El sonido de las profundidades: lecturas y estudios en filosofía y psicología
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Géneros
أول فرق هو تعزيز التنوع. والفرق الثاني هو تربية الأفراد في حالة من الوعي الذاتي. وغني عن القول أن التنوع ليس هو كل شيء، وأن للتنوع حدا؛ وهل علينا أن نحمي بائعي المخدرات باسم التنوع؟! على أننا كثيرا ما نغفل المغزى الحقيقي للتنوع، وأهمية وجود الاختلافات والبدائل بحد ذاتها، فهي لا تمنحنا اختيارات أكثر فحسب، أو تكسر لنا الرتابة فقط، بل هي تؤثر على الكيفية المباشرة لخبرتنا، وتغير علاقتنا بأيما شيء اخترنا أن نملكه أو نفعله أو نكونه. هذا هو ما يفوتنا إدراكه عندما نعرف الحرية بأنها مجرد غياب الإحباطات المحسة، أو حين نظن أن المرء إذا نال كل ما يريد فلا فرق بين أن يكون مختارا أو غير مختار. إن الخير الذي يختاره المرء بإرادته والذي يملك دائما إعادة النظر فيه، هو خير ينتمي إليه بطريقة تختلف عن الخير الذي يتلقاه بطريقة سلبية. إنه مسئوليته.
وهذا يعني فائدة أخرى للتنوع الديمقراطي؛ لسنا نقول إن الديمقراطية تجعل الناس أكثر حكمة أو فضيلة، ولا هو بوسع أحد أن يجزم بذلك، غير أن الديمقراطية تدعو الناس إلى أن تفكر باحتمال وجود بدائل أخرى للطريقة التي يحكمون بها، وهي إذ تذيب الحواجز الطبقية والامتيازات الموروثة التي تفرق بين الناس فإنها تتيح للفرد معرفة المزيد من أصناف البشر وألوان الخبرات، وترفع من قدراته على التكيف مع كل ما هو جديد ومختلف. بذلك فإن الديمقراطية السياسية وحراكها الاجتماعي تفضي بالفرد إلى درجة أعلى من الوعي بنسبية أساليبه الحياتية ودرجة أعلى من الوعي الذاتي في اختيار المعايير التي يعيش بها، الأمر الذي يهيئ له وفرة من الخبرة الشخصية المكثفة، ويعد هذا الإسهام الديمقراطي في إثراء خبرة الفرد من أهم أسباب تقدم الحضارة الليبرالية.
لا يخلو التمادي في هذه الاتجاهات من مخاطر (وهو مما يفسر كثيرا من ترددنا حول ما تعنيه الثورة الديمقراطية)، فالموضات والتقاليع تشغل وتشتت جماعات أكبر في المجتمعات الديمقراطية الحديثة، والحراك الاجتماعي رغم أنه يوسع مدارك الإنسان وينوع خبراته، فهو يقصر إحساسه بالزمن، فحين ينبت مواطنو الديمقراطية عن الرتب الثابتة والمحطات المحددة (ولكل منها أسطورتها وأساسها المنطقي وحس بوظيفتها التاريخية) فإنهم يواجهون إغراء غريبا بالحياة التجريبية، وفق الطبعة الأخيرة، كما لو لم يسبقهم بشر في الحياة من قبل. غير أن هذه مخاطر الحداثة لا الديمقراطية ، ومن الممكن السيطرة عليها؛ فمن شأن مرافق مثل المحاكم والنقابات المهنية ودور العبادة والجامعات أن تكون ذخرا من الخبرة المدخرة، وبمقدورها في المجتمعات التي تمنحها استقلالا عن الإلحاحات السياسية العابرة أن تعمل كوقاء ضد طغيان الحاضر الغرار. إن الحداثة تتضمن ثورة في الوعي الإنساني. والترتيبات الاجتماعية الديمقراطية تعكس هذه الثورة وتتقبلها، ولكنها تقدم الأدوات التي ترشدها وتسيطر عليها. وليس هناك نظام منافس للديمقراطية في الوقت الحالي يملك هاتين الصفتين بنفس الدرجة.
حقيقة الأمر أن مخاطر الديمقراطية هي، ببساطة تلك المخاطر التي ينطوي عليها الإيماء للناس بأن ليس هناك أجوبة عن كل شيء. فالديمقراطية تجسيد سياسي للمبدأ الذي يحكم المجتمع العلمي أيضا، وهو أن التساؤل ينبغي أن يظل مفتوحا، وأن ليس ثمة بيانات مقدسة، وليس هناك إجابات نهائية. إن الرياء والظلامية والأكاذيب تمثل بالطبع شطرا كبيرا من غذاء معظم الديمقراطيات؛ فالإنسان حيوان خائف من الحقيقة. وإنها لتكون معجزة لو استطاع أي نظام اجتماعي أن يغير هذه الحقيقة وشيكا. غير أن مؤسسات الديمقراطية الليبرالية تتفرد في أنها لا تتطلب من الناس أن يعتقدوا اعتقادا نهائيا في أي شيء عدا منهج النقد الحر نفسه والتغيير السلمي، والأخلاق التي يقوم عليها هذا المنهج. الولاء الأعلى في مثل هذا النظام الاجتماعي هو لاستمرار البحث عن الحقيقة كيفما كانت، لا لاعتقادات بشرية مؤقتة ولا لمؤسسات زائلة. حقيقة الأمر أن الأساس المنطقي للديمقراطية هو بالضبط أنها في غنى عن الادعاء الأحمق المغرور بأنها تقوم على حقائق معصومة، وبوسع الناس أن تعتقد في الديمقراطية وتبقى رغم ذلك موقنة بأن الحقيقة أكبر من أي شيء يظنون أنهم يعرفونه.
ويبقى رغم ذلك سؤال لعله أشد الأسئلة إزعاجا لنا وتنغيصا:
الحرية، التنوع، الوعي بالذات، الوعي الحصيف بأن البشر غير معصومين، الولاء لمبدأ التساؤل المفتوح، كل هذه فضائل واضحة، غير أنها فضائل راقية رفيعة، فهل ترفعت الديمقراطية الليبرالية وتأبت على المنافسة؟ هل لديها أي شيء تقوله، لا لأولئك الذين عرفوها بالفعل وذاقوا حلاوتها، بل للأغلبية البشرية الذين ينبغي أن يهتدوا إليها وينشدوها إذا كان للحريات الإنسانية أن تعم قليلا في العالم وتزداد حصتها عما هي عليه الآن؟
من الأوهام المدمرة لدى الكثير من الليبراليين الغربيين ظنهم بأن قيم الثقافة الليبرالية هي قيمنا نحن (الغربيين) وأنها لا تصلح لأولئك الذين ينظرون إلى العالم على نحو مختلف، ولا تصلح على الإطلاق لمن يعيشون حياة فقيرة همجية قصيرة. ورغم أن المستعمرين قد روجوا هذه النظرة لأغراض مختلفة فقد شاركوا فيها، وهي نظرة تنم عن فهم مغلوط لطبيعة القيم الليبرالية؛ الحرية والتنوع والوعي بالذات والبحث عن الحقيقة. كل أولئك خبرات مرهقة ومن الصعب أن يتصور مزاياها من لم ينعم بها قط، ولكن على الرغم من المتاعب التي تجرها هذه القيم فإن الدلائل، فيما أرى، تشير إلى أن معظم البشر سوف يسعدهم أن يحوزوا عليها، وسوف يرون حياتهم قد ارتقت بها. تتجسد مشكلة القيم الليبرالية المميزة لا في أنها ضيقة الأفق بل في أن الشعوب المقهورة لديها احتياجات أشد إلحاحا: الدواء والتعليم والخبز والتحرر من المرابين والانعتاق من ربقة الفساد والأنظمة الاستغلالية. تعد الأنظمة غير الليبرالية شعوبها بهذه التحسينات المادية الأساسية وتقدمها لهم في أحيان كثيرة. ومهما تحدثت البرامج الليبرالية عن الحرية دون أن تمس الفساد والاستغلال، فإنها ستكون عاجزة عن تقديم أي شيء بما فيه الحرية ذاتها.
ولكن ماذا نقول لأولئك المقهورين تحت إمرة الحكومات المتسلطة، وكيف نقنع هؤلاء الرازحين تحت وطأة المعاناة المتلهفين لتوفير احتياجاتهم الأساسية. إن البرامج الليبرالية قادرة هي أيضا على تحسين وضعهم المعيشي. وإن طريق الليبرالية، رغم كثرة تعاريجه والتفافاته، هو أفضل من طريق الاستبداد.
يمكن أن نقول لهم، ببساطة شديدة، إن طريق التسلط طريق ينغلق وراء سالكيه، طريق لا رجعة فيه، بينما تمتاز الديمقراطية بأنها تسمح بالمراجعة وإعادة النظر. فاختيار نظام تسلطي هو بمثابة الرهان بكل شيء في رمية نرد واحدة. فإذا كان الرهان خاسرا فلا مخرج إلا من خلال العنف، وهو اتجاه لا يرجى منه خير كثير. أما اختيار الطريق الليبرالي، وإن كان لا يقدم ضمانا ضد الأخطاء، فهو يقدم ضمانا ضد الخطأ القاتل الذي لا يقبل أي تراجع مأمون أو تصحيح سلمي.
على أن هناك سببا آخر لاختيار الديمقراطية، وهو أن الديمقراطية تصنع الديمقراطيين.
Página desconocida