ولكني قد بعدت أشد البعد عما كنت أريد أن أتحدث إليك فيه، وهو ملاهي باريس، وقد يحسن أن أعود إلى هذا الحديث.
لم أكن حسن الحظ هذا الصيف، وما أظن أن غيري كان أحسن حظا مني، فقد وصلنا إلى باريس أيام الراحة حين يتفرق عنها الممثلون النابهون ليجوبوا أقطار الأرض الفرنسية والأجنبية، وليعرضوا فنهم على المصطافين في سواحل البحر ومدن المياه، وحين يستريح الكتاب استعدادا لفصل الشتاء؛ إذ يعرضون آثارهم الجديدة على الجمهور الباريسي، وقد عاد من مصايفه إلى باريس، وحين تجتهد الملاعب التمثيلية في أن تستغل ما لديها من قصص الفصل الماضي لتلهي بها السائحين الذين يمرون بباريس، ومع ذلك فقد طربت حقا، وضحكت كثيرا.
ولقد يكون من العسير أن أذكر دون أن أضحك قصة شهدتها في ملعب «الباليه رويال» عنوانها: «قبلني»، كان الممثلون يمثلونها للمرات الأخيرة، ويستعدون لتمثيل قصة أخرى ظهرت أول هذا الشهر، ومع ذلك فقد كان الملعب مكتظا بالنظارة، والغريب من أمر باريس أنك تستطيع أن تزورها في أي فصل من فصول السنة، وأن تختلف إلى ملاعبها وأنديتها وبيوتها التجارية، فستجدها دائما مكتظة بالناس، وستضطر دائما إلى أن تتخذ الحيطة لتبلغ منها ما تريد.
تريد أن تشهد قصة تمثيلية، فيجب أن تؤجر كرسيك في الملعب قبل يوم التمثيل. تريد أن تشتري شيئا في أحد البيوت التجارية الكبرى، فيجب أن تذهب في الصباح، أو أن تكون صبورا محتملا إن ذهبت في المساء.
ذهبت إلى الملعب بعد ظهر يوم من أيام الآحاد الباريسية، ولم أكن قد أحتطت، وكان المطر عنيفا ثقيلا، فلم أجد إلا كراسي فاحشة الغلاء، فاتخذت منها كرسيين، وأعترف بأني غير آسف على ما أنفقت؛ لأني ضحكت بأكثر من ستين فرنكا. •••
أسرة شريفة، كانت غنية ثم أصابها الفقر، تقيم في قصرها المرهون، محتملة ألوانا من الضيق، ثم تصبح ذات يوم، وإذا القصر قد بيع من أجنبي، وإذا هي مضطرة إلى أن تترك هذا القصر الذي تتوارثه منذ خمسة قرون، ولكن لهذه الأسرة شابا مسرفا في اللعب والعبث، قد أدى واجبه الوطني أثناء الحرب، وعرف في الخندق صديقا من الطبقات المنحطة أمه تبيع الفاكهة. وقد انقضت الحرب، واغتنى ابن بائعة الفاكهة حتى أصبح ضخم الثروة، فكتب إلى صديقه الشريف يقترض منه مالا؛ لأنه خسر في اللعب، وأقبل هذا الصديق يحمل إلى صديقه ما أراد، فانظر إلى هذه الأسرة النبيلة تأبى أن تقبله في القصر، وأن تضيفه أياما، حتى إذا قبلت ذلك بعد مشقة أخذت تتبرم بالفتى وتزدريه؛ لأنه لا يعرف طرائق الحياة الأرستقراطية. وكانت عمة الشاب النبيل أشد الأسرة بغضا له وتبرما به، لا تكاد تلحظه ولا تكاد تحسب لوجوده حسابا، ولكن الفتى علم ببؤس هذه الأسرة واضطرارها إلى أن تترك القصر، فأسرع فاشتراه سرا، ثم أخذت الأسرة تظهر شيئا فشيئا على هذا السر حتى علمت به، وإذا هي ألعوبة في يد هذا الشاب الذي تزدريه ولا تضيفه إلا كارهة، ولكن هذا الشاب كريم خير، فهو يعرض القصر على الأسرة لا يبغي له إلا ثمنا ضئيلا؛ هو أن «يقبل» هذه المرأة التي تزدريه وتغلو في بغضه؛ فإذا عرض عليهم هذه الصفقة اضطربوا لها اضطرابا شديدا، فأما الأسرة كلها فتقبل، وأما هذه المرأة فتأبى وتنفر، ثم تذكر أنها قد تطرد من القصر، وأن الأسرة قد تصبح مشردة، فتضطر إلى القبول مقتنعة بأنها تقدم نفسها ضحية في سبيل الاحتفاظ بالكرامة والتراث القديم، وقد استعدت لهذه التضحية كما استعدت «إيفيجيني» لتضحي على مذبح أرثميس، ثم خلت إلى الفتى، فوقفت موقف الجلال، وقالت له في ازدراء وسخرية وإذعان للقضاء المحتوم: «قبلني!» ولكن الفتى كريم، فهو لا يريد أن يقبل هذه المرأة، وإنما يكفيه أنها قد أذعنت لما يريد، وهو مستعد لأن ينزل للأسرة عن هذا القصر، ولكن المرأة قد دهشت لهذا الانصراف عن تقبيلها، وكأنها تعجب بكرم هذا الفتى، وكأنها في الوقت نفسه تسخط على هذا الكرم، وكأنها كانت تحرص على هذه القبلة دون أن تعلم بهذا الحرص، وكأنها ترى عدول الفتى عن تقبيلها إهانة لها وإصغارا لجمالها، تشعر بهذا كله شعورا واضحا غامضا في وقت واحد!
وكنت ترى الفتى يكره هذه المرأة ويريد أن يذلها، ولكنك تراه الآن لا يكرهها؛ بل يكبرها، ولا يريد أن يذلها، بل يريد أن يجلها، وإذا هو يعلن إليها حبه في هذه اللغة الشعبية الغليظة الصريحة، وإذا هي تضطرب لهذا الحب اضطرابا عنيفا، وإذا الحب قد أزال ما كان بينهما من مسافة مادية ومعنوية، وإذا هو يتجاوز القبلة، فإذا كان الصبح فهي آسفة نادمة تتقطع لوعة وندما؛ لأنها اقترفت هذا الإثم مع رجل ليس من طبقتها، وهي تعلم أن نساء من أسرتها قد اقترفن هذه الخطيئة، ولكن إحداهن اقترفتها مع رجل من رجال القصر الملكي، والأخرى مع كردينال، أما هي فقد اقترفتها مع رجل أمه كانت تبيع الفاكهة! وهي تريد أن تأخذ نفسها بأشد أنواع العقوبة، تريد أن تزهد في الحياة، وأن تذهب إلى الدير، والفتى بين يديها يعتذر ويستغفر ويعلن إليها في ضراعة ومذلة أنه سيبرح القصر حتى لا ترى وجهه البغيض. فإذا سمعت هذه الجملة غضبت غضبا لا حد له، وعنفت الفتى تعنيفا ثقيلا قائلة: «أهكذا تريد أن تسليني عن هذه النكبة المنكرة؟!» ثم فهمنا أنها تريد نوعا آخر من أنواع التسلية وفنا آخر من فنون النسيان والعزاء.
ولست أتم لك تلخيص القصة، وإنما يكفي أن تعلم أنها تنتهي بالزواج بين هذين المحبين؛ لأن شريفا إنجليزيا تبنى الفتى ومنحه ألقاب شرفه فأصبح كفؤا لعشيقته.
ولم تبنى الشريف الإنكليزي هذا الفتى؛ لا تسل عن ذلك؛ فقد يكون في الجواب عن هذا السؤال ما يفضح أم هذا الفتى، وقد ماتت ولا ينبغي أن يذكر الموتى إلا بخير.
على أني قد زرت ملاعب أخرى، وشهدت فيها قصصا أخرى، وسأحدثك عنها في فصل آخر.
Página desconocida