آه! لقد أحب أن يقرأ المصريون «أناتول فرانس» وغيره من الكتاب. لقد أحب أن يقرءوا «ألفونس دوديه»، ولا سيما قصته «نومار ومستان». لقد أحب أن يقرءوا «الكونت دي فوجيه»، ولا سيما قصته المشهورة التي هي آية من آيات البيان، وهي «حديث الموتى». لقد أحب أن يقرءوا «موباسان». لقد أحب أن يقرءوا الكتاب الفرنسيين جميعا، ليعرفوا كيف يعبث الكتاب الفرنسيون في قصصهم الروائية والتمثيلية بأعضاء المجالس النيابية وبالوزراء ورؤساء الوزراء، بل برؤساء الجمهورية، بل بأعضاء المجامع العلمية. لقد أحب أن يقرأ المصريون هذه الكتب، ليعلموا أن البرلمانات والحكومات والمجامع العلمية والهيئات السياسية في أوروبا ليست سكرا يخاف عليه أن يذوب أمام النقد، فيبالغ في حمايته والاحتياط له. ولكني قد بعدت عن القصة التي أنا بإزائها، وأنا معذور في هذا الاستطراد؛ فقد اضطررت إليه اضطرارا؛ لأن في هذه القصة عبثا بأعضاء البرلمان الفرنسي، ولنقد أعضاء البرلمان قضية في مصر.
فلننتقل إلى باريس ولنترك القاهرة لأهل القاهرة. •••
نحن في قصر فخم من قصور باريس، يسكنه رجل غني، ضخم الثروة، منقطع إلى الأعمال المالية، له مصرف، وهو في الوقت نفسه يرأس جماعة مالية كبرى؛ هو «البارون رينو»، وهو رجل متقدم في السن، ضعيف، مدمن على الكوكايين، فقد أسرف في ذلك حتى أصابته علة من علل القلب، عرضت حياته للخطر، ولا سيما إذا دهمته داهمة أو نابته نائبة. وهو في هذا الوقت تعس الحظ؛ لأن نازلة قد نزلت به فعرضته للموت وعرضت شرفه للضياع؛ وذلك أنه ضارب فأضاع رأس مال المصرف، ثم ضارب فأضاع رأس مال الجماعة المالية التي يرأسها، وهو في بيته مضطرب ذاهل يفكر في هذه الكوارث التي ألمت به، ونراه يتحدث إلى خادمه حديثا متقطعا يقطعه الضعف كما يقطعه الهم، ونراه لا يكاد يستقر ولا يثبت، ونراه لا يكاد يمسك نفسه إلا بعلبة الكوكايين يأخذ منها القبضة من حين إلى حين فترد إليه رمقا من حياة، وخادمه يتحدث في التليفون فينبئه أن امرأة تريد أن تتحدث إليه، فإذا تحدث إليها ضرب لها موعدا للقائه بعد قليل، وهو ينتظر سكرتيره، وينتظره متحرقا، وكأن هذا السكرتير قد أبطأ عليه، وهو يسخط لذلك ويتململ.
وقد أقبل السكرتير، فهو يسأله عن الأنباء، والسكرتير يقص عليه أنباء «البورصة»، ثم أنباء المصرف، ثم يقدم إليه صحيفة من الصحف قد بدأت تحمل عليه وعلى مصرفه وجماعته المالية حملة منكرة، وتذيع أسراره، وتشير إلى أن النيابة قد تحقق، فيضطرب الرجل لذلك، ولكنه قد تعود مثل هذه الصدمات، فهو يعرف كيف يحتملها، يعرف بنوع خاص كيف يخدع الجمهور ويكذب عليه، كيف يداوره ويماطله، فلم يكد يفرغ من قراءة هذا الفصل حتى أخذ يملي على سكرتيره بلاغا يكذب فيه ما أذيع عن المصرف والجماعة في لهجة قوية حازمة مقنعة حتى ليتأثر السكرتير ويقتنع، ولكن الرجل ينبئه مبتسما أن بلاغه كاذب وأن لهجته كاذبة، وأن الصحيفة صادقة وأنه قد أضاع رأس ماله وعبث برأس مال الجماعة، وأنه لم يرد إلا الخير، ولكنه لم يوفق، وأنه يعلم أنه سواء أراد الخير أم لم يرده فقد أخطأه التوفيق، ومن يخطئه التوفيق فالناس حرب عليه.
وقد دهش سكرتيره لهذا، وأصابه شيء من الجزع؛ فهو يهدئه ويبعث في قلبه الطمأنينة ويعلن إليه أنه لم يفقد كل أمل، وأنه في حاجة إلى مهلة، في حاجة إلى أسبوعين، وأنه يستطيع أن يظفر بهذه المهلة، وأن يصلح من أمره كل ما فسد دون أن يشعر بحقيقة الأمر أحد. فيسأله السكرتير: ومن لك بهذه المهلة؟ فيجيب «موران»: سكرتير رئيس الوزراء الذي نعلم أنه هو رئيس الوزراء؛ لأن رئيس الوزراء شيخ لا إرادة له ولا عمل، وقد أسلم أمره إلى هذا السكرتير، فهو الذي يدبر أمور الدولة الآن، حتى إذا سقطت هذه الوزارة فهو رئيس الوزارة المقبلة من غير شك؛ لأنه عضو في مجلس النواب، هذا الرجل يستطيع أن يمنحني هذه المهلة إذا أصدر أمره إلى النيابة سرا ألا تتعجل التحقيق، وأن تماطل وتتباطأ أياما، وهو قادر على ذلك إن أراد. فإذا ذكر له سكرتيره الواجب والأمانة والشرف ابتسم ساخرا؛ لأنه يعلم قيمة هذه الألفاظ ولا سيما عند رجال السياسة ورجال المال.
والآن وقد ذكرت لك شخصين غير صاحبنا المحامي فيحسن أن أقدمهما إليك؛ أحدهما هذا السكرتير الذي يتحدث إلى «البارون رينو»، وهو شاب في الثلاثين من عمره، اسمه «دنيال» شريف أمين وفي متعلم، بل له من العلم والأدب حظ عظيم، ولكنه فقير، أقبل إلى باريس وكان يريد أن يكون قصصيا، ولم يكن له بد من أن يكسب رزقه، فأقبل إلى مدام «رينو» بوصية من أحد أصدقائها، وتقبلته هذه السيدة قبولا حسنا، وأوصت به زوجها فاتخذه سكرتيرا له؛ فهو وفي للزوجين وفاء شديدا، وربما كان يضمر للمرأة شيئا آخر غير الوفاء ستراه بعد حين.
وأما الآخر «موران» فشاب اندفع في الحياة السياسية فأصابه الفوز فيها، وصل إلى مجلس النواب، ولم يلبث أن امتاز ببلاغته وفصاحته ومهارته السياسية، فاشترك في الوزارة القائمة حتى إذا سقطت فسيؤلف هو الوزارة المقبلة، فإذا أردت أن تعرف الصلة بين هذا الرجل المالي وهذا الرجل السياسي فسينبئنا بها «رينو» نفسه حين يتحدث بها إلى سكرتيره. يخرج غلافا مختوما ويدفعه إلى السكرتير ويأمره أن يحتفظ به عنده إلى وقت الحاجة، فإذا سأله عما فيه أجاب إنها أوراق تمس الحياة السياسية لموران، وتستطيع أن تسقطه وتحول بينه وبين أطماعه! كلا! بل تجلله خزيا وعارا، فإذا أظهر السكرتير شيئا من الدهش - لأن هذا الرجل السياسي مشهور بحسن الخلق والاستقامة والحرص على أداء الواجب - ابتسم المالي ساخرا. وإذا سأله السكرتير كيف يدبر الكيد لصديقه، أجاب: ليس صديقي، ولكنه خليل امرأتي. فلا تسل عن دهش السكرتير؛ فهو يقدس هذه المرأة ويكبرها ويراها فوق هذه الدنيات، ولكن الزوج ينبئه بأنها غير ما يظن، وأنها امرأة تستمتع بجمالها وشبابها وتأخذ بحظها من اللذة، وأن الصلة الزوجية بينهما منقطعة منذ سنين، وأنها قد خانته مع كثيرين، وهي تخونه مع هذا الرجل منذ سنتين، والناس جميعا يعرفون ذلك ويتحدثون به، فلا أقل من أن يؤدي له «موران» هذه الخدمة فيخرجه من هذا المأزق الذي اضطره إليه سوء الحظ.
وقد أقبلت سيدتان، إحداهما تعنينا قليلا وهي «مدام دي فونتانج»، أقبلتا فخلت إحداهما إلى البارون وأخذت تضرع إليه في أن يرد إليها الأوراق التي يحتفظ بها والتي تمس الحياة السياسية لموران، وأخذ هو يرفض ويلح في الرفض، ثم تقبل امرأته «ماري تريز»، وهي امرأة جميلة رشيقة خلابة، تعيش مع زوجها عيشة الجوار لا عيشة الزواج، منصرفة عنه إلى لذاتها وأهوائها، وهي الآن مقبلة من السباق، فهي تقص أمره على صاحبتيها.
ثم ينصرفن ويقبل رجل من أعضاء الجماعة المالية قد بلغه النبأ السيئ، فجاء مضطربا ساخطا يلوم ويسرف في اللوم، والبارون هادئ مطمئن يسخر منه ويعبث به. وقد دق التليفون، فإذا أسرع إليه السكرتير عاد فأنبأ البارون بأن المصرف يطلبه فورا؛ لأن الشرطة قد ذهبت إليه وهي تريد أن تبحث وأن تحقق. يهم بالانصراف، وقد أقبلت سيارة، فيسأله صاحبه من في هذه السيارة، ثم ينظر من النافذة فيرى «موران»، وإذا هو قد اطمأن وابتهج؛ لأنه يقدر أن «موران» يستطيع أن يصلح من أمر المصرف والجماعة، ولكن القوم جميعا ينصرفون ويدخل «موران» فلا يجد أحدا. ثم تأتي «ماري تريز» فإذا هي تلقاه لقاء المحبة المشتاقة المتلهفة، وإذا هي مسرفة في ملاطفته والعناية به؛ يريد أن يشرب شيئا من النبيذ فتسقيه كأنه الطفل، يريد أن يجلس فتقدم الوسائد وتحيطه بضروب الرفق والعناية، كل ذلك في دعابة وخفة وفي شوق ولهفة، وهي تتحدث عن الموعد المقبل وعن اللذة المنتظرة، وهو يجيبها متلطفا مداعبا، ولكنه في هدوء كأنه مشغول البال، وهو مشغول البال حقا؛ فقد عرف ما كان من أمر البارون وإشرافه على الخطر، وأقبل ينذر صديقته يريد أن يحميها، فهو ينصح لها أن تسافر من باريس، ويلح عليها في أن تغيب أشهرا، وهي تأبى لأنها لا تريد أن تفارقه، وهي تؤثر كل شيء على هذا الفراق، وهو يلح ويبالغ في الإلحاح حتى تعده بالتفكير والروية.
ولا يكاد ينصرف حتى يعود الزوج، فتهم هي أن تنصرف، فيمسكها زوجها ويقص عليها كل شيء، ويعلن إليها أنه إن يكن قد أنفق ما أنفق وتورط فيما تورط فيه، فقد بذل ما استطاع ليضمن لها حياة رضية سهلة. ألم ينفق مائتي ألف فرنك لزينتها في هذه السنة! ألم ينفق نصف مليون من الفرنكات لحفلاتها في هذه السنة! أما هي فتزعم له أنها لم تطلب شيئا من هذا، وأنه لم يفعل هذا إلا لمنفعته الخاصة؛ لأنه أراد أن يظهر مظهر الرجل الغني الذي يبعث على الثقة، ثم تغلظ له في القول وتتهمه بالضعة والاختلاس وما إلى ذلك، ويحتمل منها هذا كله مطمئنا ساخرا، ثم يطلب إليها ما كان يريد وهو أن تسعى عند «موران» ليؤجل التحقيق، فإذا أرادت أن تعتذر صارحها بما يعلم من أمرها مع هذا الرجل، وبأنه قد أنفق عليهما وهيأ لهما ما استمتعا به من لذة، فالحق عليهما الآن أن يعيناه، أما هي فتأبى الإباء كله؛ تأبى لأنها لا تريد أن يسعى صاحبها في شيء دنيء كذا، وتأبى لأنها لا تريد أن يشعر صاحبها أنها لا تحبه لنفسه بل لمركزه وسلطانه. تأبى وتعرض حليها، وتعرض أن تقترض المال، ولكن زوجها لا يريد إلا هذا السعي، فإذا رأى إصرارها على الإباء ذكر ما عنده من الأوراق، وأنذر بنشره في صحيفة من الصحف، وإذا زوجه قد سخطت عليه سخطا لا حد له؛ فهي تهينه وتزدريه وتنذره، وهو يجيبها بأنه إن قدر له أن ينسف فلن ينسف وحده بل سينسف معه خليلها، فتجيبه: بل سننسف جميعا. •••
Página desconocida