عائدة تتذكر ...
أي هذا المار أمام معاهد التعليم، ما أجهلك بما وراء الجدران من متزاحم العواطف ومتضارب الانفعالات! هناك هيئة اجتماعية صغيرة. والعمر الذي تحسبه أليف الصفاء والغفلة والهناء إنما هو كالشباب والكهولة والشيخوخة أسير حمى الحياة. هناك جميع صنوف الناس: المتين والمتطير، المفكر والأحمق، الشجاع والجبان، الرصين والطائش، الشخصية الممتازة والشخصية العادية، النفس الأبية الشماء والنفس الدعية المتبذلة. وما الطفولة إلا مقدمة قد يكفي أن تطالعها أحيانا لتلم إلماما سريعا بما ضمنه الكتاب من تفصيل وإسهاب.
كانت عائدة ذات طبيعة غنية خصبة. تحب الجري واللعب والضحك، أي بنية لا تحب ذلك؟ وتبتكر للهو أساليب طريفة ترفعها في تقدير رفيقاتها، ولكنها كانت وحيدة الروح. وكثيرا ما تنزح عن ميدان اللعب إلى الحجر المنفرد في أطراف الساحة، فتجلس هناك ناظرة إلى البحر البعيد، إلى زرقته الفيحاء واستدارة الأفق المخيم عليها، متمتعة بجمال الطبيعة ومتهيبة إزاء روعتها جميعا، فترى السفن، وقد تضاءلت بشاسع المسافة، مارة في تلك الزرقة القصية بكياسة ورشاقة، تترك وراءها خطا أبيض طويلا لا تعرج فيه، عندئذ تمعن عائدة في تفحص ذلك الخط المستقيم، كأنما هي تقابل بينه وبين خط آخر رسمه في داخلها مرور سفينة من سفن أحلامها شقت أمواه نفسها العميقة.
كانت تحسن ركوب الخيل على حداثة سنها، وقد قطعت على ظهر الجواد سهولا وجبالا نبضت حياة التاريخ تحت الأرض منها، وبين الأشجار، وعلى الصخور وحول القمم. ما شهدت جلال الطبيعة إلا عادت إليها تلك الذكريات مع صدى الأغاني الوجدانية التي ينشدها أهل المضارب في الظلام، فتثير بين ستائر الخيام أنة جزع وغرام. أمام البحر ها هي شجية تتذكر، فتنشد من الألحان البدوية ما تهتز له أوتار قلبها. •••
تكونت بينها وبين إحدى الراهبات، على مرور الأيام، صداقة حارة تنشأ أحيانا بين النساء الجامعات بين غزارة العواطف وحدة الذكاء، ولعل تلك الراهبة كانت وحيدة بين الراهبات وحدة عائدة بين التلميذات.
لم تكن الأخت أوجني من معلمات عائدة، فهذه من بنات «الداخلية» والأخت أوجني تتولى تدريس أصغر الصفوف في «الخارجية»، وليس بين المدرستين غير الصلة الحجرية؛ لأنهما في طرفين متباعدين من بناء الدير الواحد، فكانت الفتاة تقول لنفسها: «لو كانت هي معلمتي لتفوقت في صفي إرضاء لها، بدلا من أن أرغم الآن على العمل تحت مراقبة راهبة لا أحبها، وإن قالت لنا الرئيسة إنها حفيدة مارشال فرنسوي. ما أقل اهتمامي بك وبحفيدتك أيها المارشال العظيم! وكم يسوءني أن أطيع حفيدتك، أيها المارشال العظيم! وكم أكره الواجب؛ لأن حفيدتك تدعو إليه، أيها المارشال العظيم! ما أجهل الناس بأساليب الإخضاع والتعليم! إذا كان وجه الطاعة والواجب عابسا، كما يقولون، ألا فلتأت الدعوة إليها من أصوات نعز منها الوجوه في حالتي البشاشة والقطوب ...»
لم تكن عائدة في سن أو في درجة عقلية تستطيع معها الإفصاح عن رغبتها بمثل هذا الكلام، وإنما ذلك ما كان يخالج ضميرها. والتعبير عن الشعور إن لم يبرز بيانا منسقا واضحا فقد برز زفيرا حارا؛ لذلك كانت الصغيرة تصغي إلى صوت فؤادها وتتنهد.
قل ما اجتمعت الصديقتان في غير الكنيسة؛ حيث تحتشد عشرات الراهبات ومئات التلميذات من داخليات «بانسيونر»، وبنات الميتم، وبنات المشغل، وبنات التفصيل، فتدخل كل جماعة في الوقت المعين وتجلس في مكانها تحت رقابة المعلمات. وعند انتهاء الصلاة تنصرف كل جماعة في دورها فلا يختلط الفتيات، ولا يتحاذين، وإن تلاقين صدفة فلا يتخاطبن. يعشن غريبات في دير واحد؛ لأن هيئتهن ... الهيئة الاجتماعية بما بين أعضائها من فروق المراتب.
وقد تلتقي الصديقتان صدفة في الحديقة أو في أحد الممرات فتتبادلان الأخبار بسرعة، بينما العيون تتحدث بلغتها المختلفة، غير أن عائدة لم تكن لتقنع بهذه اللحظات النادرة، فتتحين الفرص لتذهب خلال نزهة الظهر، ولو دقائق، إلى الجناح الآخر من الدير وتدخل على الأخت أوجني وهي تطرز وحدها في المدرسة منتظرة وصول تلاميذها وتلميذاتها.
ما أخطر هذه المجازفة وأعظم هذه الجرأة! ولكن الفتاة كانت تكافأ؛ إذ ترى أمارات السرور على وجه الراهبة وتسمعها قائلة: «انظري إلي يا عائدة!» ثم تقول: «يجب أن تتعلمي الخضوع للقانون وألا تعودي إلى مثل هذه «الفلتات». والآن أستودعك الله، اذهبي يا ابنتي، اذهبي يا صغيرتي ولا تنسيني.»
Página desconocida