Voz desde la nevera: Una colección de cuentos
الصوت المتحدث من الثلاجة: مجموعة قصصية
Géneros
اتجهت للطبيب. إنه رجل عجوز، كان يعالج أبي رحمة الله عليه. سمعه ثقيل، ولسانه أثقل. لا ينهض من كرسيه، أو يرفع نظارته من على طرف أنفه، أو يكوي قميصه الذي انتهت موضته من قبل أن أولد. لما سألته الحل، أزاح شعرا - لم يعد موجودا - من فوق أذنه، ومط شفتيه ناظرا إلى كرة بلورية على مكتبه، مفكرا بعمق، أو سارحا في نوع عشائه، أو حزينا على شبابه الذي راح. ثم التفت إلي كشخصية معلم البطل في الأفلام وهو على وشك إعلان سر الانتصار: «كل كتبك إللي انت مش عاوزها ...» تراجعت رقبتي للوراء في استغراب، بينما وضح كاتبا: «ده دوا ح يخليك تاكل الكتب بدون ما تحس بطعمها. وكل ما كان الكتاب سيئ، ومؤلفه غبي، ح ينزل على معدتك يكرهها في الأكل . وبكده تبقى ضربت عصفورين بحجر واحد؛ ح تعالج شراهتك، وح تتخلص من كتبك الوحشة!»
لأول مرة أعجب بالعجوز، وأراه فتيا، محطما للتقليدي، ناسفا للمألوف. شعرت فجأة بحميمية مع تجاعيده، ونبرة صوته، كأنه قريب لأبي الراحل يحمل طيفه، أو عم مجهول لي لم أنهل من محبته بعد. في الطريق، أخذت أتذكر عناوين كتبي التي لا قيمة لها، وكم كنت أتندر على مستواها الهابط أمام الجميع. وفي المنزل، وقفت أمام المكتبة، فاتحا مصاريعها على الآخر، في تحفز لاعب مصارعة متشوق للنزال، وواثق في الفوز.
بدأت بكتاب سخيف يشمل 120 صفحة من القطع الكبير؛ كان عن القيمة الفلسفية لرئيس سابق، ودوره كرائد للتجديد الفكري. أظن أن ذلك الرئيس السابق - وهو المصاب بجنون العظمة - لم يكن ليقتنع بحرف من هذا المجلد الثقيل النفاق، المبدع الكذب. أكلته بخفة كما آكل سندوتش من الدجاج المقلي المزعوم، من تلك المطاعم الأجنبية التي دخلت إلينا في عصر ذلك الرئيس ذاته. مسرحية كلها تمجيد في إنجازات رئيس مخلوع. ليس المستفز أن هذه الإنجازات انكشف زيفها عقب خلعه، وإنما أن المسرحية مكتوبة بركاكة وسماجة لا حد لها. الكتابة كريهة، فيها لزوجة متزلف كل ما فيه ذليل، وموهبة لا تساوي حفنة رمال. لكن الكتاب كان أقرب لكتيب، فهذا المنافق كان يمتلك فضيلة الإيجاز. كتاب سينمائي يجمع مقالات كاتب أقصى ما يستطيعه صفحة ونصف من القطع الصغير عن الفيلم الواحد. ليست مشكلتي صغر حجمه، ولكن ضخامة تفاهته. كلام سطحي يمكن لطفل أن يقوله، وربما ساعتها سيكون أكثر اتساقا وفطرية. المقدمة لناقد كبير، يفخم في الكاتب والمكتوب على نحو أراني بجلاء منظره والمؤلف ينقده مبلغا محترما. بلعته «على بؤ واحد» سعيدا بالتخلص من صفحاته الخرساء، وغلافه القبيح. مجموعة قصصية لكاتبة تتغزل في الريف، وتقاليده، وتفاصيله، بينما يهتف كل سطر فيها بأنها لم تزره يوما. لا ... لم ألتهمه. إنه يصلح لليال أعاني فيها من الضيق، حيث يتفرغ لإضحاكي باقتدار. رسائل بريدية قديمة مع شخص بقيت لفترة طويلة أمثل أنه صديق لي، بينما كان أمير المغرورين ، وملك اللحوحين، والإزعاج في صورة بشرية. حاولت الادعاء على نفسي أنه صديق في مرحلة عز فيها الأصدقاء. ثم منيت روحي أن الله سيجازيني خيرا عن مصادقة من أكره. لكن لا يمكن أن يجازي الله الكذب بالخير. لا يمكن. كتب في الاقتصاد والفلك والذرة لمؤلفين عرب وأجانب. لم يضايقني أي من أفكارها، وإنما ضايقني شرائي لها. إنها عار أخجل منه، وحان وقت محوه. فقد اخترتها بعناية، ووضعتها في الصدارة، ليس لأقرأها، وإنما لأفخر بها أمام الآخرين، محاولا إظهار عمقي في عيونهم، واقتناص مكانة زائفة. فعلها لواء كنت أعرفه، واحتقرته لذلك. لا داعي للكذب. للحقيقة جمهورها المخلص الغفير، حتى لو كان ضميري فقط. أكلتها مع المايونيز وعيش السن، شاعرا بشبع لم أعرفه إلا أيام طفولتي؛ حين أشرب اللبن بعد العشاء متجها للنوم راضيا مرضيا. ... لكن بعد بضع أيام، حدث ما لم أتوقعه. لقد صرت أثرثر مع زملاء العمل كأني محاضرة بلا نهاية. أقف على آذانهم، دون مغادرة أو استراحة، في تمكن يصلح للمنافسة في الأولميباد، بل موسوعات الأرقام القياسية. كيف أصبحت أتكلم وأتكلم أكثر مما أعمل؟! إن هذا لم يكن من سماتي، أو شيء أحترمه وأبغيه. إليك الأخطر؛ صرت أخاطب مديري بلهجة تقطر رقة، مع ابتسامة في عرض تليفزيونات ال
HD . أنا أكره هذا الرجل، وهو يعلم ذلك بوضوح، وشهدت جدران المكاتب - قبل موظفيها - على خلافاتنا المتقدة، أو لمزاتنا المتبادلة على البارد، لمرات ومرات، فماذا حدث؟! هو لم يتغير، لا يزال يصمم وينفذ مفاسده الصغيرة، ويترك عقد نقصه لتنبح في وجه الموظفين الراضين بالقهر اليومي والعصبية المجانية. الظاهر أني من تغير! لكن كيف؟! لاحظت الأمر غير السوي في سلوكي مع جارتي البدينة المجنونة، والتي تترك خرطوم تكييفها متدليا على حائط شرفتي، حتى هاجر الطلاء، وترك مكانه قشورا منفرة، بل بدأ الطلاء الداخلي، المقابل لجدار الشرفة في غرفة نومي، يهجرني هو الآخر، ويترك بدلا منه ذلك العفن الناتئ الوقح. إنها توقظني من النوم كل ليلة، باتصال تطالبني فيه بإزاحة قطتي التي تموء أمام باب شقتها ، على الرغم من حلفي لها بالله، والرسول، والمصحف الشريف، والكعبة الشريفة أني لا أملك قططا! لماذا اشتريت لها زهورا، وأغدقتها بأدب جزيل، بل تورطت في إخبارها بأنها جميلة، وعليها أن تفكر في الزواج بعد طلاقها الذي مر عليه 20 عاما؟! كأني صرت روبوتا مبرمجا، وأنا مسجون بداخله، أهتف بصوت نحيل، كما أفعل في الكوابيس، دون أن يسمعني أحد. حتى زميلتي في تدريس كورس اللغة الإنجليزية، الذي أشارك فيه ليلا لتحسين دخلي وتغيير الأجواء، هذه الزميلة ذات اللون الخمري انتبهت إلى تملقي صاحبة «السنتر» الجهولة المتحذلقة بطريقة فاضحة، وكذبي عليها بخصوص جودة الكراسي الجديدة، فرسمت ذات اللون الخمري، وطابع الحسن، جهامة على وجهها لم أصطدم بها من قبل، ثم ابتعدت عني لاحقا في لوم مستعص، أو عقوبة مغلظة، ليروح العبير الوحيد الذي كان يمتعني، ويشعرني بوجودي، ويهبني أملا في غد ناعم. هل نقلت لي الكتب الحقيرة عدواها؟! أكيد! هذه آثار جانبية لعلاج الطبيب. هو المجرم الأصلي. الله يخرب بيتك يا شيخ. سأزورك كي أنتقم منك. لا، سأجبرك على علاج هذا المرض الجديد، ثم أنتقم منك!
خلال 3 أيام، تلاشت معظم الأعراض ببطء، لكن بفاعلية، خاصة مع توقفي عن تناول الدواء، أو أكل الكتب. فانطلقت إلى عيادة الطبيب، محاولا ضبط أنفاسي حتى لا أتعامل معه بانفعال يفسد قضيتي. وهناك، وجدت العيادة فارغة. وبينما أستعد لدفع حق الكشف، هب التمرجي الضخم من وراء مكتبه الخشبي الصغير، وهو يسكتني بابتسامة مضطربة، ثم يمسك يدي - كما لم يفعل من قبل - دافعا إياي برفق للخارج. ظننت أنه ميز غضبتي المكبوتة، أو توتري الدفين، لكني وجدته يبلغني على السلم بصوت خافت، فيه مودة وشفقة، أن الدكتور مرض مؤخرا. هاجمه خرف الشيخوخة، وهو لا يعلم بعد. ظهرت الأعراض طاغية حينما كتب روشتات غير طبيعية لمرضاه؛ منها الزعيق في وجه الزوجة لمريض الصداع، وصفع مسئول حكومي لمريض القولون، والعمل في اللصوصية لمريض النحافة.
أحرق الأسى قلبي، وفشلت دموعي في إطفائه. أردت أن أدخل إلى حجرته، لأبوس جبينه، وأهزر معه، وأذكره بضحكات ماضية، كما أدركت فعل ذلك مع أبي قبيل وفاته. لكن التمرجي أخبرني أنه وصل إلى مرحلة يحادث فيها أشباحا تجري على الحائط، ويغني لمحمد فوزي دائرا حول نفسه، وفي الأغلب لن يميز شخصيتي أو يرد علي. عجز أي منديل عن تجفيف أشجاني التي فاضت، ورجعت إلى المنزل ألملم تماسكي.
بمرور الوقت، انسحبت أعراض الثرثرة والكذب والنفاق كلية، وعدت إلى طبيعتي، لكن بكل أسى، بقي الكرش كما هو، لا ينتهي أو يضعف؛ تماما كصمتي حين محاولة مصارحة زميلتي بشوقي إليها، وإعجابي بلونها الخمري، وطابع حسنها، بل الهالات السوداء أسفل عينيها. وازدادت الشراهة لتشمل مزيدا من الطعام، والمجلات، وبعضا من خشب المكتبة، والأرضية.
البطيخ في البحر
تعال نزرع البطيخ في البحر!
جملة تبدو لك، ولكل عاقل، عبثية. لكنه سألني إياها في صوت يخرج من صدره. إنها نفس النبرة العميقة التي أخبرني بها بأن زوجته مصابة بمرض عضال، وأن عمه أفلس بائعا كل ما يملك، وأنه يكره الحاكم معدوم الخطة الذي انتخبه الجميع. إنها نبرة جادة، صدوقة، لا أخطئها.
Página desconocida