كثيرون منا لا يعرفون السباحة، وما انغمسوا في البحر قط: هؤلاء تفوتهم نشوة الانطلاق في الماء المنعش، ولا يعرفون لذة الابتراد متحررين من أثوابهم.
تحرروا من أثواب الأنانية والتقتير وانغمسوا في بحر العطاء. أعطوا القليل أو الكثير. إنكم تحسنون إلى أنفسكم إذ تحسنون إلى سواكم. أعطوا من الوقت والجلد والمال خدمة عامة مجردة. إنكم إذ ذاك تقتربون من أخيكم الإنسان.
قلت في بدء خطابي: إني لا أعرف إن كنت حاصدا أم زارعا، شاريا أم بائعا. أما الآن فقد وضح الأمر. لقد جئت إلى هذا المعهد الكريم لأبيع قافلة جمال ولا أدري ما حظي في هذه الصفقة. كل ما أعرف أنه في مثل هذا السوق أحب أن أتجر.
الأعمدة السوداء
هذه أبهج حفلة حضرتها أو خطبت فيها. لن أنسى كيف مشى ذلك الشيخ المثلج الشعر تسبقه دموعه نحو منبر ليلقي كلمته ويتقبل وسامه. كانت الحفلة في بناية الأونسكو والقاعة شبه ملأى، ومرح الحضور يعلن أننا في مهرجان. عفو القارئ إن اعترفت أنني خلال الحفلة كنت أزغرد في نفسي: «أكثر هذا الجمال من صنع يدي.» فلقد كانت تكريما للشاعر وديع بستاني، الذي ترجم من الهندية إلى العربية ملحمة «مهيرانا»، وطبعتها جمعية متخرجي الجامعة الأميركية يوم كنت رئيسها. من خطباء الحفلة تلك: سعيد عقل، وعبد الله العلايلي، وكمال جنبلاط، وفؤاد أفرام البستاني.
سألت المحتفى به حين لقيته لأول مرة: بماذا أناديك؟ أستاذ؟ لفظة لا تتناغم مع الشاعرية. وليس لي أن أدعوه باسمه عاريا. أجاب أديب الملاحم الذي نحتفل به اليوم: «نادني يا عمي. أنت لا تدري أنني كنت صديقا حميما لأبيك.»
فيا عمي، بل يا عمنا جميعا، لا تحضرني عبارة أحييك بها أجمل من المثل اللاتيني: «الفضيلة تتوج رأس من يعبدها.» وأنت عبدت الفضيلة من زمن بعيد، فزانت رأسك بتاج ليست «المهابهاراتا» إلا جوهرة هندية جديدة تترصع فيه.
كثيرا ما واكب الإنتاج الأدبي جهدا عمليا فيه غمار. فكم وراء قصة من قصة، وخلف رواية من رواية!
وإن لهذه الملحمة ملحمة غير معروفة، كانت آخر صفحة فيها شاشة ظهر عليها مطران ودكتور وجريح ومجنون، وكبير المجانين، وكيلو من «النفتلين»، وخمسمائة متر ماء، وضيعة الدبية وعاليه وبتدين، وبالطبع بعقلين، وأربعة آلاف من متخرجي الجامعة الأميركية.
كان ذلك منذ سنتين حين شخصت إلى كاهن الشوف سيادة المطران بستاني منتدبا لمهمة سياسية ازدوجت بمحاولة الحصول على خمسمائة متر ماء، تضاف إلى ألفي متر نالتها بلدتي بعقلين من كرسي المطرانية المارونية في بيت الدين.
Página desconocida