أما مجالسه فليس من الحق أن نختصه بالذكر منها، كانت مجالس الأدباء في «سبلنددبار» في القاهرة، «وتباريس» في بيروت، مجالس طرافة وفكاهة وفكر ورواية. كان ذلك في الماضي البعيد يوم كان الحديث فنا أدبيا، ويوم لم يتبرم الناس بعضهم ببعض، فيستعينون على طرد سأمهم وضجرهم الواحد من الآخر بلعبة «رولنس».
ما الذي تركه هذا الشاعر الأديب؟ أريد أن أستعمل أدق الموازين وأقسى قواعد النقد، فأجيب أن إنتاجه الجيد يقتصر على بضع مئات من أبيات الشعر؛ بعضها خالد، وحفنة من المقالات قليل منها سيثبت على الدهر. وترك ذكرى حياة عبلة مفعمة بالمروءات والأنس والحب والإخاء.
كنت في دار الكتب استمع إلى محاضرة تلميذه الآخر - أخي خليل - وحانت مني نظرة إلى حيث ثبتت صور البارزين من اللبنانيين، فلمحت صورة وديع عقل، وأحلف أني سمعت وديعا يسألني كما كان يسألني عشرات المرات في سنوات العشرين كلما سبقت عمي أمين إلى مجالسه، سمعت وديع عقل يسألني: «أين أمين؟ متأخر كالعادة!» فإلى وديع عقل وغيره من أصدقائه الجالسين خالدين على حيطان دار الكتب أقول: إن رفيقكم أمين آت إليكم بعد أيام؛ فقد تفضلت الحكومة اللبنانية فأصدر معالي وزير التربية مرسوما بتعليق صورة أمين تقي الدين في دار الكتب. فللحكومة اللبنانية بشخص معالي وزير التربية الشكر.
هنا أود أن أثب من ميعان العاطفة لأذكر لكم أمثولة أخيرة تلقنتها من الفاجعة العاطفية:
لقد أحببت هذا الرجل لأقصى ما في مقدرة رجل أن يحب رجلا. وفي سنة 1937 كنت في مغترب بعيد: مانيلا؛ الفليبين، وكان من عادتي إذ أنصرف من مكتبي أن أمر ببناية البوسطة. وقفت أمام صندوق البريد أرى من خلال زجاجه رسالة عليها طابع لبنان واسمي باللغة العربية. وقفت مشدوها خائفا دقائق طويلة ومفتاح الصندوق بيدي أتطلع إلى الغلاف ولا أفتح الصندوق. ومر بي صديق أمريكي فسألني ما لي واقفا كالصنم، أجبت أني أخاف منظر هذا الغلاف، فضحك هازئا قائلا: يا لك من شرقي معتوه عاطفة! وتناول المفتاح من يدي وسلمني الغلاف. كانت تلك الرسالة نعي عمي أمين.
لم أبك ولم أتفجع، بل ألهمتني الغريزة أن أدفع عني هذه النكبة فحدثت نفسي: إنني بعيد عن أهلي وأصدقائي. كثيرون منهم لا يراسلونني، ولكني أعلم أنهم أحياء أحباء إلي. إذن فلأحسب أن هذا الذي جاءني نعيه لا يزال حيا بعيدا عني، ولكنه لا يراسلني.
إلى الذين يفجعون بحبيب، أنصح أن يحاربوا الحزن بهذا الخداع العقلي. ترى أهو حقا خداع أم حقيقة؟ كثيرون من الرفاق يغتربون إلى كندا وكولومبيا والأرجنتين؛ بعضهم يرجع إلينا، وبعضنا يغترب إليهم، وآخرون يبقون هناك، ونفنى هنا من غير أن نتراسل.
الموت هو اغتراب. في هذا الحديث لم أقل «المرحوم»؛ ذلك لأنني أقنعت نفسي أن عمي أمينا اغترب عني، أو أنني لا أزال مغتربا عنه. حيلة الضعيف، ولكنها ناجحة.
علمتني الحياة
خطاب أذيع على الراديو
Página desconocida