Voz desde la nevera: Una colección de cuentos
الصوت المتحدث من الثلاجة: مجموعة قصصية
Géneros
كان الحل الأوحد أمامها هو استخدام ذلك السائل الأبيض الذي اشترته من بائع بالشارع، ويقهر النمل قهرا. لقد تذكرت كيف استخدمته مع برص سابقا، وشد رحاله من المكان مهاجرا. المشكلة أن للسائل رائحة كريهة تعتصر الصدر، وتجبر التقزز على التقيؤ!
رشت السائل في المكان، وجميع الأركان. كادت أن تدهن به الجدران، وتحشو ذرات الهواء. وبقيت بعيدة عن الشقة لمدة ساعة، قضتها في التجول بشوارع وسط البلد، حيث عانت في العثور على بلوزة قطنية سوداء، كالمعتاد، وصادفت سيدة مرتدية باروكة؛ مما أثار ذهولها، باعتبار أن موضة البواريك انتهت منذ السبعينيات على الأقل، ورصدت زيادة عدد الشحاذين والمختلين عقليا عن الشهر الماضي. عادت إلى المنزل، ملاحظة تلاشي الرائحة، وبدأت في العودة لأنشطتها اليومية المحببة، وأهمها كتابة القصص القصيرة جدا على صفحتها بالفيسبوك، وتقليب كل المواقع الإخبارية على الإنترنت ... إلى أن فوجئت بنملة على قفاها!
التبسها الغضب وهي تخبرني كيف تحولت النملة إلى نمل، وتتابع ظهورهم في إيقاع لا يتغير؛ واحدة كل خمس دقائق. وأن النمل يتسلل من قفاها إلى ذراعيها بحرية، لا سيما وهي تجمع شعرها - بالمنزل - إلى أعلى في تسريحة «الكحكة». آآآه، لطالما عشقت ذلك في الفتاة، أي فتاة. هل لأنها كانت تسريحة أمي المفضلة؟ هل لأن زميلتي الطيبة الخفيفة الظل في رابعة ابتدائي، التي اعتادت الجلوس على الدكة المقابلة لي، ظلت بهذه التسريحة طوال السنة؟ لا أعلم، لكن ما أعلمه أن تخيلي لها بهذه التسريحة زرع وميضا في قلبي، ورغم إخفائي له جيدا فإني دعوت الله ألا يذبل قريبا.
بتفصيلات دقيقة وضحت كيف صعدت على سلمها لتفحص سقف الحجرة، مرتابة في وجود سرب هناك، وتساقط بعض منه عليها. ربما فعلت المروحة الدائرة على الشيفونيرة ذلك بهم، ربما يتكهربون من اللمبة النيون الملتصقة بالسقف، ربما ينتحرون برمي أنفسهم من أعلى، ألا تفعل الدلافين ذلك؟ قاطعتها لأهزر: ولكن الدلافين تفعلها بشكل جماعي، وليست واحدة كل خمس دقائق! تعاتبني بخفض رأسها، وإخفاض حاجبيها، وزم شفتيها. أغلق فمي بابتسامة فاضحة السخرية، لتكمل بصوتها الناعم اللين كوسادة من الفايبر أنها لم تعثر في السقف على أي سرب. وحتى لما وصل بها الحال لأن ترش كراسيها الخشبية والبلاستيكية بالسائل إياه، استمر ظهور النمل عليها. إلى أن وصلت إلى استنتاج صادم؛ فإذا ما كان النمل يظهر على قفاها، بشكل دوري، أيا كان موقعها في شقتها، فذلك يعني أن النمل ... يخرج من قفاها نفسه!
هنا ذابت سخريتي أمام الجدية، وانقلب سمير غانم إلى د. يحيى الرخاوي. دخل قلقها كهفا أكرهه، وامتدت قبضة عنيفة من ظلامه لتمزق قميصي. انتظرت أي تعليق يبدر مني، لكنها شعرت أن ما قالته صدمني بحق، فسألتني بابتسامة منهكة: «هو أنا اتجننت؟» هززت رأسي نفيا، مع إغماض عيني، محاولا تقويض قلقها، واستدعيت بسرعة قصص أطفال خيالية، وأفلام كارتون هزلية، مرطبا الجو بقولي: «لأ، وإنما لأنك عروسة حلاوة، فالنمل عايز يأكلك!» حاولت مقاطعتي بصوت عال، لكن صوتي كان أعلى، حاكيا لها قصة قرأتها في طفولتي عن صبي وحيد بنى كوخا من الحلوى ليعيش فيه، والنمل لا بد أن يكون في ذكاء هذا الصبي كي يختار سكناك. أشاحت بيدها ووجهها مستتفهة ما قلت، وأدرجت كلامي في باب العبط، ثم انصرفنا إلى كلام حملنا إلى شواطئ أخرى أقل صخبا.
بعد أسبوع، اتصلت بي، طالبة اللقاء على مقهانا الهادئ. صحيح كانت تجلس في دعة، لكن تحديقها في الأرض أزعجني، لأنه حركة لا تنتمي إلى قاموس إيماءاتها الذي أحفظه. بدأت بصوت خافت، بقي خافتا طوال الحوار على غير عادتها، إنها تحولت فعليا إلى جحر نمل. والنمل لا يخرج من بابه - أي قفاها - إلا حين دخولها إلى منزلها. في الخارج، ربما يخاف من الناس، من الحركة، من الرياح. إنما في البيت، هناك حرية وأمان بالمقارنة، والدفء أكثر ملاءمة للحياة.
رق قلبي، ظانا أن الجنون شيد معبده، وها هي تسوق نفسها إلى الرهبنة فيه. حاولت التماسك، وسألتها لماذا لا تضع أي طعام يغري النمل كي يخرج كله مفارقا جسدها، وهنا تحاصره بمياه، بمبيد حشري، بحيوان آكل النمل ... أي شيء ينهي الوضع. فقالت إنها قرأت عن النمل طيلة المدة السابقة، وعرفت أنه يقسم نفسه كالجيش، ويتبع نظاما مقدسا مثلهم، ولا يمكن أن يغادر موقعه بالكامل، وإنما يبعث بسرايا تستكشف، وتستطلع، وتخبر الآخرين بمكان الطعام، ووزنه، والأخطار المحيطة به، مختارا الطريق الأكثر سلامة إليه، والعدد المطلوب لإتمام مهمة حمله ونقله. أطلعتني منبهرة أن للنملة مفصل رقبة هو الأقوى بين كل مخلوقات الأرض، فهو القادر على حمل ما يضاعفه حجما ب 20 مرة! لم أشفق عليها، محاولا بكل جهدي تقمص وجهة نظرها، وأعتقد أني نجحت في تصديقها. أنا لم أكذبها عمري، وهي - على عكس أغلب من عرفت - ليست بكاذبة. وفي تلك اللحظة، شعرت بسمو عجيب. شعرت بقوة روحانية رفعتني إلى سماء رحبة، بهيجة. إنها لم تحك لأحد غيري. وهذا يعني أن مكانتي لديها خاصة. وحينما صدقتها، طبعت عيناها قبلة لعيني. إنها نظرة الغريق لمنقذه. فيها تعلق من نوع فريد، أشبعني.
نصحتها أن نذهب إلى طبيب، لكن في أي تخصص؟ أمي اعتادت تلقيني أن طبيب الباطنة بالذات قادر على تشخيص أي مرض. ربما سيرا على مقولة الحارث بن كلدة: «المعدة بيت الداء.» رضيت باقتراحي، واتجهنا إلى طبيب صديق لي. هو طبيبي القديم، ومن غزارة زياراتي له صار صديقي. إنه رجل مرح، يتناول - كما اعترف لي - كبشة مضادات اكتئاب كي يكون بهذا المرح، ويحتمل مآسي البلد والناس. في عيادته، ظنت الممرضة أننا زوجان؛ فظهرت لي أجنحة ضخمة من السعادة لم يرها أحد غيري بالطبع. وحينما شرعنا في الجلوس على كراسي الانتظار، تقاربت أصابعنا دون تخطيط على يدي الكرسيين المتلاصقين. أبعدتها بعد ثانية ممتعة منحتني انتعاشا لم يتبدد. وهي لم يبد عليها اكتراث بالأمر.
دخلنا حجرة الطبيب معا، ولخصت له أزمة الصديقة. دار في عينيه ارتياب خاطف، ميزت لاحقا أنه سبب تحاوره معها عن نفسها وحياتها، وظيفتها ومواهبها. كان يريد ما يطمئنه - ولو نسبيا - أني لم أحضر مخبولة إلى عيادته. لف شكوكه كعلبة بونبوني تشتريها من حلواني فاخر، ثم طلب منها الصعود إلى فراش الكشف النحيل وراء البارافان. وهبتني وشاحها. هذا الوشاح ... كم تمنيت الإمساك بك! لم ينس إطفاء التكييف كي يوفر لها الحرارة التي تقول إن النمل يظهر فيها. وخلال دقائق معدودة، اضطربت حركته، ثم غادر بارافانه، فاتحا مجموعة أدراج بدولاب أشبه بدواليب المصالح الحكومية، إلى أن وجد عدسة مكبرة، وما إن دخل بها وراء البارافان، وطالعت ظله ينظر منها، حتى سمعته - لأول مرة منذ يوم عرفته - يشهق في ذهول!
أفهمنا الطبيب أن الحالة نادرة، بل نادرة جدا؛ فالنمل يعيش داخلها، ويخرج من أحد مسام الجلد في منتصف القفا. «لماذا؟» كان ترفا لا يملكه كما قال. لكن العلاج قد يكون في يده بعد إجراء أشعات وتحاليل معينة، واستشارة أساتذته. ثم صافحنا وتوتر المفاجأة يفرض وجوده عليه، مودعا إيانا بكلمة: «اطمئنوا». راقت لها الكلمة، لكنها لم تعرف أنها «الإفيه» الذي يودع به كل مرضاه. على أي حال، كان واضحا إشراقها لتأكد صحة ظنها، وعند النزول لم تفعل شيئا غير شكري، رغم أن العلاج لم يأت بعد. امتنانها كان مطرا رأيته في الحلم زمان، ينهمر علي وأنا في بهو عمارة.
Página desconocida