثم يُعطل في كل صلاة، أو يعطل الإخوة المصلون بعضهم بعضًا فهذا نوع من الإضرار الذي ينبغي أن نتركه.
وصحيح أن كثيرًا من النصائح تكون مؤلمة، ولكن لابد من المصارحة بكثير من هذه الأخطاء التي تظهر منا.
والذي دفعنا إلى هذا الاستطراد هو قول هذا الإمام الجليل ابن سكينة الذي كان لا يضيع شيئًا من وقته، يقول يحيى بن القاسم: كنا إذا دخلنا عليه يقول: لا تزيدوا على: (سلام عليكم، مسألة) لحرصه على الوقت.
أما أن تخاطب الشيخ الذي تسأله في التلفون قائلًا: كيف الحال؟! وكيف الأولاد؟! وتأتي بمقدمات طويلة ثم بعد ذلك تأتي بالسؤال فلا.
وبعض الإخوة يتصلون بي من وراء البحار، والأخ المتصل حينها الظاهر أنه يدفع مبالغ كبيرة في المكالمة، ومع هذا يضيع الوقت فيما لا فائدة فيه.
فكأن هذا الشيخ يقول: وقتي أغلى عندي من هذه الدولارات التي يدفعونها في المكالمات.
فلا تضيع الوقت في الأسئلة التي لا طائل من ورائها، وركز في سؤالك مكتفيًا بقولك: ما حكم كذا.
أما كثرة الثرثرة بلا طائل فهي من إنفاق الوقت بما لا يعود على العبد بفائدة.

12 / 7