La espada y el fuego en Sudán
السيف والنار في السودان
Géneros
يذكر القراء أننا أشرنا في السطور السالفة إلى كراهية الخليفة للمصريين واتساع دائرة الكراهية إلى حد أنه يمقت سماع أنغامهم، ومع ذلك كان يستصحب في رحلاته أفرادا ليسمعوه الأنغام المصرية وغير المصرية، إلا أنه لم يقلع عن فكرة الكراهية، فبدلا من سير اثنين من المصريين للنفخ في البوق وتوقيع النغم، كان يرافقه اثنان من السود، وكان الخليفة يلقب رأس المائة بكلمة «قبطان»، ولقب الأمير عنده «بكباشي»، أما القائد «أميرالاي».
لا ينسى المتكلم عن الخليفة أن يقول إن عبد الله كان في أكثر الأحايين يفتش ويراقب جنوده ليلا؛ حتى يثق من بقاء كل رجل من رجاله الحربيين في المكان الذي عينه له. وقد كان أكبر هم الخليفة موجها إلى مركز طليعة الجيش. وإزاء هذا التدقيق الشديد وتلك اليد القاسية، كان رءوس المائة والأمراء يدعون المرض في كثير من الليالي، فيذهبون سرا إلى بيوتهم وفي نفوسهم غصص وآلام، فيفرجون عنها بإظهار استيائهم لذويهم.
تشتمل أعمال الخليفة العامة على ترديد الصلوات الخمس يوميا في الجامع الكبير، فعندما يبدو السحر يؤدي الخليفة صلاة الفجر، وبعد ذلك يقرأ المحتشدون بعض الآيات القرآنية في حضرة المهدي، ويستغرق ترديد القرآن وبعض الصلوات الخاصة مدة تقرب من ساعة.
وبعد ذلك يعود الخليفة إلى مخدعه الخاص، ولكنه في بعض الأحايين يخالف ذلك الترتيب في المسجد؛ ليتحقق بنفسه مبلغ إذعان سكان أم درمان لأوامره الدينية الخاصة بحضور الصلوات الخمس حضورا منظما. أما صلاة الظهر فيقوم بها الخليفة حوالي الساعة الثانية مساء، وبعد ساعتين أخريين يؤدي صلاة العصر التي يذكر فيها المصلون بعد تأديتها بعض أقوال دينية، ولا تكاد تغرب الشمس حتى يؤدي الخليفة صلاة المغرب، ثم ينتهي بعد ثلاث ساعات إلى الصلاة الخامسة؛ وهي صلاة العشاء. وفي كل من الصلوات الخمس يصلي الخليفة في محرابه القائم أمام صفوف المصلين. وذلك المحراب بناء جميل رباعي الشكل، مكون من أعمدة رفيعة مخروطة الشكل، يعلو كلا منها طبقة حديدية صلبة. ولا ريب في أن الخليفة يستطيع أن يشاهد كل ما يحيط بمحرابه وهو في حالة هادئة ومكان أمين.
هذا هو المحراب الذي يجلس وراءه مباشرة ابن الخليفة، فالقضاة، فأشخاص قلائل يختارهم الخليفة من أخصائه. أما الجنود الذين يحرسونه فيجلسون على جانبي المحراب، ويظل الجنود السود في الجوانب التي تحيط بالمسجد ملازمين سورا ضخما يفصل بين المسجد والميدان. وإلى جانب الضباط أماكن مخصصة للأمراء وأغلب رجال القبائل الغربية، وقد عينت لأولئك الجهة اليمنى. أما الناحية اليسرى فيجلس فيها بعض الأتباع وقليلون من العرب المنتمين إلى الخليفة «علي واد هلو» ثم أنصار الجعليين والدنقليين، ووراء أولئك جميعا يجلس المصلون من المسلمين في صفوف تترواح بين عشرة واثني عشر، حتى إذا ما بدأ الخليفة تلاوة صلاته رددها المصلون.
وعلى أية حال، فإن المصلين لا يقلون عن بضعة آلاف. وبما أن الخليفة محدود الدائرة من موقفه بالمصلين، فإن الأمراء الظاهرين وبعض ذوي النفوذ من رجال القبائل مضطرون إلى معاونة الخليفة في تأدية الصلاة. ولئن كان في صدر الخليفة غل أو حقد على شخص من الأشخاص، فإنه لا يتردد في الاقتصاص منه وإلزامه بحضور الصلوات الخمس في المسجد؛ بحيث يراقبه هو وغيره - من المغضوب عليهم من الخليفة - بواسطة أشخاص معينين لهذا الغرض.
السبب أن الخليفة - في كل هذه التحرجات وذلك التقييد الديني - مدفوع بعامل صيانة الدين، ولكنه لا يرمي إلى ذلك فحسب، بل يبغي إلى جانب ذلك الاحتفاظ بسيادته ونفوذه على أتباعه جميعا. وإنه لواجب علينا في هذا الصدد أن نقول بأن الكثيرين من المصلين يسكنون في جهات بعيدة عن المسجد الكبير؛ فمن الشاق عليهم أن يذهبوا من منازلهم إلى المسجد ويعودوا إليه خمس مرات يوميا، وكل ما يستطيعون عمله هو أن يجتمع بعض الناس في منازل أصدقائهم، وهذا ما يمقته الخليفة مقتا شديدا؛ لأنه يخشى ما يسمونه «حياة الجماعة ». وقد كان الخليفة عبد الله على اعتقاد ثابت في أن هذه الاجتماعات المذكورة البعيدة عن رقابته لا بد أن تنتهي إلى المسامرات والتكلم في شئون الجماعات، ومثل ذلك الكلام يصل إلى بحث أعمال وشئون الخليفة؛ فهذا ينقدها باللوم والتجريح، وذلك يرضى عنها خائفا، وآخر يمتدحها. فلا عجب أن نرى من الخليفة جهدا شديدا مبذولا في سبيل تأييد فكرة اجتماع المسلمين تحت رقابته هو وحرسه الخاص.
نرى من الأقوال السابقة الخاصة بإقامة الفرائض الدينية أن الخليفة عبد الله أول من يصلي بالناس في المسجد الكبير، ولكننا لا ننسى أن كل إنسان معرض للمرض الذي يحول دون قيامه بما تعود تأديته يوميا؛ وإذن الخليفة عرضة لذلك المرض أو لأي عذر طارئ يمنعه من السير خمس مرات يوميا إلى المسجد الكبير. وبالفعل تغيب عبد الله في بعض الأيام عن القيام بعمله الديني الكبير، فكان يخلفه في الإمامة أحد القضاة أو ضابط من قبيلة تكروري، على أن يكون ذلك الضابط مشهورا بين الناس بصلاحه وتقواه. وعلى أي حال لا يسمح مطلقا للإمام الذي يقوم بعمل الخليفة أن يقف في المحراب، بل يكون في قيادته الدينية قائما في أول صف مجاور لذلك المحراب العظيم. ومع أن القانون الديني يحتم على الخليفة «علي واد هلو» أن يمثل الخليفة عبد الله في تأدية الفرائض الدينية أثناء غيابه (عبد الله)، فإن «علي واد هلو» لم يكن يمثله في أغلب الأحايين.
كان الخليفة عبد الله في حياته اليومية يتلقى بين صلاة العصر وصلاة المغرب عدة تقارير، ويستمع الأنباء الخاصة بشئون الأمة، ويطلع على الخطابات الواردة له، ويقابل القضاة والأمراء الذين سمح لهم الخليفة قبل يوم المقابلة بالتحدث معه، وإلى جانب أولئك كان يسمح الخليفة في ذلك الميعاد من كل يوم بمقابلة الأشخاص الأخصاء الذين يرغب التحدث إليهم.
أما مراسلاته البريدية الخاصة فمحدودة وسائرة في سبيل طبيعية، وهو يحتفظ لذلك بما يتراوح بين ستين وثمانين جملا لحمل البريد العام، على أن يتولى رقابته أشخاص مخصوصون بصفة عمال بريد. ولا يذهبن تصور القارئ إلى أن أولئك محصورو العمل في بلد الخليفة، وإنما هم موزعون في جميع أنحاء إمبراطوريته؛ حيث يتلقون أوامره وتعليماته فينفذونها عاجلا.
Página desconocida