عندما قالت لي ذلك بصيغة الأمر، أعادت لي ذكريات كنت قد نسيتها تماما، فمنذ سنين لم أسمع صيغة الأمر من أنثى! كان ذلك قبل عشرين سنة، حين قالت لي والدتي قبل وفاتها بسويعات: آكي! وأنت تعيش حياتك، لا تنس أن تحياها، لا تنس أن تكون لك عائلة.
كيف تنبأت والدتي أنني لن أكون عائلة طوال تلك السنين؟ لا أعلم. نعم، لقد نسيت صيغة الأمر ونسيت ذاك الأمر ونسيت أمورا كثيرة. مر ذاك الشريط من الأفكار أمامي بينما كانت الدكتورة ساي تنظف الأرضية ونسيت حتى أن أشكرها، نظرت إلي مجددا وقالت: بروفيسور هل تسمعني؟ - نعم، سأقوم بتبديله، شكرا.
عدت إلى غرفتي وأنا ما زلت أرى وجه والدتي، ومدين لتلك المشاكسة، لكن من حسن حظي أني قمت برد الدين في الأسبوع الذي تلاه مباشرة. وذلك حين وصلت الدكتورة ساي من بلدتها وكانت تود القيام بركن سيارتها. حين رأيتها أصبت بالدهشة، فهي لا تمتلك أدنى فكرة عن كيفية المناورة لركن السيارة بطريقة صحيحة، رغم أن مواقف السيارات عريضة في مرآب المركز ومع ذلك كانت تصارع المقود والمرايا. كنت أراقبها وهي لا تعلم أن أحدهم في المرآب. ظلت تحارب ما حولها عشر دقائق إلى أن أشفقت عليها، تركت سيارتي وتوجهت نحوها: دكتورة ساي، أأساعدك؟ - لا مانع لدي، فقد انتهت طاقتي تماما، منذ الساعة الخامسة وأنا خارج المنزل، وعندما أكون مرهقة، لا أستطيع التركيز إطلاقا، تفضل المكان لك.
وانتقلت إلى المقعد المجاور من غير أن تخرج من السيارة بحركة رشيقة جدا لتعطيني المجال. كانت سيارتها صغيرة مقارنة على ما اعتدت عليه، عدلت وضع الكرسي الأمامي كي يناسبني. كان صوت الأغاني عاليا جدا وكانت الدكتورة ساي تكمل انسجامها مع تلك الأغاني مع أننا على وشك النزول. تفوح من سيارتها رائحة لطيفة على عكس الكثير من سيارات أصدقائي التي تفوح منها رائحة السجائر أو الطعام السريع. على المرآة الأمامية هناك أشكال صغيرة تتراقص هنا وهناك. كل شيء في هذه المساحة الصغيرة كان لطيفا، وبه تفاصيل لطيفة لم أعتد أنا شخصيا عليها. عندما ألقيت نظرة سريعة على الحائط الذي خلف السيارة كي لا نصطدم به، لاحظت وجود كثير من الأشياء على المقاعد الخلفية، يبدو أنها مثلي، لا تستخدمها أبدا، أو بالأحرى لا أحد يستخدمها، فأنا لا أذكر أن أحدهم قد جلس على المقاعد الخلفية لسيارتي، ومن لا يعلم هذا الشعور لا يستطيع تمييزه في سيارات الآخرين.
على أي حال، قمت بركن السيارة في مكان مناسب فشكرتني جدا، نزلنا من السيارة فسمعت صوتا كما لو أنه صوت انفجار، لا أعلم لم أغلب السيدات يقمن بإغلاق أبواب السيارة بهذه الطريقة! فقد لاحظت هذه الملاحظة منذ بدأت التعامل مع زملائي وزميلاتي في العمل أكثر. نعم فقد بدأت مشاركتهم العديد من النشاطات يوميا. بت أتردد أكثر على مطعم المركز لمشاركة الموظفين طعام الغداء، أحتسي فنجان قهوة مع بعضهم، أتنزه قليلا بين ساعات العمل مع الطلاب، أشاركهم أحاديثهم العامة التي لا علاقة لها بالعمل أو الأبحاث.
بدأت بحفظ وجوههم أكثر وربطها مع أسمائهم، فسابقا لم أكن أعلم إلا الأسماء وهي مرتبطة بالإنجازات، كما لو أننا آلات! أما الآن فأنا مستمتع جدا بمعرفة تفاصيل عن حياتهم الشخصية، عن طريقة كلامهم وتعابيرهم، عن شخصياتهم وآرائهم. هكذا يكون حالي في كل أيام الأسبوع، ما عدا يومي الجمعة والسبت. فهناك موظف واحد يسرق انتباهي، تلك الابتسامة، هاتان العينان، وتلك الحركات العفوية، التعابير الطفولية، حركة اليدين، الثواني القليلة التي تسكن بها، ثم الانفجار العظيم حين يحل حماس الكون عليها، لمعة عينيها حين تتحدث عن شيء تحبه كما لو أنها برق يضرب في السماء. بت أستمتع بمراقبتها رغم انزعاجي الدائم منها في المكتبة، فما زالت تلك المرأة تحدث الكثير من الضجة هنا وهناك، وما زالت تزعجني في المكتبة في الليالي التي تقضيها في المركز. مضت عدة شهور على هذه الحال. لن أنسى ذاك اليوم حين نفد صبري، فقلت لها بينما هي منهمكة في التهام أطعمتها غير الصحية: سيدتي، هل تعلمين ضرر ما تفعلين؟
أجابتني بصوت بالكاد يفهم وما زال فمها ممتلئا بالطعام: عن أي ضرر تتحدث حضرة المدير؟
كان ذاك واضحا، حضرة المدير، إنها تسخر مني! تمالكت أعصابي وأجبتها: هذه الأشياء المبتذلة التي لا تتوقفين عن تناولها، سيدتي، عليك أن تذكري أنها مضرة بالصحة. عليك الاهتمام بصحتك في هذه المرحلة من عمرك! - عمري؟
ضحكت بصوت عال، اقتربت مني وقالت لي بصوت خافت: سيدي، عليك أن تتذكر أن الغليون مضر بالصحة، عليك الاهتمام بصحتك خاصة في هذه المرحلة المتقدمة من عمرك!
وكأننا في نزال، ما هي إلا نصيحة أردت أن أسديها لها. لقد طفح الكيل حقا، أخذت كتبي، نهرتها بنظرة ازدراء وخرجت من المكتبة. بعد أن رميت هذه الكلمات: لقد أصبح هذا المكان غير صالح للمطالعة!
Página desconocida